أب حاور ابنه السلفى

- لو عرفتم شرع الله يا كفرة لفهمتم ما أقوله وأفعله.

هكذا قلت لى أنت يا بنى ذات ليلة تحدثنا فيها طويلا عن قضية الشريعة، بينما نور شحيح ينام تحت أرجلنا. أنت كنت تقول: إن بلدنا يجافيها، والسلطة تحاربها، وأنا كنت أقول لك فى صراحة تامة: أنا مع تطبيق الشريعة كما جاءت فى القرآن الكريم، وكل ما لا يخالفه مما نسب إلى الرسول الكريم من أقوال، وكل ما تواتر عنه من أفعال، لكننى ضد «شريعة الخلق» التى يطرحها بعض مشايخك ويزعمون أنها «شريعة الخالق»، فمنحوا بذلك أقوال وتخريجات البشر قداسة وقدموها دون أن يدروا على وحى السماء، واستعاروا ما أنتجه الأوائل عبر إعمال العقل فى مشكلات واقعهم على أنه «نقل»، شأنه شأن التنزيل.

يومها تبرمت أنت وقلت: مشايخى يقولون عكس ذلك، ويطلبون منا أن نتحرى الدليل الشرعى من القرآن والسنة، فأجبتك فى ثقة: بالطبع هم سينكرون أنهم يوصون بهذا من الناحية النظرية، فإن اكتشف أحد فى أدلتهم غير ما نزل من عند ربنا، سيقولون: حاشا لله، لكن من الناحية العملية لو قمت بدراسة خطابهم وخطبهم وفتاواهم وتخريجاتهم وآرائهم، ستجد أنها تذهب إلى النص الأصلى عبر طبقات متراكمة من أقوال البشر وأفهامهم، وإذا أردت أن أقدم لك دليلا على هذا سأذهب معك لأحضر درسا أو اثنين، ومعى ورقة وقلم، لأسجل لك كل الملاحظات التى تبين صدق ما أقوله لك.

تابعتنى صامتا، ثم نفخت وأبديت تبرما، ورحت تتقلب فى مكانك كأنك تقعد على الجمر، وعدت تقول: يكفيهم أنهم يسعون إلى أن يكون شرع الله حاكما بيننا.
قهقهت أنا يومها، وهزت ضحكاتى هالات النور فانسالت على الحوائط، وقلت لك: الشريعة كما أفهمها لم تغب يوما عن الشعب المصرى، فهى مطبقة كاملة، ومتجسدة فى «قانون الأحوال الشخصية»، حيث أحكام الزواج والطلاق والميراث. أما بالنسبة لـ «الحدود» فهناك «التعزير» الذى استبدل بقطع يد السارق، وجلد الزانى وشارب الخمر، السجن، وهذا من حق «الحاكم»، كما اتفق الفقهاء الأوائل، وحتى لو لم نرد التعزير هذا، فإن الشروط الصارمة والقاسية التى وضعت فى سبيل تطبيق الحد تكاد أن تقول لنا بوضوح: إن الحدود للردع، والقانون المصرى الحالى لا يكافئ السارق، ولا يحتفى بالسكير، ولا يبارك فعل الزانى، إنما يعاقبه، علاوة على أن الشريعة «حقوق» قبل أن تكون «حدود» لكن المتعجلين والجهلاء وتجار الدين يتلاعبون بعقول بسطاء الناس، ويصورون لهم الأمر على أن الدين فى خطر، وأنهم هم حراسه الأوفياء.

وحكيت لك يومها قضايا عديدة قرأتها فى صفحة الحوادث عن ضبط سكارى فى الشوارع، وسجن لصوص، وشنق قتلة، ولما وجدتك مصغيا فى صبر عاجلتك بما وددت دوما أن أقوله لك: «الشرع يُبنى فى النفوس قبل النصوص، وفى الواقع المعيش وليس فى بطون الكتب التى يسترزق منها شيوخك».

وهنا تبخر صبرك وصرخت مستنكرا: «يسترزقون!!!» فقلت لك فى هدوء: وأنا أربت كتفك لعلك تهدأ: يا بنى لا تملأ نفسك بالأحقاد على من حولك، فكل الناس فى بلادنا يمتثلون للشريعة عن طيب خاطر، من دون تشدق ولا مظاهر كاذبة وفارغة، ودون أن يجلسوا طول الوقت ليتحدثوا عن اعتزازهم بالشرع، لأنه ذائب فى نفوسهم وقلوبهم، لكن المشكلة فيمن يثرثرون ليل نهار ويذرفون دموع التماسيح على «الشريعة الغائبة» و«المجتمع الجاهلى» و«الدولة المارقة» التى يجب أن يفتحوها من جديد، ليحطموا أصنامها وينشروا فيها الإسلام الذى يحملون توكيله، ويعرفون وحدهم، أركانه، ويحملون بمفردهم مفاتيح الجنة التى وعد بها الله المؤمنين. إن هؤلاء يذكروننى بالحكمة التى تقول: «احذر المرأة التى تتحدث كثيرا عن الشرف»، والآن أقول: «احذروا الذين يتحدثون عن تدينهم ويتباهون به» فالمتدين الحقيقى يذوب الدين فى سلوكه، ويلمسه الناس، ولا يكون فى حاجة إلى الإعلان عنه.

وضايقك هذا التشبيه فزفرت فى تبرم، ولولا بعض حياء أو هيبة منى لوجهت لكمة قوية إلى وجهى وتركت الدم يلون بقع الضوء السارية التى تبرق فيها حروف كلامنا، لكننى وجدتها اللحظة المناسبة لأسكب فى رأسك كل الكلام المختزن فى صندوق أحزانى عليك وأنا أراك تشرد بعيدا عما تمنيته لك، فاقتربت منك وواصلت: «يعلم أغلب شيوخك أنهم يكذبون، لكن يريدون أن يحصدوا أى مكاسب سياسية باسم الشرع، حتى لو على حساب الأخلاق التى بعث الرسول ليتممها، أو على حساب حق الناس فى أن يكتفوا من الغذاء والكساء والدواء والإيواء والتعليم والترفيه وهو جوهر الشريعة وعينها، لكن هذا يتطلب أفعالا لا أقوالا، وهم مفلسون ليس لديهم سوى الكلام الفارغ، والبحث عن المناصب والكراسى والمغانم باسم الدين. يقرأ هؤلاء القرآن الكريم، ويفهمون أنه «الأصل» وأنه «الوحى» وأنه «النص المؤسس» للإسلام، ويعلمون أنه كتاب هداية فى المقام الأول، وأن التشريعات التى وردت فيه لا تزيد على 200 آية من بين 6236 آية تمثل «المصحف الشريف» كله، ويتلون «اليوم أكملت لكم دينكم» لكن يتناسونها ويكملون هم الدين زعما من عند أنفسهم، ويوهمون عوام الناس أن الدين مهجور، حتى يثيرون حميتهم الدينية فتحشدهم صفوفا متزاحمة أمام صناديق الانتخابات تصوت لصالح تجار الدين.

كنت أتكلم بحماس شديد، حتى تفصد العرق من كل مسام جلدى، وراح يتقاطر فوق خيوط الضوء فيبللها، ويعارك دوائر اللهيب التى كانت تحوم حول غضبك، فيرطبها قليلا. وكنت تتحمل كلاما ربما تسمعه للمرة الأولى منى، حتى وصلت بك إلى لب المشكلة وقلت: «التشريعات قد يبدلها أو يوقفها تغير الأحوال وإلا ما أوقف سيدنا عمر حد السرقة فى عام الرمادة، وأوقف الفقهاء ملك اليمين، أما العقيدة فهى الثابتة، وآفة من تستمع إليهم أنهم جعلوا أغلب الأشياء فى باب الاعتقاد، ففتحوا نوافذ لا نهاية لها للتكفير».

نظرت إلى، ونفخت وصرخت، وسللت ذراعيك من جنبك ومددته أمامى وفردت كفك عن آخرها:
- كفى.. كفى.. كفى.
ورحت تركل الحائط بقدمك وتقول:
- هذا فراق بينى وبينك.
أدركت وقتها أننى قد تركت لهم ففعلوا بك الأفاعيل، وقمت لأخذك فى حضنى لأستعيد بك أيام ألفك ووداعتك، لكنك نفرت، وجريت نحو باب الغرفة، وصفقته وراءك، وسمعت قرقعة قدميك على سلم العمارة. جريت وراءك لكن لم ألحق بك، خاننى عظمى فوقعت على البسطة المربعة فى الدور الثالث. لكن صوتى وصل إليك:
ـــ ألم ينته الوحى بعد محمد؟
وجاءنى صوتك زاعفا:
ـــ بلى.
ـ هل معك أو مع أحد من شيوخك توكيل من السماء؟
وجاء صوتك واهنا:
ـــ لا.
فقمت، وفردت جسدى، وأمسكت السور بكلتا يدىَّ، وصرخت بكل ما أوتيت من قوة:
- إذن، فليكمل العقل المسيرة مع الوحى.
لكن صوتك ضاع، لم أعد أسمعه، حتى قرقعة قدميك تلاشت فى صفير الريح بمدخل البناية العتيقة. وفى اليوم الثانى كنت أنا فى طريقى إلى مستشفى قريب، لأجبر كاحلى المشروخ، بينما كنت أنت فى طريقك إلى الجبال البعيدة، لتنضم إلى مجموعة تحمل السلاح، وتتوعدنا جميعا بالنار والدم والخراب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعلقك يزيدنا ابداع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting