عبد الناصر والعالم - محمد حسنين هيكل




مقدمة
بقلم محمد حسنين هيكل

 
وراء هذا الكتاب قصة تعود إلى سنة 1957

 
في بداية تلك السنة اللاحقة مباشرة لحرب السويس كان اسم جمال عبد الناصر يدوى فى آفاق الدنيا ، ولم يكن رمز الحركة الوطنية المصرية والقومية العربية فحسب ، ولكنه كان أيضا رمز حركة التحرير الوطنى التى كانت رياحها وعواصفها تتجمع لتهب على كل القارات المتطلعة لغد جديد : آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

 
فى ذلك الوقت تلقيت أول عرض عالمى بأن أكتب قصة " عبد الناصر والسويس " : لكنى ترددت لأن الحوادث كانت ساخنة وملتهبة ، كما أننى كنت مستغرقا بالكامل في ملاحقة فترة التحولات السياسية والاجتماعية والدولية التى كانت تهز المنطقة العربية وما حولها هزا لسنوات طويلة مازالت معنا حتى هذه اللحظات .

 
وخلال هذه الفترة لم تتوقف محاولات إقناعى بأن أكتب شيئآ آخر - غير المقالات الأسبوعية- يمكن أن تضمه دفتى كتاب ، ثم يحمله رف مكتبة يبقى عليها لعمر أطول - قليلا- من عمر جريدة سيارة يقرؤها الناس فى الصباح ثم ينسونها في المساء !

 
ولم يكن لدي الوقت . وربما لم تكن لدى الأعصاب لأننى كنت وما زلت أعتقد أن الكتاب مسئولية خاصة، تقتضى توفر استعداد آخر لم أكن واثقا أنني أملكه .

 
وظلت الفكرة تجيء  وتروح على هذا النحو سنوات ...

 
حتى 28 سبتمبر 1970.

 
وبعد رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وجدت نفسى تحت ضغوط شديدة لكى أكتب عنه ، وكانت الاقتراحات تقدم نفسها إلى وكأنها دعوة إلى واجب لايحق لى أن أتحلل منه أو أتأخر عنه.

 
وفي تلك الأيام لم أكن- من ناحية نفسية بحتة- على استعداد، وحاولت أن أقنع كثيرين بأنه قد يكون من الأنسب أن أترك هذه المهمة لغيرى على أن أضع تحت تصرفه ما يكون لدى من حقائق ووثاثق احتفظت بها في ذاكرتي أو على الورق في الفترة ما بين يوم 18 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 وهى فترة كان لى فيها الحظ والشرف بملازمة جمال عبد الناصر والحياة بالقرب منه ومتابعته على المسرح ووراء كواليسه بغير انقطاع . وكانت إلى جانب ذلك سنوات حوار لم يتوقف معه فى كل مكان وفي كل شىء.

 
ولكنى أحسست أن ما حاولت أن أقنع به كثيرين لم يكن مقنعا حتى لى، فإن بعضا من الذين راحوا يكتبون عن جمال عبد الناصر كانوا يأخذون ما أضعه تحت تصرفهم من الوقائع ثم يتصرفون فيه كما يحلو لهم . وهذا منطقى، لأن بعضهم مقيد باعتبارات معينة، كما أن بعضهم الآخر لديه أفكار مسبقة، وكانت عقدة المسألة أننى حين أعطى ما لدى لغيرى فإن ملكيته تنتقل إليه- وذلك لا أعترض عليه ، ولكن العقدة تستحكم في أنني أفقد في نفس الوقت أى حق في توجيه استعماله توجيها أعتقد باتساقه مع الحقيقة- وذلك ما كنت أعترض عليه أحيانا .

----------------------------------------

 
واشترك عدد من الأصدقاء فى إقناعى بأننى لا أستطيع أن أتقدم بشهادة للتاريخ بالوساطة ، أى عن طريق أن أحكى لغيرى ، ثم ينقل هو للناس ، خصوصا إذا كنت أنا من الأصل كاتبا محترفا لا عمل لى غير أن أقدم للناس ما لدى من وقائع أو أفكار أستخلصها من عملى الصحفى ... والصحافة في صميمها تاريخ تحت الصنع!

 
وكان بين الذين حاولوا إقناعي صديقان :

 
أولهما دنيس هاملتون رئيس التحرير العام لمجموعة صحف طومسون وبينها جريدة التيمس اليومية، والصنداي  تيمس الأسبوعية .

 
وكان ثانيهما هو ساى سالزبيرجر أحد رؤساء تحرير جريدة نيويورك تيمس .

 
وتحاورت مع الإثنين طويلا، في لندن وفي باريس في شتاء  سنة 1970 كان رأيهما أنه من الضرورى أن أكتب .

 
وقال لى دنيس هاملتون مرة :

 
- من غيرك يستطيع أن يكتب قصة حياة جمال عبد الناصركاملة؟ "

 
وقلت :

 
- قد أستطيع بغير تواضع وبغير ادعاء أن أقول : أنا ، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة وإنما هناك نواح عديدة لابد أن أضعها في اعتبارى :

 
من ناحية فإن قصة جمال عبد الناصر مازالت مستمرة باستمرار التيار الذى قاده .

 
ومن ناحية أخرى فإن العالم العربى يعيش في أزمة خانقة . وقصة حياة جمال عبد الناصر قد تفجر الآن مالا داعى لتفجيره فى مصر أو فى العالم العربي .

 
ومن ناحية ثالثة فإنني مازلت- عاطفيا- تحت صدمة الرحيل ، ولست أريد أن أكتب مرثية في جمال عبد الناصر وإنما أنا أحلم بأن أكتب تاريخا ... أو على الأقل شهادة يأخذها التاريخ في تقديره عندما يحكم ويقرر ".

 
وقال دنيس هاملتون :

 
- لابد أن تكتب ... أكتب في أى شئ يتصل بقصة حياته ... أكتب عن الصراع على الشرق الأوسط ... أكتب عن أزمة الشرق الأوسط ... لابد أن تكتب ولا تستطيع أن تعفي نفسك من هذه المهمة!

 
-------------------- 

 
وعدت إلى مصر وخاطر الكتابة معى ... ولكن ماذا أكتب عن جمال عبد الناصر " وكيف ؟

 
وطرأت لى فكرة الإطار العام لهذا الكتاب .

 
إننى لا أريد أن أكتب قصة جمال عبد الناصر كاملة .. ليس الآن .

 
ولا أريد كتابة قصة الصراع على الشرق الأوسط ... ليس الآن .

 
ولا أريد كتابة قصة أزمة الشرق الأوسط ... ليس الآن .

 
وهكذا : وصلت إلى فكرة الإطار العام لهذا الكتاب عن طريق الاستبعاد . وليس عن طريق الاختيار الأول .

 
فكرت أن أكتب عن عبد الناصر وعمالقة عصره ، وكان عبد الناصر عملاقا ، وكان عصره عصر عمالقة التقى معهم جميعاً ، بالاتفاق أو بالاختلاف ، ونشأت عن لقائه بهم صداقات وصراعات تركت أثرها على العصر كله.

 
كان ذلك يعفينى من أسباب للحرج شديدة .. بينها ضرورات السرية التى مازال يتحتم أن نراعيها ونحن مـازلنا في معركة مصير.

 
ثم إن ذلك كان يعطينى الفرصة لمس جوانب إنسانية من حياة جمال عبد الناصر وحياة غيره من عمالقة العصر كما رآهم وكما رأيتهم .

 
وعرضت الفكرة على بعض من أثق فى رأيهم وبينهم دنيس هاملتون وساي سولزبيرجر وكانت حماستهم لها غلابة .. واستسلمت .

 
وفي ستة شهور من مارس سنة 1971 إلى سبتمبر 1971 سلمت الكتاب بالإنجليزية للناشر البريطاني الذى تولى أمر نشره ، وإذا الكتاب يلقى ما لم أكن أتوقعه ، وإذا هو على الفور يترجم إلى أكثر من عشرين لغة بينها الفرنسية والإيطالية والأسبانية واليابانية والألمانية والسويدية والأردية والهندية والصربية والبرتغالية... ولا أذكر ماذا أيضا .

 
وكنت حريصا على أن تنشر الفصول المسبقة من الكتاب في الصحافة العالمية على موعد الذكرى الأولى للرحيل... سبتمبر 1971، وقد كان ، برغم متاعب سببتها للناشرين بهذا الطلب الملح .

----------------

 
ومع أني قدمت للنشر المسبق فى الصحافة لفصول من هذا الكتاب باعتذار رجوت فيه  أن يحكم عليه فى إطاره ، فهو ليس قصة حياة عبد الناصر ولا قصة معركة بعينها ضمن معاركه ، وأن لا يحكم عليه إجمالا من مجرد فصول اختيرت منه للنشر الصحفى لاتزيد نسبتها فيه على الخمس- فإن البعض في العالم العربي بالذات لم يقبل هذا الاعتذار .

 
راح البعض يئساءل : كيف أملك حق الكتابة عن جمال عبد الناصر؟

 
وبصرف النظر عن أشياء كثيرة واعتبارات لا أجد داعيا لذكرها فإن الكتابة عن جمال عبد الناصر حق لمن يستطيع ، ولم أع لنفسى يوما حق احتكارها . لقد كتبت عنه كما كتب غيرى فى العالم كله ولم يقم في وجه واحد منهم أى اعتراض .

 
ثم إن العالم المتحضركله يعرف هذا النوع من الكتابة عن شخصيات العصر.

 
إن الكثيرين من القادة كتبوا عن أنفسهم ... كذلك فعل " تشرشل " و " ديجول "  و " أيزنهاور"

 
كما أن كثيرين من الذين أتاحت لهم الظروف- أو حتى لم تتح لهم - أن يعرفوا شخصيات العصر كتبوا عنها... كذلك مثلا فعل " شلزنجر" " وسورنسن " و " مانشستر " عن " جون كنيدى " لأن كنيدى لم يعش ليكتب عن نفسه.

 
وإذن ماذا ؟

 
ولقد راح البعض الآخر يدعى أننى- بما كتبت عن جمال عبد الناصر – جعلت من حياته مغامرة ولم أجعلها فكرة ، والغريب أن أصحاب هذا الادعاء في معظمهم كانوا من الذين قضوا عمرهم في عداء عبد الناصر.

 
ولقد كنت أتوقع شيئاً من ذلك... بسبب الظروف العربية الراهنة... وبسبب ظروفي الشخصية.

 
العالم العربي في هذه المرحلة مشغول بالاقتتال مع النفس... أكثر مما هو مشغول بالقتال ضد العدو وهذا طبيعى فى مرحلة التفاعلات العنيفة التي يعيشها .

 
وأما ظروفي الشخصية فإني أعرف أنها دقيقة، ذلك أننى تعرضت لليمين الرجعى فى العالم العربي ، كما تعرضت لليسار المغامر فيه وليس يهمنى أن أحصل على رضى أيهما، ولقد اعتبرت ومازلت أعتبر أن هذا الرضى... شرف لا أسعى إليه... ووسام ليس بين أحلامى أن أعلقه على صدرى !

 
______________________

 
لقد كتبت ماكتبت من قلب تيار أعرفه وأحسب نفسى منتميا إليه وهو التيار الناصري ... تيار الجماهير التي كانت مع جمال عبد الناصر فى اختياره التاريخى بالصورة البارعة التى سمعتها ذات مرة فى مطعم لاسير في باريس من أندريه مالرو مفكر فرنسا العظيم وكان يقارن ما بين عبد الناصر وديجول .

 
وقال لى مالرو:

 
- كلاهما واجه فى عصره اختيارا دوليا هائلا... وكلاهما رفض هذا الاختيار .

كلاهما قيل له : هل أنت مع أمريكا أم مع الاتحاد السوفييتى؟ " وكلاهما قال : لست مع أمريكا ولست مع الاتحاد السوفييتى … وإنما أنا مع وطنى وأمتى".

 
ولقد كتبت ما كتبت أيضا وفى ذهنى أن " جمال عبد الناصر ليس أسطورة " كما قلت في مقال نشر فى ذكرى مرور الأربعين على رحيل عبد الناصر.

وكان رأيى- ولم أغيره- أن الذين يتصورون عبد الناصر أسطورة : لا يعرفون ماذا تعنى كلمة أسطورة... أو لا يعرفون ماذا يعنى اسم جمال عبد الناصر؟ !

 
إن عبد الناصر ليس أسطورة... وإنما هو إنسان.

 
ولقد كان إنسانا عظيما... و!نما كان أعظم ما فيه إنسانيته، وكانت هذه الإنسانية هى طريقه إلى التزامه الفكرى، والتزامه السياسي، والتزامه القومى، والتزامه الدولى ... بل وأهم من ذلك كله التزامه الطبقى بالعمل والذين يعملون ... وأن العمل هو المصدر الوحيد لأى قيمة.

_______________________

 
إن القصة الكاملة لجمال عبد الناصر سوف تكتب فى يوم من الأيام وأرجو أن تتيح لى الظروف فرصة المشاركة فى كتابتها كاملة.

 
ولقد تعرض جمال عبد الناصر- وهو في رحاب الله - لحملة لاتقل ضراوة مما كان يتعرض له وهو مازال بعد بين الناس .

 
بل إن هناك من قالوا:

 
- إن عبد الناصر بعيدا... أخطر من عبد الناصر قريبا لأنه في غيابه قد تتحول الناصرية من شخص إلى فكرة... ومن فكرة إلى تنظيم " وظنى أن الوقت الأنسب لقصة عبد الناصر كاملة سوف يجىء بعد أن تنتهى الأزمة الحالية في الشرق الأوسط ... وبعد أن تنسى إساءات بعض الذين حسبوا أنفسهم عليه ، وتصوروا أن بمقدورهم تحويل تراثه الكبير إلى إرث سلطة تحكم أو تتحكم .

 
وكان الإسهام العظيم لجمال عبد الناصر :

 
أنه ربط مصر بأمتها العربية.

 
ثم أنه ربط الأمة العربية- بما فيها مصر- بالعالم وقيمه وأحلامه.

 
ولقد تعرض عبد الناصر- بسبب ذلك- الى عداوات ضارية وحروب شرسة.

 
ثم إن البعض أساء فهم وظيفة جهاز السلطة الذى كان قريبا من جمال عبد الناصر.

 
لقد أجرى جمال عبد الناصر في مصر ومن حول مصر تحولات اجتماعية عميقة.

 
وفي عصر أصبحت فيه العقائد الاجتماعية المتصارعة ، دولا عظمى تمثل هذه العقائد فإن الصراع الاجتماعى داخل أى وطن من الأوطان- وذلك حدث فى بلدان عديدة- يمكن أن يتحول إلى حرب أهلية داخل الوطن الواحد... بحيث تصبح الطبقات المتناقضة فى مصالحها دولا عظمى داخلة فى الصراع .

 
ولقد استطاع جمال عبد الناصر- كما قلت مرة- أن يؤمم الصراع الاجتماعى في مصر.

 
وربما كان جهاز السلطة ضريبة من ضرائب هذا التأميم .

 
ولقد سقط جهاز السلطة بعد عبد الناصر- رغم أن تجاوزاته اشتدت بعد رحيله- لأنه فقد وظيفته الاجتماعية.

 
لقد توقف مصدر التحولات الاجتماعية عن النبض بعد رحيل عبد الناصر وأصبح ضروريا أن نبحث عن صيغة أخرى ... ليس لتأميم الصراع الاجتماعى- فهذه المعجزة كانت مرهونة بشخصية تاريخية بعينها- ولكن لتقنين الصراع الاجتماعى ... لتقنينه بمزيد من الديمقراطية وتأكيد سيادة القانون ، فذلك هو العاصم الوحيد من خطر تحول الصراع الاجتماعى ... إلى حرب أهلية تغذيها قوى عظمى لاتملك أسلحة فقط… ولكن تمثل عقائد اجتماعية أيضا.

 
ولست أظنني بما قلت أدافع عن جهاز السلطة... فالسجل فيما يتعلق بي واضح فى هذه النقطة. ولقد هاجمت هذا الجهاز وتجاوزاته طول الوقت ، وكانت أعنف هجماتي عليه فى وجود عبد الناصر نفسه.

_________________

 
ماذا أريد أن أقول أيضا؟

 
تبقى بعض الملاحظات الشخصية.

 
ملاحظة شخصية : هى اننى مديي بالشكر في هذا الكتاب لكثيرين ..

مدين للعاملين في مكتبى بما قدموا إلى، حين احتفظوا لى بأوراقى مرتبة مبوبة أستطيع أن أرجع إليها بسهولة وحين أشاء .

 
ومدين لمكتبة الأهرام التى كانت عونا لى في الحصول على ما أردت أن أستوئق فيه من مناسبات ، وأسماء ، وتواريخ .

 
ومدين لقسم الترجمة في جريدة النهار اللبنانية، الذى قام محرروه بترجمة هذا الكتاب عن الإنجليزية بعد أن حصلت النهار على حقوق نشره باللغة العربية .

 
ولعلى مدين أكثر من ذلك لكثيرين ... لم أذكر أسماءهم وإن لم أنس فضلهم .

___________

 
ثم ملاحظة أخرى وأخيرة

 
لقد كان بودى لو كتبت ذلك الكتاب بالعربية وقدمته بأسلوبى الذى اعتاده القارىء ، ولكنى في الحقيقة كنت أكتب عن عبد الناصر والعالم ... للعالم الذي عرف عبد الناصر واهتم بسيرته . 

 
ولقد كان هناك اقتراح بأن أتولى ترجمة الكتاب بنفسى ... لأن القارىء العربي - وقد اعتاد أسلوبى- سوف يجد غريبا عليه أن يقرأ لى بأسلوب آخر... ولكن ذلك كان معناه فى رأيي أننى سوف أكتب الكتاب مرتين!

 
ومن أجل الذين يقرأون... فلقد وجدت أن مرة واحدة تكفى .
عبد الناصر ..
الرجل.. والظرف التاريخي
 
كان جمال عبد الناصر- رئيس مصر وزعيم العالم العربي - يرقد متمدداً- على فراشه فى حجرة نومه الواسعة الرطبة، وراء المصاريع الخشبية الخضراء ، فى منزله المتواضع بالقاهرة .

 
كان قد أصيب بنوبته القلبية الثانية قبيل ذلك ، عند الأصيل، ولكن عندما حانت الساعة الخامسة، تجاوز اعتراضات طبيبه ونهض ليمد ذراعه ويفتح الراديو " الترانزيستور" الكبير الموضوع على الطاولة المجاورة لسريره .

 
وملأت الحجرة أنغام اللحن المميز الذى تمهد به القاهرة لنشرة الأخبار، وعاد يتمدد فى رقدته، يتابع موجز النشرة ، ثم أقفل- الراديو قائلا: " لم أجد الخبر الذى كنت أتوقع أن أسمعه! "

 
وبعد ذلك بدقائق، أسم الروح ، وغادر العالم الذى لن يعرف قط ماذا كان يتوقع ، هذا العالم الذى وجد فيه واحداً من أكثر قادته السياسيين إثارة للجدل ، واختاره العرب . رمزاً لكرامتهم الضائعة وآمالهم التى- لم تتحقق .

 
كانت الأحداث الدولية- التى أفضت في النهاية إلى وفاته - قد زلزلت العالم وهزته هزاً عنيفاً ، وكانت تتتابع بسرعة متناهية وخطر متزايد ، الحدث تلو الآخر. فكانت هناك حوادث خطف الطائرات . ثم اندلاع الحرب السافرة بين الملك حسين وقوات المقاومة الفلسطينية ، ثم عبور القوات السورية الحدود الأردنية . وما تلا ذلك- كله من تهديد الولايات المتحدة وإسرائيل بالتدخل . الذى كان مشفوعاً بمخططات مفصلة للهجوم على الأردن .

 
وفى خلال هذه الأحداث كلها كان الرئيس عبد الناصر يعمل بلا كلل أو ملل من أجل السلام بين العرب ، وقد كان يختلف مع كل من الملك حسين وزعيم المقاومة الفلسطينية ياسر عرفات . وعندما قابل حسين فى الإسكندرية في الثامن عشر من أغسطس (آب) ، أى قبل وفاته بخمسة أسابيع ، شعر عبد الناصر بأن الملك يستهين بقدر المقاومة الفلسطينية وأنه كان مخطئاً عندما قال إنه يستطيع أن يقضى عليهم تماماً خلال ساعات .

 
وكذلك، فعندما قابل زعماء المقاومة كان رأيه أنهم كانوا مخطئين عندما قالوا له إنهم فى استطاعتهم أن يجهزوا على الملك فى سبع ساعات .

 
وقال للطرفين معاً : " عليكما أن تتعايشا، فما من أحد منكما يستطيع التخلص من الطرف الآخر، وهذه حقيقة من حقائق الحياة عليكم معاً أن تسلموا بها ".

 
وقال للملك حسين : " تقول إنك تستطيع أن تتخلص منهم ؟ حسناً . إذا كنت تقول إنك قادر فربما كنت قادراً بالفعل . و لكن الثمن سيكون باهظاً للغاية . فكيف سيكون في وسعك أن تحكم بلداً بعد حرب أهلية ستكلفك ما بين عشرين وثلاثين ألف نسمة ؟ إنك في هذه الحالة سوف تحكم مملكة من الأشباح الهائمة".

 
وقال للفدائيين : " لا تخالوا أن في وسعكم مواجهة جيش حديث. فإذا ما قرر تصفيتكم ، فإن ذلك فى قدرته، ولذا لا تبالغوا فى تقدير قوتكم ، ويجب أن تحاولوا إيجاد صيغة للحياة والنضال من الأردن ".

 
وأدت جهود عبد الناصر لإحلال السلام فى الأردن إلى عقد مؤتمر القمة في القاهرة الذى حضره عشرة من الرؤساء والملوك العرب [ عقد في الفترة من 22 سبتمبر إلى 27 سبتمبر سنة 1970 ، وحضره رؤساء وملوك و ممثلون عن 10 دول عربية هي : السعودية ، الكويت ، مصر ، ليبيا ، السودان ، الاردن ، تونس ، لبنان ، اليمن ، ورئيس اللجنة المركزية للمقاومة الفلسطينية  ]  .

 
وكانت جميع متناقضات العالم العربي تتجلى في اجتماعهم الذى انعقد بينما كان القتال دائراً فى الأردن. ولعب عبد الناصر دور الوسيط والمصلح طوال الأيام الثمانية التى استغرقها المؤتمر لأنه كان يريد جاهداً ويائساً تجنب الانقسام والتكتل، بين مختلف الفئات .

 
ولكن ذلك كان عسيراً فى معظم الأحيان . فكان ياسرعرفات قد أمكن تهريبه من عمان متخفياً فى  "دشداشة " كويتية وكوفية بيضاء حتى يتمكن من حضور مؤتمر القمة. ووصل مفعماً بالعداء للملك . وما لبث الملك حسين أن اتصل شخصياً بالتليفون وطلب الحضور ليرد أمام المؤتمر على ماجاء في التقرير المقدم من الرئيس جعفر نميرى [ كان مؤتمر الرؤساءالعرب قد بعث بوفد إلى عمان برئاسة جعفر نميري لتقصي الحقائق في الأزمة بين الاردن والمقاومة ] ، والذى ألقى عليه اللوم وحمله تبعة استمرار إراقة الدماء. غير أن بعض الحاضرين عارضوا اشتراكه .

 
وكان رأى عبد الناصر هو أنه يجب على الملك أن يحضر مادام هدف المؤتمر وضع حد للمذابح .

غير أن الرئيس القذافى انفجر معترضاً على ذلك قائلا : " ما الفائدة من إحضاره؟ إنه معتوه ، إنه مجنون " .

 
واعترض الملك فيصل آل سعود على الفور قائلا : " كيف تقول ذلك عن ملك عربي ؟ "

 
وأجابه القذافي قائلا : " ولكن أين والده ؟ أليس هو محتجزاً فى مصح عقلى في اسطنبول ؟ إنه مجنون.. قطعاً مجنون .. إن الجنون وراثي فى تلك العائلة .. إنهم جميعاً مجانين " .

 
وناشد الملك فيصل الرئيس عبد الناصر أن يتدخل لدى القذافى : " كيف نقبل أن يصم أحد زملائنا ملكاً عربياً سيشترك معنا فى مناقشاتنا غداً ، بالجنون ؟ " .

 
وبدأ الرئيس عبد الناصر يبتسم ، بينما مضى القذافى يقول : " أجل .. والله إنه مجنون .. وينبغى علينا أن نستدعى غداً بعض الأطباء لإرساله الى مستشفى للأمراض العقلية حتى نتبين ما إذا كان مجنوناً أم لا " .

 
وتدخل عبد الناصر ضاحكاً : " يبدو لى أننا جميعاً مجانين . وأقترح  أن نستدعى بعض الأطباء للكشف علينا جميعاً ليقرررا من منا مجنون ومن الراشد ".

 
وعندئذ قال الملك فيصل : " طيب... لا بأس يا حضرة الأخ عبد الناصر. ولكننى أريد أن أكون أول من يكشف عليه الأطباء، فربما وجدوني مجنوناً وساعتها أكون قد تجنبت عذاب الاشتراك فى محادثات كهذه ".

 
وعندما وصل الملك حسين للاشتراك فى الاجتماع كان يصطحب اثنين من الضباط معه.. وكان الثلاثة مسلحبن بالمسدسات، وكان ياسر عرفات هو الآخر يتمنطق بمسدس حول خصره ، وكذلك كان القذافي يحمل مسدساً حول وسطه هو الآخر .

 
وأشار عرفات إلى الملك حسين وصاح : " هل ترون هذا المجرم ، يقتلنا ثم يأتي بعد ذلك إلى هنا ". وقام الحاضرون بتهدئته، غير أن الملك فيصل تطلع إلى من حوله وقال : " أعوذ بالله.. إننا في ترسانة سلاح، وفي مهب كل هذه المشاعر الملتهبة.. " .

 
ولم يشأ الملك فيصل أن يجلس إلى جوار أى عضو فى المؤتمر يحمل مسدساً ، ومع ذلك فقط احتفظ حاملو المسدسات بها.

 
وقد كان اجتماعاً يسوده التوتر البالغ ، ولكن- كما هى التقاليد أحياناً ! - فقد راح الرجال الذين كانوا على استعداد لقتل بعضهم البعض فى الصباح يتبادلون القبلات الأخوية فى المساء .

 
وحصل الرئيس عبد الناصر على موافقة كل من الملك حسين وياسر عرفات على وقف إطلاق النار. ودهش الجميع من هذه النتيجة. فقد كانت كل الظواهر تشير إلى استحالة ذلك : حدة المشاعر ، وعمق الخلافات الجوهرية ، ومن ثم فقد بدا الفشل أمام العالم الخارجى أمراً محتما لا مفر منه . على أن عبد الناصر استطاع بمقدرة سياسية وصبر لا تحده حدود أن يقنع الإخوة المتخاصمين بتوقيع الاتفاق .

 
------------------------

 
كانت هذه هى آخر خدمة قدر له أن يقدمها إلى الأمة العربية، ذلك أن الجهد والعمل والقلق المتصل كلفه غاليا.

 
فقد كان في هذه المرحلة رجلا قد حل به التعب وأنهكه المرض ، فقد كان يعاني من مرض السكر منذ سنة 1958، وكنتيجة لمرض السكر أصيب بحالة موجعة من تقلص شرايين ساقيه. وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين . وقال عبد الناصر عن ذلك :

 
" لقد أطفأت سيجارتي الأخيرة ، وقطعت على نفسى وعداً بأن لا أشعل سيجارة غيرها : وشعرت بعدها بأننى ودعت صديقاً عزيزاً على . فلقد كان التدخين : الترف الوحيد الذى كنت أستمتع به ، والآن فهذه المتعة الأخيرة قد ضاعت هى الأخرى ".

 
وخضع عبد الناصر بعد ذلك لدورة علاج بالمياه الحارة في الاتحاد السوفييتى ، ولفترة ما شعر بتحسن كبير، ولكنه لم يستطع أن يلتزم حرفياً بالبرنامج البالغ القسوة الذى حدده  له الأطباء - فعندما قالوا له إنه ينبغى أن يتجنب أى جهد جسماني أو عاطفى . أجابهم بقوله : " كيف يسعنى ذلك ، إن هذه هى حياتي كلها " .

 
وكان زملاؤه يحثونه دائماً إلى الإخلاد للراحة . ولكنه لم يكن- يفعل ذلك . وفي 11 سبتمبر ( أيلول) 1969 أصيب بأول نوبة قلبية وكتم النبأ عن الجميع فيما عدا سبعة أشخاص كان ينبغى أن يعرفوا. وأعلن يومها أنه أصيب بحالة من الانفلونزا الحادة ، وأنه سيتغيب عن مكتبه لمدة ستة أسابيع . بل إن النبأ كتم حتى عن السيدة قرينته، غير أنها بدأت ترتاب في حقيقة ما يعانيه عندما وجدت المهندسين ينصبون مصعداً كهربائياً في المنزل .

 
وتقرر الاستعانة بالمشورة الطبية من الخارج . وأرسلت رسالة سرية إلى موسكو، حضر إلى القاهرة على أثرها الدكتور شازوف وزير الصحة السوفييتى، وهو أخصائي بارز فى أمراض القلب ، وبصحبته فريق من الخبراء .

 
وجاء تشخيصهم مطابقاً تماماً لتشخيص طبيب الرئيس الخاص الدكتور الصاوي حبيب، وقال الدكتور للرئيس إنه لا يجوز أن يعالج بالمياه المعدنية مرة أخرى في الاتحاد السوفييتى قبل مرور خمسة أعوام على الأقل . وأدرك عبد الناصر أن عليه أن يحتمل حالة القلب التي كان يعاني منها بالإضافة إلى الآلام المستمرة فى ساقيه.

 
وفكر فى الاستقالة، ولكنه لم يفعل لأنه أحس بأن الأمة العربية قد تفسر استقالته وكأنها يأس من النصر ، فاستمر يعمل طويلا وبكل طاقته. والواقع أنه كان يعتقد دائماً أن قدره لن يمهله حتى يتمتع بحياة طويلة. وعندما سئل عما إذا كان ينوى أن يكتب مذكراته ليشغل نفسه عندما يعتزل أجاب :

" إن الذين يعيشون على طريقتى لايمتد بهم العمر طويلا ".

 
خرج عبد الناصر من مؤتمر القمة إنساناً منهكاً متعباً . وقال لأصدقائه: إنه سيضع قدميه فى الماء الدافيء والملح، وهى وصفة قروية قديمة لتخفيف الألم، ثم ينام يوماً كاملا، و بعدئذ سيبحث احتمال الإخلاد إلى الراحة .

 
ولكن كان عليه أولا أن يودع الذين شاركوه في مؤتمر القمة. ولما حاول الرئيس القذافي أن يسافر في هدوء بحيث لا يزعج الرئيس بأكثر- مما ينبغى- من مراسم الوداع ، أصر عبد الناصر على اصطحاب الرئيس الليبى إلى المطار في سيارته ومرافقته حتى الطائرة .

 
وكان آخر المسافرين أمير الكويت الأمير صباح السالم الصباح .

 
وكان عبد الناصر قد وعد قرينته بأن يعود مبكراً ليتغدى مع حفيدته هالة وحفيده جمال . ثم استقل سيارته ليتوجه إلى المطار قائلا، بنبوءة عفوية، إنه ذاهب إلى " الوداع الأخير ".

 
وأحس بوعكة في المطار، وعندما استقل أمير الكويت طائرته طلب الرئيس إحضار سيارته إلى المكان الذى كان يقف فيه- وكان فى العادة يمشى إلى سيارته- وطلب من سكرتيره أن يستدعى الدكتور الصاوى إلى بيته. وكان أفراد عائلته جميعاً في انتظاره ليتناولوا معه طعام الغداء، ولاحظوا أنه كان متعباً ومرهقاً ، وتحدث الرئيس إليهم برهة ثم دخل إلى غرفته قائلا إنه لا يستطيع أن يأكل شيئاً .

 
ووصل الدكتور الصاوى فخرجت السيدة قرينته من حجرة نومه احتراماً لرغبات زوجها ، ذلك أنها ما كانت تمكث إطلاقاً فى حجرته عندما يكون معه شخص آخر.

 
وفحص الدكتور الصاوى الرئيس، وعندما أيقن أن العلامات تدل على نوبة قلبية ثانية، استدعى الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى ، الأخصائيين اللذين كانا يعالجانه منذ النوبة الأولى .

 
وجرى أيضاً استدعاء أولئك الذين ألفت منهم لجنة لتسيير دفة الأمور فى البلاد منذ إصابته بالنوبة الأولى . ووصل الأخصائيان وواصلا العلاج الذى كان قد بدأه الدكتور الصاوى . وتم تجهيز معدات القلب الطبية الخاصة التى سبق أن نصبت فى بيت الرئيس بيما كان أفراد اللجنة يتجمعون فى البيت.

 
وتمدد الرئيس على سريره مرتدياً بيجامته الزرقاء . وقبيل الساعة الخامسة بدأ نبضه ينتظم وبدأت خفقات قلبه تصبح طبيعية تقريباً . وبدأ يتحدث إلى الأطباء .. وقال له الدكتور فايز إنه يحتاج إلى إجازة طويلة ، ولكنه أصر على أنه يريد الذهاب إلى الجبهة " حتى أرى أولادنا قبل أن أقوم بأى أجازة".

 
وغادر الدكتور الرملى والدكتور فايز الحجرة . وعندئذ هم قليلا ليفتح جهاز الراديو. ولما لم يسمع ما كان يتوقعه حثه الدكتور الصاوى مرة أخرى على أن لا يتحرك وأن يخلد إلى الهدوء تماماً ، قائلا: لا داعي لأي مجهود الآن . فقال عبد الناصر :

 
" لا يا صاوى... الحمد لله .. دلوقت أنا استريحت.. "

 
تلك كانت كلماته الأخيرة. قالها وانسدل جفناه على عينيه وهوى ساعده الذى كان يضعه على صدره واستقر بجواره .

 
وأدرك الذين كانوا ينتظرون خارج الغرفة خطورة الموقف فتدفقوا إليها يشهدون بأعين تنكر كلياً ما ترى .. الأطباء يناضلون لإنقاذ حياة قائدهم .

 
كان قد سبق أن شاهدوه بعد إصابته بالنوبة القلبية الأولى جالساً يأكل الجبن الأبيض المفضل عنده .. أما الآن فشاهدوه ممدداً في هدوء كامل على فراشه وقد فارقته الحياة .

 
ولم يتحرك ولم يهتز إلا عندما أرسل جهاز الصدمة الكهربائية ثلاث شحنات راعدة عبر جسده الطاهر.

 
كان المرجو أن تؤدى الصدمات الكهربائية إلى دفع قلبه لأن يخفق من جديد . لكن قضاء الله كان قد حل وماكان شيء ليعيد الخفقان إلى قلب عبد الناصر.. فقد تحطم ذلك القلب .

 
وعندما انتقلت عدوى يأس الأطباء وسقوط الأمر من أيديهم إلى المتجمهرين في الحجرة . راح هؤلاء وقد بدت عليهم الامارات الأولى لموجة الحزن العظمى التى عصفت بالعالم العربي .

 
التفت نائب الرئيس حسين الشافعى صوب القبلة وركع يصلي . ووقف أنور السادات خلف الرئيس، بجانب السرير ورفع رأسه إلى السماء وراح يتلو آيات من القرآن .

 
أما أنا فلم أستطع أن أصدق ماحدث . وكنت أراقب الأطباء وأردد د بصوت منخفض :" يارب.. يارب غير ممكن .. يارب غير معقول .. " .

 
كان جميع الموجودين عالمين بانحراف صحته لكن أحداً لم يكن يتوقع أن يموت هكذا. كانت الخشية من الاغتيال ماثلة دائماً فى أذهانهم فقد كان عبد الناصر الرجل الذى يقف فى قلب الأحداث العاصفة في الشرق الأوسط ، وجر على نفسه خصومة أعداء أقوياء جداً وكان الكثيرون منهم يتمنون إزاحته لو استطاعوا ذلك .

 
لم يكن يحفل بسلامته الشخصية إلا أنه لم يكن يعترض على ترتيبات الحراسة التى يتخذها الآخرون من أجل المحافظة على سلامته. وفي الوقت ذاته كان دائماً يتوجه نحو الناس ويتوغل في الجماهير فكانت حمايته مهمة عسيرة جداً . وكان من شيمته أن لا يحفل بالخطر قائلا :

 
" لقد وضعت روحى على كفي وها أنا خارج وهى معى ".

 
أما الآن وقد آبت روحه إلى ربها آمنة مطمئنة فإن الذين كانوا حوله أبوا أن يصدقوا ما شاهدوه . ودخل وزير الحربية وحث الأطباء على متابعة جهودهم . ولم يصدق أحد الحقيقة إلا عندما غطى الدكتور الصاوى وجهه بيديه وانطلق ينتحب - دون أن يستطيع السيطرة على نفسه .

 
غطوا بالملاءة وجهه وأبلغوا نعيه إلى قرينته فدخلت الحجرة وأزاحت الملاءة وقبلته بينما كان الحاضرون يغادرونها تاركيها وحيدة معه .

 
وعلى الفور عقد اجتماع عاجل مشترك للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ومجلس الوزراء، وانعقد الاجتماع فى قاعة مجلس الوزراء في قصر القبة حيث كان الوزراء - الذين كانوا فى زيارة قوات الجبهة- يصلون إلى مقر الاجتماع وهم لايزالون يرتدون بذلة القتال .

 
وتركوا كرسيه شاغراً بينما كانوا يقررون ما يجب عمله، ولكن الإحساس بوجوده كان غامراً فى الحجرة كلها. وتقرر إبقاء جثمانه فى عيادة قصر القبة ثلاثة أيام يشيع بعدها فى جنازة رسمية .

 
أوقفت الإذاعة بث البرامج العادية واقتصرت على إذاعة تلاوات من القرآن الكريم . وأحس الناس بأن شيئاً مهماً قد حدث ولكن ما من أحد اشتبه بأن الرئيس عبد الناصر توفى .

 
وما لبث نائب الرئيس- الرئيس أنور السادات الآن- أن أذاع النبأ على العالم فى كلمة مقتضبة. على أن أثرها كان فورياً وهائلا لا يصدق .

_________________

 
إندفع الناس من بيوتهم في جوف الليل واتجهوا إلى محطة الإذاعة على ضفاف النيل ليتأكدوا مما إذا كان ما سمعوه صحيحاً .

 
وإنه لمن الغريب أن ينجذب أفراد الشعب المصرى- منذ مجاهل التاريخ- إلى النيل دائماً في لحظات الانفعال القصوى . وفى تلك الليلة التقت وسائل الاتصال الحديثة مع مشاعرهم العريقة .

 
وفي البدء شوهدت جماعات صغيرة فى الشوارع . ثم امتلأت الشوارع بالمئات ثم بعشرات الألوف ومن ثم احلولكت الشوارع بالناس وغصت بهم وأصبح التحرك أو الانتقال مستحيلا .

 
وتحلقت خارج مبنى الإذاعة حلقات من النسوة يندبن قائلات : " مات السبع... السبع مات ! ".

وترددت صيحة الندب هذه شتى أنحاء القاهرة وانتشرت كالصدى إلى القرى والأقاليم حتى اجتاحت مصر كلها.

 
وفى تلك الليلة- وفى الأيام التى تلتها- ندبه الناس في حزن جارف غلاب .

 
وسرعان ما أخذ الناس يتدفقون على القاهرة من كل أنحاء مصر حتى غصت العاصمة بزهاء 10  ملايين منهم .

 
وأوقفت السلطات سير القطارات لأنه لم يعد في القاهرة مكان يأوى إلية القادمون بينما كانت المؤن تتناقص بسرعة.

 
ومع ذلك ظل المواطنون يتدفقون ، فجاءوا بالسيارات وعلى ظهور الحمير وسيراً على الأقدام .

وجاءت ألوف الناس من الأقطار العربية بالطائرات والبواخر وأصبحت المناسبة هجرة أحزان جماهيرية جماعية.

 
وانتشر النبأ فى العالم يزرع الدهشة والحزن أينما تردد .

 
ففى عمان توقف القتال .. وأفرغت دبابات الملك حسين مدافعها من الذخيرة وخرج الفدائيون من، خنادقهم يصرخون ويهتفون باسمه. وحقق عبد الناصر في موته ما ناضل نضالا قاسيا من أجله فى حياته.

 
وفي بيروت أشهر الرجال مسدساتهم وبنادقهم وأفرغوا فى كبد السماء طلقات الحزن..

 
وفي طرابلس الغرب دخل العقيد معمر القذافى وحيدا إلى غرفته يبكى ولم يخرج منها حتى اليوم التالى.

 
وبكى الفريق حافظ الأسد- وزيرالدفاع السورى آنذاك ورئيس الجمهورية اليوم- وقال : " كنا نتصرف كالأطفال ونتخبط فى تصرفاتنا لكننا كنا نعلم بأنه موجود لتصحيح أخطائنا ويرد عنا آثارها " .

 
بل حتى في تل أبيب علقت جولدا مائير على النبأ قائلة : " من الذى أطلق هذه النكتة السخيفة ".

 
أما الرئيس نيكسون الذى كان من المقرر أن يركب حاملة الطائرات " ساراتوجا " لإجراء مناورات فى الشطر الغربي من البحر الأبيض المتوسط - حيث كان الأمريكيون يريدون أن تسمع أصداء مدافع الأسطول السادس في القاهرة- فقد ألغى المناورات .

 
ونظم مجهول مصرى أغنية جنائزية لازمتها : " الوداع يا جمال... الوداع يا حبيب الملايين "  وسرت هذه الاغنية مسرى النار في الهشيم وأصبحت على كل شفة ولسان .

 
كانت بلحنها تنطوى على روح مصر الحزينة . وكان من الممكن أن تنظم لجنازة رمسيس الثاني ..

 
اجتاح حزن الشعب الجنازة واستبد بها. واستقدمت إلى القاهرة خمس فرق من القوات للسيطرة على المشيعين ، لكن الجماهير كانت من الكثافة بحيث جرفت الجنود بعيداً .

 
ولم يستطع هؤلاء الجنود على كثرتهم أن يبقوا طريق الجنازة سالكاً بالقرب من مبنى مجلس قيادة الثورة القديم على النيل عبر حديقة التحرير حيث وضح نعشه المزين بالورود على منصة مكسوة بالحرير الأخضر.

 
وهناك ودع الزوار من رؤساء الدول والحكومات جثمان الرئيس .. ولاقى كثيرون منهم المصاعب في الوصول إلى حديقة التحرير . فاقتضى الأمر نقل كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتى من السفارة الروسية إلى الحديقة في قارب بخارى بسبب كثافة الجماهير . وجرفته أحزان الناس فتطلع إليهم وقال: " يجب أن تكبحوا جماح حزنكم ".

 
وكان من المقرر نقل رؤساء الحكومات إلى فندق هيلتون لمشاهدة موكب الجنازة . إلا أن كثيرين منهم استحال عليهم الوصول إلى هناك .



 
ولم يكن هناك شىء قط يقوى على كبح جماح الناس . وقد مزقت ثلاثة أعلام كانت تلف النعش واقتضى الأمر فى ساحة محطة السكة الحديد نقل جثمان الرئيس من عربة المدفع التى باتت مهددة بالتحطم، ووضع فوق سيارة مصفحة.

 
وفى النهاية وبعد مسيرة سبعة أميال فى بحر عاصف من الجماهير وصل النعش إلى المسجد الذى تقرر أن يوارى فى تربته.

 
كان ذلك المسجد موضع اهتمام خاص منه فى حياته وقد بنى في منطقة ذات ذكريات خاصة بالنسبة إليه. فبالقرب منه تقوم الشقة الى كان يقطنها وهو يعد للثورة . وبعد ذلك بقليل يقع مقر القيادة الذى احتله الضباط الأحرار في تلك الليلة الحاسمة . أما البيت الذى عاش فيه ومات رئيساً فلم يكن يبعد عن المسجد كثيراً .

 
وورى فى الثرى تحت شاهد رخامى نقشت عليه الآية القرآنية التى استشهد بها الرئيس أنور السادات عندما نعاه :


" يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية "

-2-
 
في السابع والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1970 كان هناك وفد مصرى يطوف بأقطار الشرق الأقصى ليشرح سبب عدم إمكان تمديد وقف إطلاق النار إلى أجل غير مسمى . وفي ذلك اليوم استقبل رئيس وزراء الصين شوين لاى أعضاء الوفد بمكتبه في المدينة المحرمة في بكين .

 
ورحب شوين لاى بالوفد الذى كان يرأسه الدكتور لبيب شقير، رئيس مجلس الأمة آنذاك ، والسيد محمد عبد السلام الزيات وزير الدولة للشئون البرلمانية. وبعد أن جلسوا وتبادلوا التحيات الرسمية اندفع شوين لاى فورا إلى الخوض في مسألة وفاة الرئيس عبد الناصر. وقال لأعضاء الوفد:

 
- هل تستطيعون الإجابة عن سؤال يحيرنى أود أن أطرحه عليكم؟

 
وردوا عليه قائلين : طبعاً... بكل تأكيد...

 
- إن سؤالى هو: لماذا مات عبد الناصر ؟

 
وشعر أعضاء الوفد بالحيرة !.. لكنه مضى يلح في استجوابه :

 
- متى ولد عبد الناصر ؟

 
- في 15 يناير (كانون الثانى) 1918.

 
- ومتى توفى ؟

 
- في 28 سبتمبر (أيلول) 1970.

 
- إذن فقد مات عن اثنتين وخمسين سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً ... فهل هذا ممكن؟

 
ورد أعضاء الوفد الذين كان الذهول لا يزال مسيطراً عليهم بأنه مات نفاذاً لإرادة الله وقضائه.

 
وهنا قال لهم شو:

 
- يجب ألا نحمل الله مسئولية ما نفعل . لابد من سبب . لقد مات عبد الناصر شاباً . فسن الثانية والخمسين هى سن صغيرة. إننى الآن فى الثانية والسبعين ولا أزال أعمل وأنا كما ترون في صحة جيدة.

 
إننى لا أستطيع أن أتصور كيف مات. لقد كان رئيس دولة وزعيما للعالم العربي وكانت تتوافر له أفضل العناية الطبية. فكيف سمحتم له بأن يموت ؟ "

 
وخيم الصمت على أعضاء الوفد . إذ لم يكونوا يملكون جواباً على سؤال شوين لاى . ولم يطل البحث عن الجواب فقد كان جاهزا لديه :

 
" سأوضح لكم السبب . لقد مات من الحزن و القهر. مات كسير القلب . أما الذنب في ذلك فهو ذنب الاتحاد السوفييتى . فقد خدعه السوفييت و دفعوه إلى مأزق ثم تخلوا عنه وتركوا فؤاده يتحطم وينكسر".

 
ورد أعضاء الوفد محتجين بأن الأتحاد السوفييتى لم يتخل عن مصر. مشيرين إلى أنه يمدها بالسلاح. ورد عليهم شوين لاى :

 
- يبيعكم السلاح تقصدون ؟

 
وراح أعضاء الوفد يناقشون شوين لاى قائلين : إن هذا ليس صحيحا، وإن الاتحاد السوفييتى عوض مصر كل الأسلحة التى فقدتها في معارك يونيو (حزيران) 1967 وبلا ثمن . فمصر لا تدفع سوى ثمن الأسلحة الجديدة .

 
ورد شوين لاي

 
" كيف تستطيعون الشراء . يجب ألا تشتروا. فمن غير المتصور أن تهبط الدولة الاشتراكية الأولى إلى مقام تاجر أسلحة ".

 
كانت مناقشة شوين لاي للموضوع تنطوي - بالطبع - على جميع أصداء النزاع الصينى- السوفييتى الذى كان شوين لاى يمارسه على الطريقة الصينية .

 
ولكن حقائق الموقف تختلف عما ذكره شو وأكثر تعقيداً مما يبدو .

 
------------------------



 
والواقع أنه لكي يفهم المرء طريقة حياة عبد الناصر و مماته ، عليه أن يتفحص وضع العالم الذي عمل وناضل فيه. فقد واجه عالماً تعتريه عمليات التطورات التاريخية التي كانت تتلاحق بسرعة محمومة بعد الحرب العالمية الثانية . كانت الإمبراطوريات القديمة تتقوض وتتهاوى وكان الفرنسيون والبريطانيون الذين اقتسموا فيما بينهم - طويلا - آسيا والشرق الاوسط . ينسحبون من كل مكان ولم يعد في وسع السلطات الاستعمارية القديمة أن تحكم كما كانت تفعل من قبل . فقد اجتاحت موجة القومية والايديولوجيات الجديدة الشعوب التي عانت طويلا من الاستعباد . وقد كانت هذه الحقبة - التي عاشها عبد الناصر - فترة صراع وغليان .

 
ودخلت الشرق الاوسط دولتان جديدتان تتنافسان على النفوذ في المنطقة : الولايات المتحدة.. والانحاد السوفييتى.. وقد سعتا إلى ملء الفراغ الذى خلفه البريطانيون والفرنسيون .

 
وفي نهاية الحرب كان الخصام قد بدأ بين الأمريكيين والبريطانيين بشأن الحقوق والامتيازات البترولية فى الشرق الأوسط . وكان الصراع قد بدأ فعلا .

 
وصحيح أن الولايات المتحدة أصبحت دولة عالمية ولكن الأمريكيين لم تكن لديهم خبرة تذكر لأداء هذا الدور فكانوا يعتمدون أكثر مما يجب على العمل السرى فى سعيهم إلى بسط نفوذهم . وفى إحدى المراحل أثرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على التطورات في المنطقة مما يتجاوز دور وزارة الخارجية الأمريكية نفسها .

 
أما دور القوة الجديدة الأخرى ، أى الاتحاد السوفييتى ، فقد كان دورها أكثر تعقيدأ ، ذلك أن الاتحاد السوفييتى يجسد شيئين : فهو دولة كبرى وأيديولوجية عالمية في الوقت نفسه .

 
وكان الشيوعيون قد أثاروا فضول شعوب العالم العربي التى أصبحت ترغب فى أن تعرف ما لديهم من أقوال واجتهادات. ولم تقم بين مصر والاتحاد السوفييتى علاقات ديبلوماسية حتى دخلت روسيا الحرب العالمية الثانية.

 
ولم تكن نسخ البيان أو " المانيفستو " [ " المانيفستو " هو البيان الذي أصدره كارل ماركس وفريدريك أنجلز سنة 1847 . حول الصراع الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا ، والذي يدعو العمال إلى الاتحاد والثورة لاستخلاص حقوقهم المغتصبة . ]   الشيوعى متداولة فى مصر. وكان الشيوعيون القلائل من العرب موضع اضطهاد . ولم يكونوا موضع اهتمام من الجماهير الراضية المكتفية بتعاليم الإسلام، وإن يكن بعض المثقفين والمفكرين كانوا يعتبرونهم من الرواد وكانوا يتساءلون عن كنه آرائهم .

 
وفى الوقت ذاته كانت الأحزاب السياسية القديمة في كل أرجاء العالم العربي مفلسة من الأقكار، عارية عن النفوذ، لأن العالم كان يتغير بينما لم تكن هى مستعدة للتغير، ومن هنا نشأ فراغ فكرى إلى جانب فراغ القوة وبدت فكرة الشيوعية ذات جاذبية كمينة لأنها أثبتت جدواها في الحرب ضد الفاشية كأساس لمجتمع ذى نسيج قوى .

 
وعندما هرب " المانيفستو " الشيوعى إلى مصر أحدث شيئاً من الإثارة ، فقد قرأه المثقفون وظنوا أنهم عثروا على مفتاح يمكن أن يفتح لهم جميع الأبواب السياسية والاجتماعية ، وانجذب الرئيس عبد الناصر نفسه إلى الأفكار الشيوعية لكنه نبذها في النهاية ،  كمنهج للحياة لسببين : القومية.. والدين ..

وقد درج على مناقشة الشيوعيين على هذا النمط .

 
" إننى أسلم بحقيقة العالم المادى . ولكن كيف نشأت الحياة إذن؟ ربما كنت مستعداً للتسليم بنظرية النشوء والارتقاء على أننى أريد أولا أن تخبروني كيف نشأت الأرض وكيف نشأ الكون . وإلى أن تفعلوا ذلك سأظل مؤمناً بالله " .

 
وكدولة عالمية كانت روسيا مهتمة- تقليدياً - بالبحر الأبيض المتوسط بسب موانئ مياهه الدافئة.. وكان خروشوف يعبر عن ذلك بقوله :

 
انكم ساحتنا الخلفية ".

 
ذلك كان الوضع العالمى عندما دخل عبد الناصر إلى المسرح السياسي .

 
كان النظام القديم يتقوض ويتهاوى . وكانت دولتان استعماريتان ترحلان وتجلوان بينما بدأت تطل  الدولتان الجديدتان المتنافستان، إحداهما تستخدم العمل السرى لتحقيق أغراضها والأخرى تستخدم العقيدة . 
 
وفي العالم العربي كان ذلك زمن الصراع والتنازع الفكرى . فقد كان العرب يحاولون التماس هدى السبيل لكنهم كانوا ممزقين موزعين سبلا واتجاهات مختلفة .

 
فقد كان هنالك - أولا- سبيل الإسلام الذى كان مؤيدوه يدفعون بأن الإسلام هو السبيل الوحيد وأن على الأقطار الإسلامية أن تتضافر معاً ، وأن تتحرك معاً . وكانت تلك حجة نورى السعيد فى الانضمام إلى حلف بغداد. وكان يقول إن وسع العرب حمل الاتراك والباكستانيين على القتال من أجلهم .

 
وكانت ثمة سوابق تاريخية لهذه الحجة .

 
فبعد مائة عام من إقامة نابليون القصيرة في مصر، وهى الإقامة الى فتحت عيون مصر على العالم، أخذ مصطفى كامل يناضل ضـد المحتلين البريطانيين لكنه لم يكن في ذلك يناضل من أجل استقلال مصر فقط بل أنه كان يتصور إمكانية العودة إلى رباط الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إمبراطورية اسلامية..

 
كان يشد مناصرى هذا السبيل شعور قوى بالانتماء إلى أمة إسلامية عظمى واحدة . وكان يناقشهم في هذا الاتجاه المؤمنون بالقومية العربية الذين كانوا يدفعون بأنه إذا شملت الأمة الإسلامية كل الشعوب الإسلامية فإنها ستضم شعوباً متنائية من أفريقيا وآسيا تمتد بلادها حتى الفيليبين.

 
وكان هؤلاء يصرون على القول، بأن الروابط الحقيقية لوحدتهم القومية ولتطورهم لا يمكن أن تأتى من المؤمنين بالإسلام ، المنتشرين فى أرجاء العالم ، إنما يجب أن تنبثق من القومية العربية.

 
وقد وجدت أفكار القوميين العرب هؤلاء تعبيرها الأول فى لبنان ومصر.

 
وفي لبنان كان رأى المفكرين والمثقفين هو أن التطور المستند كلياً إلى الإسلام من شأنه أن يستبعد عدداً كبيراً من الناس الذين يؤلفون أجزاء حيوية من العالم العربي ، ذلك أنه لن يكون في وسع أقباط مصر ونصارى لبنان - مثلا- أن يندمجوا كلياً في منهج إسلامي للحياة . ولذا نادى المفكرون والمثقفون بدلا من ذلك بوحدة عربية قوامها الجغرافيا والتاريخ والحضارة واللغة لتكون الإطار الذى ينفذ من خلاله العرب نحو المستقبل..

 
وهكذا فإن التناقض الأول كان في الأساس بين فكرة الوحدة الإسلامية وفكرة الوحدة المستندة على روابط القومية العربية.

 
وظهر التناقض الثانى عندما بدأت عدة أقطار عربية تحصل على استقلالها. فقد ناضلت هذه البلاد في سبيل حريتها في أجواء مختلفة ضد دول استعمارية مختلفة. فقد كافح المصريون البريطانيين في إطار أسلوب معين . وناهض السوريون الفرنسيين بأسلوب آخر. وكانت المواجهات متباينة. فقد كان البريطانيون أكثر مرونة من الفرنسيين . فمثلا لم يقصف البريطانيون القاهرة - هذا إذا استثنينا السويس، لأن هذه حكاية أخرى- بينما قصف الفرنسيون دمشق . فالواقع أن الأمزجة والاهتمامات تختلف، حتى على صعيد الاستعمار! 

 
وقد أدى هذا الوضع إلى اكتساب الدول المختلفة استقلالها بوسائل مختلفة ، ومن هذه الفوارق، قام تناقض آخر " بين أولئك الذين يطالبون بالاستقلال الوطنى الكامل والذين يستشعرون الانتماء إلى القومية العربية ككل .

 
وازداد هذا النزاع حدة بسبب الاتجاهات المتباينة التى انتهجتها تلك البلاد المختلفة بعد أن حققت استقلالها.

 
فقد قر رأى اللبنانيين على أن الاقتصاد الحر هو الأفضل لهم بينما تبنت مصر نوعا من الاشتراكية وبقيت المملكة العربية السعودية مجتمعا ملكياً تقليدياً .

 
وثمة تياران  آخران عظيمان كان لهما نفوذ بالغ على العالم العربى فى هذه الفترة :

 
كان أولهما: هجمة القومية اليهودية عليهم ممثلة فى الصهيونية .

 
وكان ثانيهما : الأثر الذى أحدثه في المجتمع العربي تطوير حقول النفط والثروة الهائلة التى أخذت تتدفق في هذه الحقول . فقد أدى هذا الثراء إلى انتفاضة في العالم العربى .

 
وكان بذخ أثرياء البترول الشيوخ مخيفاً في سوقيته وتبذله. واتسامه بانعدام المسئولية. فقد كان بينهم من يشاهدون وهم يقودون سيارات الكاديلاك بينما تجلس الماعز إلى جوارهم فيها، وكان هناك شيخ هوايته أن يلعب بعقد من اللؤلؤ بين أصابع قدمه . وكان آخر يخيط فى طيات ثيابه ملايبن الجنيهات بل إنه كان يحتفظ بمحتويات خزينة بلاده تحت سريره .

 
واغتنى بعض الأفراد القلائل بشكل فاحش خارق ، لكن الأغلبية بقيت من الفقراء المدقعين الذين كان أكثرهم يعيش على حافة الوجود.


ورفعت الثروة الجديدة ، والطريقة التى كانت تستخدم بها، حواجز جديدة فى العالم العربي بدلا من أن تزيل الحواجز وتحقق الوحدة . كذلك أقامت هذه الثروات الحواجز الطبقية التى ثبت أنها قوة يجب أن يحسب حسابها ، لأن الأثرياء حاولوا أن يشتروا النفوذ والسلطة وغالباً ما نجحوا في ذلك .
 
----------------------------

 
وبعثت هذه الصراعات والتناقضات الغليان فى العالم العربى . وأشد ما كان هذا الغليان اضطراماً في مصر.

 
فقد نشبت تلك القرون- من الاستغلال على يد الأجانب . والقهر على يد الإقطاعيين وحملة الأسهم الغائبين عن الأرض، والاضطهاد على يد صغار الموظفين - نشبت أنيابها عميقاً فى الروح المصرية.

 
كان ثمة توق وحنين إلى الحرية وإلى الكرامة وإلى حق الفرد فى أن يكون فخوراً بنفسه وببلاده . لكن الأمل فى تحقيق ذلك كان يبدو ضئيلا .

 
فعندما كان الملك فاروق يحكم مصر فى قصره كان نصف في المائة من سكان مصر يستأثر بنصف الدخل القومى كله . وكان الفساد قد استشرى  وترعرع في ظل الحرب العالمية الثانية وتضخم إلى أبعاد خيالية.

 
وهوت الأحزاب السياسية وانهارت وراحت تهيم بلا هدف ولا غاية. ولم يكن ثمة ما يدعو إلى الفخر ولم تكن هناك كرامة.

 
أما الدرك الذى انحدرت إليه مصر فيتمثل فى أن ثلاث سيدات بتن يحكمن مصر فى الأعوام الأخيرة من الحرب وفي الفترة الى تلتها مباشرة .

 
كن : الليدى كيلرن الزوجة الشابة (الإيطالية المولد) للسفير البريطاني . والسيدة زينب الوكيل الزوجة الشابة لمصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد الذى وقع عليه اختيار اللورد كيلرن رئيساً للوزراء . والملكة نازلى أم الملك فاروق .

 
أما القوى الحاكمة في مصر في ذلك الحين فكانت : السفارة البريطانية ، والقصر الملكى، وحزب الوفد. وكان في كل من المواقع الثلاثة سيدة نافذة مهيمنة .

 
على أن شيئاً لم يمس الكرامة المصرية ولم يسئ إليها أكثر من أحداث 4 فبراير (شباط)1942 حين وجه اللورد كيلرن إنذارأ إلى الملك فاروق يطالبه بأن يعين مصطفى النحاس رئيسأ للوزراء .

 
ولما رفض الملك استدعى اللورد كيلرن قوة مصفحة بريطانية ووجه الدبابات إلى قصر عابدين لتقتحم بواباته.. واضطر الملك إلى الخضوع تحت تهديد مدافع الدبابات .

 
كان تأثير هذا الحدث في المصريين ساحقاً ومدمراً . فمرة أخرى أجبر حاكم مصرى على أن يخضع لمشيئة أجنبى . ومرة أخرى أجبر المصريون على أن يهيلوا التراب على رؤوسهم ، غير أن هذا الحدث كان له تأثير الكهرباء فى الضباط الشبان فى الجيش حيث قرر أحدهم - جمال عبد الناصر- ألا تجترع مصر قط كأس الذل مرة أخرى بهذه الطريقة.

 
إن بداية حركة الضباط الأحرار كحركة متكاملة ومتماسكة يمكن أن ترد إلى اللحظة الى سددت فيها أول دبابة بريطانية مدفعها إلى قصر الملك فاروق .

 
فلم يعد للضباط الأحرار من حديث سوى الحرية واسترداد كرامة بلادهم المطعونة وبدأ عبد الناصر يخطط لثورته..

 
وفى الوقت ذاته كانت ثمة قوة ثورية أخرى تكتسب الدعم والتأييد فى مصر وأعنى بها جماعة الإخوان المسلمين .

 
وفي إحدى المراحل انجذب عبد الناصر إلى الإخوان المسلمين ، كما فعل من قبل مع الشيوعيين ، غير أن أسلوب جماعة الإخوان فى تفجير القنابل أوالاغتيال لم يكن يلائم ميوله . وكانت محاولة الاغتيال الوحيدة الى تورط فيها محاولة فاشلة . ومن ثم فإن ولولة زوجة الضحية المقصود بالمحاولة- التى تصاعدت إذ دوت الطلقات- ولدت فيه مقتا للإرهاب حرمه النوم . وقد تنفس الصعداء وارتاح بالغ الارتياح عندما علم أن الرصاصات كلها أخطأت الضحية، وأقسم أن لا يعود إلى ذلك مطلقاً .

 
كان ذلك المقت للإرهاب هو الذى أنقذ حياة الملك فاروق ليلة خلعه عن العرش . ذلك أن كثيرين من الضباط الأحرار كانوا يرغبون فى قتله ، وكانت حجتهم وهم يطالبون بذلك هى : " فلنحاكمه ونشنقه ".

 
إلا أن عبد الناصر رد عليهم : " إذا كنتم تنوون، شنقه فلماذا تزعجون أنفسكم بمحاكمته؟ " وظل يرافع تسع ساعات للحفاظ على حياة فاروق ، ليس من أجل شخص فاروق وحده وإنما من  أجل سائر أولئك الذين كانوا سيموتون حتما نتيجة إعدام فاروق .

 
وقال لرفاقه : " إن كل مطالعاتى للتاريخ علمتنى درساً واحداً يتكرر دائماً مرة بعد أخرى ، وهو أن الدم يستسقى الدم وأن إراقة الدماء سوف تؤدى إلى مزيد من إراقة الدماء " .

 
وانتصر رأيه في النهاية وجنبت مصر الإرهاب . غير أن الإخوان المسلمين لم يكونوا من أنصار هذا الرأى ، فقد استخدموا الاغتيال سلاحاً سياسياً .وراحوا ينسفون عدداً من دور السينما والنوادى الليلية بالقنابل . وأصبحت الجريمة عملة رائجة . وأصبحت مصر بركاناً من المشاعر المكبوته المتفجرة بالعنف.

 
تلك كانت طبيعة العالم الذى اقتحمه عبد الناصر في ليلة الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 1952 عندما استولى الضباط الأحرار على الحكم .

 
فقد كان الشرق الأوسط يمر بتغيير ثورى يرافقه انهيار الإمبراطوريات القديمة ودخول قوى ودول عالمية جديدة إليه . وكانت الدول العربية تحاول التماس طريقها إلى الاستقلال وما بعده ، وكانت مصر كالثمرة التى نضجت وأصبحت على أتم استعداد للثورة .

 
تلك كانت الأوضاع التاريخية الى صاغت قدره وحولته إلى رمز للكرامة المفقودة والآمال التى لم تتحقق.

 
لقد حملت هذه الأوضاع كاهله حملا أثقل من أن يطيقه أى إنسان وصاغت حياته وهيأت الأسباب التى أدت إلى مماته.

 
وعندما اندفع الناس يركضون في الشوارع ليلة وفاته صارخين : " السبع مات " تجاوبت مصر كلها بصيحة الحزن والرثاء هذه . ذلك أن رب العائلة وحاميها يعرف عند العرب عادة باسم " السبع " وكان أولئك الناس يرثون الرجل الذى أصبح في الواقع التعبير الروحى للعرب ، وحامى شرفهم وأحلامهم.

 
مرت حياة السبع بثلاث مراحل : مرحلة السبع طليقاً . ومرحلة السبع مغلولا مصفداً . ومرحلة السبع جريحاً .

 
استمرت مرحلة الحرية الأولى حتى غزو السويس سنة 1956 حيث جعلته الحملة الثلاثية الرعناء، البريطانية- الفرنسية- الإسرائيلية دون قصد منهم ، شخصية عالمية. ذلك أن حماقة إيدن أمدت عبد الناصر بمركز وهيبة دوليين وأطلقته إلى خارج حدود مصر بدلا من أن تدمره . ومنذ ذلك الحين لم يعد اهتمامه مقصوراً على شئون مصر وحدها .

 
كان متمرداً على الدوام وكانت ثورته سمة تنبع على وجه التأكيد من رد فعله حيال الآراء والسنن التقليدية المتزمتة التى كان يحملها أبوه الذى كان- ككاتب في مصلحة البريد- فرداً صغيراً في البيروقراطية المصرية.

 
وكان شغوفاً بأمه السكندرية ذات المزاج المختلف كلياً عن مزاج أبيه.

 
وعندما كان طفلا يافعاً بعث به أهله إلى إحدى مدارس القاهرة حيث أقام فى منزل عمه وأخذ يبعث برسائل طويلة يبث فيها أمه حبه ولم يستطع أن يفهم لماذا لم تكن ترد عليه.

 
وعندما عاد إلى الإسكندرية وجد أنها توفيت وأن والده تزوج من جديد . كان لم يزل في الثامنة عندما انهار عالمه وتقوض . ومنذ ذلك الحين أصبح ثائراً عنيداً .

 
وأرسل عبد الناصر إلى عائلة أمه فى الإسكندرية ليستكمل دراسته، وهناك تورط للمرة الأولى فى السياسة، فقد شاهد مظاهرة تفرقها الشرطة فى الشارع ودون أن يعرف حتى دافع المظاهرة ، انضم يقاتل في صفوف المتظاهرين . كان يكفيه أن تكون المظاهرة ضد النظام القائم .

 
واعتقلته سلطات الشرطة وأمضى ليلته في السجن ، حيث عرف أن رفاق المظاهرة من أعضاء حزب " مصر الفتاة " فانضم إلى الحزب مباشرة ، وخدمه بالمشاركة في توزيع مجلته.

 
لم يحسن اعتقاله من العلاقات بينه وبين والده . فقد كان بينهما احتكاك دائم . وعندما تخرج من المدرسة انطلق يبحث عن مهنة تبقيه بعيداً عن البيت الأبوى .

 
وحاول الالتحاق بالشرطة واجتاز كل الامتحانات اللازمة إلى أن واجه لجنة برئاسة لواء يحمل لقب باشا. وكانت مهمة هذه اللجنة أن تحقق فى مستواه الاجتماعى . وسأله اللواء : " ماذا يعمل أبوك؟ " وعندما أجابه : " كاتب فى مصلحة البريد " قال له اللواء : " يا بنى إنك لاتصلح هنا... ".

 
لم يكن من شىء يمكن أن يزيد- عمداً- من كراهية المتمرد اليافع للنظام القائم قدر لهجة كهذه .

 
وبعد خيبة أمله تلك عكف على دراسة الحقوق لمدة ستة أشهر وكان ناجحاً في دراسته، ولما كان ذلك يعنى استمرار بقائه فى البيت فقد ترك الدراسة ودخل الكلية الحربية حيث وجد فى إطار الانضباط العسكرى : الحرية لتنمية تفكيره ، والقراءة والتخطيط للمستقبل .

 
ولعل من المفارقات اللافتة للنظر في حياة عبد الناصر أنه ظل - برغم كونه ثائراً حياته الثورة - إنساناً محافظاً في معيشته الشخصية. فقد رسخت في روحه ونفسه بعض التربية التقليدية التى ثار عليها.


 
كان قد تعلم أن جهنم هى بئس المصير وأن كل الأطفال يدخلون الجنة تلقائياً . وكانت فكرة جهنم تخيفه إلى حد أنه- وهو في السابعة- قرر مع صبى آخر أن لايخاطر بالذهاب إلى هناك فقررا أن يقدما على الانتحار. وهكذا ذهبا إلى مكتب البريد وسرقا شيئاً من الشمع الأحمر الذي كان والده يحذره دوماً من كونه ساماً . وأكلأ الشمع ورقدا فى انتظار الموت . على أن آقرب مكان إلى الجنة وصلا إليه، كان مغصاً فى المعدة و " علقة " من والده .

 
لقد صاحبته هذه البساطة الأصيلة طول حياته.. فلم يهتم إطلاقاً بالنساء أو المال أو الطعام . وبعد أن تربع على كرسى الحكم حاول السياسيون القدامى إفساده ، لكنهم فشلوا فشلا ذريعاً .

 
كانت حياته العائلية نقية نقاء خالصاً .

 
وكان دائماً يحاول أن يتناول طعام الغداء مع زوجته وأبنائهما الثلاثة وبنتيهما الإثنتين . وكانوا غالباً ما يلتقون حول المائدة ليأكلوا طبقه المفضل- الجبنة المصرية البيضاء - وهم يشاهدون الأفلام السينمائية، متعته الوحيدة .

 
أما بالنسبة إلى المال فقد أرسلت إلية ملايين الجنيهات من التبرعات ليوجهها في أى ناحية من نواحى الخير يراها وكانت موضوعة فى الحساب الرسمى رقم (1) فاستخدمها لمصلحة مصر . وعندما مات كان في هذا الحساب مليونان ونصف مليون من الجنيهات تحولت كلها إلى حساب رئيس الجمهورية الذى تولى بعده فلم تكن مالا شخصياً وإنما كانت مرقومة ومسجلة كحساب عام ، وفى نفس الوقت فإن عبد الناصر لم يترك في حسابه الشخصى سوى 610 جنيهات.

 
ومن حيث الطعام فقد كان يهوى الأطباق المصرية التقليدية المؤلفة من اللحم والخضر والأرز. وكان طعامه من البساطة بحيث كان يشكل أحياناً عبئاً على رفاق سفره .

 
ففي ذات مرة كان يسافر على رأس أحد الوفود إلى يوغوسلافيا- على متن اليخت السابق للملك فاروق- عندما اكتشف زملاؤه المقربون أنهم يأكلون الطعام المعتاد البسيط بيما كان أعضاء الوفد الأقل شأنا والذين لا يتناولون طعامهم مع عبد الناصر يتناولون الأصناف والأطباق الشهية المعدة إعداداً بديعاً. فرتبوا الأمر مع كبير الطباخين ليقدم إليهم على المائدة شيئاً خاصاً .

 
وعندما وصلت الوجبة الخاصة فى زينتها المبتكرة تطلع إليها الرئيس عبد الناصر وقال : " إنها تعج بالألوان كالإعلانات في المجلات الأمريكية " .

 
وبدأ يتذوق بعض الكافيار. لكنه ما لبث أن تباطأ بينما كان رفاقه يستمتعون بما لذ وطاب . وفي تلك اللحظة وصل النادل يحمل صينية من أكلته العادية البسيطة ، ذلك أن كبير الطباخين كان يعرف أن عبد الناصر سوف يفضل أكلته المعتادة ..

 
وفي مناسبة أخرى ، أثناء مرحلة التقشف التى تلت معركة السويس ، كان وزراؤه يجدون مشقة وهم يحاولون حذف بعض الكماليات من لائحة المواد المستوردة . وطلب عبد الناصر أن يرى اللائحة وشطب فوراً " الاسبرج " والشمبانيا وكبد الأوز وعشرات من الكماليات الأخرى قائلا : " إن الأشياء التى لا أعرف عنها شيئاً لايعرف عنها المصرى العادى كذلك أى شيء ".

 
------------------------------

 
ولكن ذلك كله جاء فيما بعد، عندما غلت الأحداث يديه . أما ماكان يهمه ويعنيه عندما كان فى الكلية الحربية وبعد ذلك كضابط ناشىء يخدم في السودان ، فهو أن يطالع وأن يقرأ بقدر ما يستطيع . وكان مفتتنا بالتاريخ وبوحدة ألمانيا وبالثورة الفرنسية بصفة خاصة . وكان للروايات التى قرأها عن الثورة الفرنسية تأثيرها البين في مسلكه بعد ذلك . لقد تأثر بالغ التأثر برواية " قصة مدينتين " وبسردها لأحداث الإرهاب الذى سيطر على باريس ، وربما كان تأثره هذا هو الذى أنقذ الشعب المصرى من الكثير من إراقة الدماء بعد نجاح ثورته، ذلك أنه جعله بالغ التيقظ إلى أن الإرهاب يمكن أن يلي كل الثورات.

 
وقد فتن كذلك بشخصية بطل رواية " الزهرة القرمزية ". و هي شخصية الزعيم الخفي الذى كان يقود المقاومة دون أن يظهر إلى العلن . وكتب قصته عن المقاومة الشعبية التى جابهت أول غزو بريطاني لمصر في مدينة رشيد فى 1807 وكان بطلها شخصية مصرية تشبه " الزهرة القرمزية " .

وفى وسع المرء أن يتبين أثر ذلك في إجراءاته ومسلكه عندما خلع فاروق . فقد ظل فترة وراء الكواليس وفى خلفية الأحداث . وكان هو الزعيم الخفي الذى وضع اللواء محمد نجيب كواجهة شعبية.

 
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية عكف الضباط الشبان فى الجيش المصرى على البحث عن سبيل تحقيق حرية مصر. وقد اعتقد عدد قليل منهم أن أفضل ما يفعلونه من أجل ذلك هو التعاون مع الألمان على أساس مبدأ " عدو عدوى هو صديقى " إلا أن عبد الناصر لم يوافق قط على هذا المنطق . وقد خدم في كتيبة مشاة ساعدت على حماية المؤخرة البريطانية أثناء معركة العلمين ولكن عندما وقع إذلال اللورد كيلرن للملك فاروق . وطد جمال عبد الناصر، - المتمرد دوماً - قدمه بقوة على طريق الثورة .

 
وظل كالزهرة القرمزية، متخفياً على الدوام ، مجهولا إلا لدى زملائه في حركة الضباط الأحرار. وإنها حقأ لمأثرة باهرة لقدراته أن بقى على تنظيم الضباط الأحرار خفياً لايعلم بأمره ولم يكتشفه أحد. والواقع أنه إن يتمكن أى فرد في مثل ذلك الوقت الذي يسود فيه الشك عموماً من أن يجمع حوله فرد آخر- من مختلف المناقب والأخلاق والأمزجة وأن يبث فيهم الثقة التى تمكنهم من تحقيق المهمة التى نذرهم لها- لهو أقرب شىء إلى المعجزات .

 
وجاء ثمة عامل مؤثر آخر أثر تأثيراً عميقاً في حياته سنة 1948 عندما شاءت له أقداره أن يكون أحد اللذين حاصرهم الإسرائيليون في الفالوجة والذين قاتلوا برغم ذلك ببسالة وواصلوا القتال رافضين الاستسلام . وكان خلال ذلك يتحدث عبر خطوط الجبهة مع الإسرائيليين المحاصرين في للفالوجة، وكان الحديث يدور حول الكيفية التى أجبر بها اليهود بريطانيا على التخلى عن انتدابها على فلسطين .

من هذه التجربة كذلك اكتسب إحساساً جديداً تجاه الأمة العربية، وعاد من الفالوجة مقتنعاً بأن الدول العربية المختلفة تؤلف شعباً واحداً  له حضارة واحدة ولغة واحدة .

 
وتجاوز تفكيره حدود مصر ولم يعد محصوراً في القومية المصرية فحسب إنما تعداه كذلك إلى التفكيرفي حالة العالم العربى أجمع .

 
وقد تضافرت كل هذه المؤثرات- المطالعة والتجارب والخبرة ووقائع الإذلال (القومية والفردية)- في ليلة الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 1952عندما ارتدى البكباشى جمال عبد الناصر بذلته وقبل زوجته وأودع أخاه كل ماكان لديه من مال (30 جنيها) ليعني بأمر عاثلته إذا ساءت الأمور ، ومضى ليقلب فاروق ويغير مجرى التاريخ العالمى .


 
لم يتوغل تلك الليلة فى كثير من التفاصيل الدقيقة ، إنما برهن فيها على قيمة طريقته الخالية من أى تعقيد و التفكير والتنفيذ. ذلك أن كثيرين من زملائه أرادوا أن يقوموا بانقلاب كلاسيكى فيحتلوا القصر الملكى وبقية الدوائر الحكومية لكن عبد الناصر قال لهم : " سيطروا على الجيش ننجح " . وهكذا ركزوا على احتلال قيادات الجيش ومحطة الإذاعة .

 
وعندما تم لهم ذلك كانت الثورة قد تمت عمليا . وقال عبد الناصر: " إننا بسيطرتنا على الجيش : إنتزعنا العصا التى كان الملك  يهدد بها الشعب " .

 
ولو أن الثوار حاولوا احتلال القصر لكان حرس القصر قد اضطروا إلى إطلاق النار وأريقت الدماء . 

 
وقد اضطر الضباط الأحرار إلى القيام بانقلابهم قبل موعده الذى كان متوقعاً لأن أحدهم كان  قد انتهك اتفاقية الصمت التى دامت طويلا وبشكل فعال ، وتحدث فى الأمر إلى أخيه الذى كان في سلاح الطيران والذى قام بتحذير رجال الملك .

 
ومرة أخرى واجه عبد الناصر الخطر بأسلوب غير معقد فقد جادل بأن وقت التراجع  قد فات وبأنهم إذا أخفقوا فإن الذين سيتبعون خطاهم سيعرفون على الأقل  أنهم فعلوا خير مافي طاقتهم من أجل مصر .

 
وهكذا اندفع رجال عبد الناصر يعتقلون قادة الجيش لدى وصولهم إلى مفترق الطرق خارج ثكنات العباسية حيث دعوا إلى عقد اجتماع في مقر القيادة العليا للتخطيط لسحق الثورة .

 
ومرت إحدى اللحظات الخطيرة بالنسبة لعبد الناصر بالذات إذ إعتقله بعض رجاله بناء على أوامر أصدرها هو .

 
ذلك أنه لما كان معظم الضباط الشبان من أصحاب الرتب الصغيرة ، فقد أصدر أوامره باعقال جميع الضباط من رتبة عقيد ( بكباشى ) فما فوق . وفى تلك الليلة تأخر وصول الكتيبة 13 إلى القاهرة فركب عبد الناصر سيارته منطلقاً خارج القاهرة - بملابس البكباشى- ليتبين ما حدث لأفراد هذه الكتيبة. والتقى بهم في مشارف هليوبوليس لكنهم ما أن شاهدوا رتبته على كتفه حتى سارعوا باعتقاله. ولحسن الحظ فقد سمع بعد قليل صوت أحد أصدقائه فناداه وجاء الصديق فتعرف عليه وأطلق سراحه .

 
وفى هزيع لاحق من تلك الليلة أنقذ عبد الناصرحياة الملك فاروق . ولو أنه قتل فاروق لأصبح على الفور أكثر الناس شعبية في العالم العربي غير أنه كان لم يزل الثائر المؤمن بثوريته وكان يقوم بما يراه صواباً . فأنقذ فاروق وقدم اللواء محمد نجيب إلى الملأ باعتباره زعيم الثورة .

 
حقق محمد نجيب شعبية كبرى واغترف كل المجد بيما ظل عبد الناصر خلف الصفوف فى الظل، يفكر دائماً ويبدو دائماً للناس رجلا عبوساً ، وهكذا أسىء فهمه .

 
إنه لمن الغريب أن الرجل الذى أصبح موضع حب كل إنسان بدأ موضع سوء فهم من الناس . وكان الموضوع الذى يتردد في خطبه فى ذلك الحين : " لن أستجدى تصفيقا... ولن أستجدى هتافا " .

 
فكان في خطبه يجرح الجميع .

 
غير أن نظرة الناس بدأت تتغير عندما رأوا محمد نجيب يغازل السياسيين القدامى . أما التغيير الحقيقى فقد جاء- كما هى العادة فى حياة عبد الناصر- بحادثة درامية واحدة .

 
فقد وجهت إليه ست طلقات نارية بينما كان يخطب في الإسكندرية [ في 26 اكتوبر 1954] . فلم يهتز له روع ، إنما ظل واقفاً في مكانه يتحدى القاتل بينما الرصاصات تدوى وهى تخطئه . وبينما كانت الرصاصات تدوى راح يناشد الناس قائلا:

 
" إخواني المواطنين … فليبق كل منكم في مكانه... إننى حى لم أمت .. ولو مت فإن كلا منكم جمال عبد الناصر... ولن تسقط الراية "..

 
--------------------------

 
كان عملا يدل على شجاعة خارقة. كماكان بلا شك نقطة تحول في حياته. فمذ ذلك الحين بدأ الناس يقابلونه بحرارة. وبهذا التأييد الشعبى الجارف دخل عبد الناصر المرحلة الثانية من حياته. مرحلة السبع الطليق . فبدأ صراعه مع البريطانيين حول الجلاء عن منطقة القناة ، ثم رفضه حلف بغداد، ثم خصومته مع إيدن وحلمه ببناء السد العالى فى أسوان وقراره بتأميم قناة السويس وكانت هذه كلها تعبيراً عن الروح المتمردة الثائرة . فقد كان يشعر بأنه حر فى أن يفعل ما يشاء .

 
ثم وقع غزو السويس وكسب عبد الناصر انتصاراً سياسياً دوليا ساحقاً . فقد دمر آخر قواعد الاستعمار في مصر وأصبح زعيم العرب بلا منازع وواحداً من القادة السياسيين العالميين .

 
لكن ضخامة انتصاره بالإضافة إلى المسئولية الى ألقيت عليه كانت تعنى أن الأيام الخالية لمرحلة السبع الطليق قد ولت إلى غير رجعة . فقد أصبح الآن سبعا مصفداً تغله السلطة الى أودعتها بين يديه أحداث السويس .

 
فقد هب الشعب العربى بأسره يدافع عنه ويناصره فنسفت خطوط النفط وانقطع البترول عن أوروبا الغربية ودخل العالم العربى في مرحلة تحول كان عبد الناصر رمزاً وتجسيداً  له. وبلغت شعبيته مبلغاً زجه عفوياً فى السياسات الداخلية لكل قطر عربي . فقام حزب ناصرى فى كل بلد عربي وكان هذا مما سبب الغيرة وولد الانشقاق .

 
فقد كان بعض تلك الأحزاب ذا قيمة مشبوهة وكان يقول في ذلك بلهجة آسفة : " تعرفون... إنني أستطيع أن أسيطر على من أختار لكننى لا أستطيع أن أسيطر على من يختارنى " .

 
كان هذا هو التفسير الذى دفع به إلى الملك سعود الذى كان بالغ الغيرة منه في ذلك الحين . وفى الواقع كان كل أصدقائه بين الزعماء العرب غيورين منه وكان كل أعدائه من الحانقين الناقمين .

 
تجاوزت " دائرته الانتخابية " حدود تشريع الدولة المصرية وكان يعتمد على تأييد الجماهير العربية الغفيرة خلافاً ونقيضاً لمشيئة طبقاتها الحاكمة ورغبتها . وكان سبيله الوحيد للتأثير فى ثلك الدائرة هو أن يعطيها المثل ، فكان يناضل ، حيثما استطاع سبيلا ، من أجل الحقوق العربية وليس من أجل الحقوق المصرية فحسب .

 
وأدى ذلك به إلى خصومات مع بريطانيا وأمريكا لا بل حتى مع الاتحاد السوفييتى .


 
كان قد حقق حلماً استهـوى فؤاد كل عربي ، فقد ضم سوريا إلى مصر ووحدهما  وبدا أنه أرسى بذلك حجر الأساس فى بناء الوحدة العربية الكبرى . لكن الذى بدأ بداية باهرة انتهى نهاية مفجعة حينما نقضت  سوريا الوحدة ، وبعد ذلك استدرج إلى ميدان اليمن الذى بدا في مبدأ الأمر يسيراً هيناً ثم ثبت أنه أمر عسير حقاً .

 
وألقى عليه اللوم فى كل ما وقع في الشرق الأوسط من متاعب واضطرابات ، وكان رده على اللوم هو: " ليس ما يحدث من فعلى، إن كل ما أفعله هو رد فعل فى الواقع ". وقال للمستر سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية وقتذاك : " إذا كنت تظن- أن لدى على مكتبى " أزراراً أضغطها فتنشب ثورة فى العراق آو يحدث انقلاب في بلد كذا أو تنفجر قنبلة هنا أو تقوم مظاهرة هناك فإنك بذلك تغدق على قوى خارقة لا أملكها .. فلا تبالغ في أهميتي "..

 
-----------------------

 
كانت تلك فترة السبع مقيداً مصفداً حيث كانت تغله أحداث خارج نطاق سيطرته ولم يعد حرأ فى أن يكون ثائراً متمرداً . كان قد أصبح رمز العالم العربي وبهذه الصفة كان عليه أن يحارب بقية العالم بالنيابة عن القومية العربية . كان دوراً مغلا أدى مباشرة إلى المرحلة الأخيرة من حياته ، مرحلة كان فيها السبع جريحاً .

 
كان جمال عبد الناصر ملتزماً بأفكار الوحدة العربية وكان يشعر بالتزام أدبى وسياسى وأيديولوجى حيال الشعب الفلسطينى . فكان  يحس بأن عليه واجباً  تجاه كل أولئك الذين فقدوا أرضهم وبيوتهم وأجبرهم الإرهاب الصهيوني على مغادرتها .

 
ولكنه كان يكره الحرب . كان يكرهها من وجهة نظر شخصية ووجهة نظر قومية.

 
فمثلا لم يؤلف كتائب الفدائيين إلا بعد الغارة الإسرائيلية على غزة فى 28 فبراير ( شباط) 1955 التى قتل فيها 39 مصرياً . وقد كانت تلك الغارة تعبيراً عن سياسة بن جوريون التى تهدف إلى فرض السلام بالقوة . سياسة محاولة حمل الدول العربية على التفاهـم معه بقوة السلاح .

 
ومرة أخرى اضطر عبد الناصر إلى أن يقوم برد فعل .

 
وفى ذلك الحين لم تكن مصر قد بدأت تتلقى الأسلحة من الكتلة الشيوعية ولم تكن مجهزة لخوض الحرب لكنها اضطرت- في مواجهة سياسة بن جوريون القائمة على الغارات الشاملة- إلى الدفاع عن نفسها، وهكذا جرى تنظيم الفدائيين كإجراء دفاعى وكبديل لايصل إلى حد الحرب .

 
فقد كانت تجربته الشخصية للحرب في العلمين والفالوجة قد علمته أن يكرهها . وكلما كان  يتفقد الجنود الشبان ويرى الضباط الكبار فخورين بأدائهم كان يقول : " نعم إن رؤية هؤلاء الشبان تبعث على السرور لكننى لا أستطيع الاستمتاع بها كسائر الناس لأننى أحس دائماً أننى قد أضطر يوما إلى إصدار الأمر إلى هؤلاء الشبان بالانطلاق إلى الموت ... "

 
وبدأ خصامه مع حزب البعث السورى سنة 1959 عندما بدأ الإسرائيليون يحولون مياه الأردن وعندما أراد منه السوريون القيام بعملية محدودة ضد المشروع الهندسى الإسرائيلى على بعد نحو 6 كيلو مترات عبر الحدود.

 
فعارضهم الرئيس عبد الناصر في مجلس الوزراء ، وكانت حجته الأولى في ذلك أنه ربما كان من السهل أن تبدأ حرباً لكنه ليس من اليسير مطلقاً إنهاؤها " .

 
وكانت حجته الثانية أن فكرة الحرب المحدودة وهم في الواقع . إذ قال : " إننى مستعد للقيام بحرب محدودة إذا جاء أحدكم بضمان من بن جوريون بأنه هو أيضاً سيجعلها حرباً محدودة . فلكى تكون الحرب محدودة فإن ذلك يتوقف أيضاً على الطرف الآخر ".

 
وعلى كل وبرغم كراهيته للحرب فقد كان لايزال السبع المقيد المصفد ، ولايزال رمز الوحدة العربية والمقاومة . وهكذا اضطر عندما نشبت الأزمة سنة 1967 إلى أن يقوم مرة أخرى برد فعل بالنيابة عن الشعب العربي .

 
إلا أن الأحداث التى تلت ذلك تركته سبعاً جريحاً وهى جراح لم يبرأ منها قط .

 
فقد تكهن بأن الإسرائيليين - سيبدأون الحرب بضرب مطارات مصر فكان يحذر السلاح الجوى باستمرار ليكون على أهبة الاستعداد ومتيقظاً لأى هجوم مفاجىء . ومع ذلك فعندما وقع الهجوم ، حدث ما كان يخشاه تماماً ، إذ فوجىء السلاح الجوى بالهجوم وهو على غير استعداد على الإطلاق . وأحس في القيادة العامة صباح اليوم الأول من الحرب بجو الذعر الذى كان سائداً ، ومنذ تلك اللحظة فقد الثقة. وحاول أن يعزز معنويات قادته مهيباً بهم أن يقاتلوا حتى تهب القوى العالمية والنظام الدولى كله- كما حدث في السويس لنجدتهم وتجبر الإسرائيليين على التوقف عن هجومهم .

 
لكن الأحداث كانت تتلاحق بسرعة فائقة، فقررت قيادة الجيش إخلاء سيناء واتخذ هذا القرار دون استشارته. ولما سمع بقرار الانسحاب من سيناء بكى لأول مرة في حياته وتوجه إلى مقر القيادة العامة وحاول أن يوقف الإنسحاب . وكان الأوان قد فات . إذ كان الجيش المصرى قد هزم .

 
ومع الهزيمة أتت المذلة . قرر أن يستقيل وكان مستعداً كل الاستعداد لمواجهة المحاكمة عن مسئوليته. كان مستعداً بل متشوقاً تقريباً لتسليم نفسه للشعب .

 
وقد قال في ذلك : " إذا وجدني الناس مذنباً وشنقونى في ميدان التحرير، فإني سوف أقبل حكمهم بكل رضا ".

 
لكن الناس تحركوا فى اتجاه مضاد كلياً . فعندما ألقى خطابه [ في 9 يونيو 1967] متحملا المسئولية معلناً انسحابه من الحياة السياسية قائلا إنه مستعد لتقبل أى قرار قد يتخذه الشعب : توسل إليه الشعب أن يبقى.

 
دهشه ذلك وأذهله. كان مستعداً لأن يتحمل المسئولية كلها. ولكن بدلا من ذلك هب الشعب العربي كله مرة أخرى يؤيده ويرجوه أن يبقى . فقد شعر العرب بأنه لا يزال يمثل إرادتهم ، وأرادوه أن يقودهم لمحو آثار الهزيمة.

 
سلم بحكمهم . لكنه بدأ يبنى على الأنقاض .

 
واضطر إلى أن يتخذ قرارات خشنة. ففد اضطر إلى إقالة المشير عبد الحكيم عامر برغم أنه كان فى وقت من الأوقات أقرب أصدقائه، وإلى إقالة جميع قادة الجيش السابقين .


 
وهكذا بقى وحيداً كل الوحدة . وشعر في وحدته بأن هناك مؤامرة تحاك ضد كل الاتجاه الذى يمثله فى الثورة العربية سواء فى الجانب السياسى أو القومى أو الاجتماعي . وكان يشعر بالألم رغم تأييد الشعب ودعمه له. كانت جراح روحه عميقة .

 
وللمرة الأولى في حياته بدأ يحتاج إلى أقراص منومة بعد أن كان موهوباً بالقدرة على أن ينام نوماً عميقاً . بل انه حتى في أثناء حملة السويس استطاع أن يأوى إلى الفراش وينام حيثما احتاج إلى ذلك. وفي الليلة التى كان أسطول الغزو البريطاني يقترب من السواحل المصرية أوى إلى فراشه تاركاً أوامر تقضى بأن لا يوقظ إلا عندما تبدأ عمليات الإنزال الأولى .

 
غير أنه فقد هذه القدرة بعد 1967. وأصابه الإعتلال وأخذ يتحدث عن الاستقالة. لكنه ظل يشعر بألم الهزيمة ومسئوليته وبعبئه المستمر كتعبير عن الروح العربية.

 
أصبح الآن مغلولا وجريحاً بجراح لا تبرأ. ثم انتقل إلى رحاب الله في 28 سبتمبر (أيلول) 1970 وبكاه شعبه وأمته والعالم كما لم يحدث لزعيم آخر ربما بطول التاريخ كله .

 
مات السبع لكن إنجازاته ظلت حية بعده . لقد ربط مصر ببقية العالم العربي وربط العرب بالعالم المعاصر وأفكاره بالرغم من أنه لم يحقق الوحدة العربية الشاملة التى كان يحلم بها ويعمل من أجلها فقد جسد وبلور الحاجة إليها. وربما ثبت استحالة تحقيق هذه الوحدة في حياته لكنه أصبح من المستحيل ، - بعد عهده- تجاهلها.

 
ولقد غير وجه العالم العربي وغير الألوان على الخريطة فلم تعد الألوان الحمراء البريطانية والخضراء الفرنسية تشير إلى حدود الأقطار العربية. ذلك أن المستعمرين رحلو إلى الأبد . كذلك فقد حطم النمط الإقطاعى للحياة العربية .

 
وفي مصر وطد الاستقرار الذى مكنه من إحداث التغيير وما كان في وسع أي حكومة مصرية- تستند إلى النظام الحزبي القديم والضعيف الواهى- أن توفر الاستقرار اللازم لكى تتصدى لتنفيذ المشاريع الكبرى مثل السد العالى وكهربة وادى النيل . فأمثال تلك الحكومات كانت أضعف وأكثر جبناً من أن  تقوم بالمشاريع الكبرى التى تمس إليها الحاجة إلى تغيير وجه البلاد .

 
وقد وفر عبد الناصر الاستقرار فى الحكم الذى سمح بحدوث التغييرات الجوهرية الماثلة والمجسدة فى برنامجه المتعلق بالإصلاح الزراعى والتصنيع والمشاركة العمالية في الاقتصاد.

 
وبعد أشهر من وفاة جمال عبد الناصر أجمل لى (أندريه مالرو)- المفكر الفرنسى العظيم- رأيه فيه بقوله:

 
" بغض النظر عن كل شيء ... بغض النظر عن النجاح أو الفشل ، والنصر أو الهزيمة، فإن عبد الناصر سيدخل التاريخ كتجسيد لمصر كما دخل نابليون التاريخ تجسيداً لفرنسا ".
 
عبد الناصر ودالاس
سياسة حافة الهاوية
 
لم يلتق جمال عبد الناصر وجون فوستر دالاس ، الرجلان اللذان قدر لهما أن يكونا أكثر الناس تأثيرا فى مجرى التاريخ الحديث للشرق الأوسط ، سوى مرة واحدة .

 
كان ذلك في مأدبة عشاء فى السفارة الأميريكية بالقاهرة يوم 11 مايو (آيار) 1953. وكان عشاء بسيطاً : حساء ، سمك موسى ، وشريحة من اللحم الضأن ومرطبات مثلجة، ولم تقدم مشروبات، احتراماً للضيوف المسلمين ، لكن الأمريكيين شربوا كأساً أو كأسين من الويسكى ، قبل وصول عبد الناصر .

 
على أن المناسبة لم تكن بسيطة، فقد جاء دالاس إلى القاهرة بهدفين:

الأول أن يحاول- كما كان يحلم- ترتيب صلح بين العرب والإسرئيليين ، والآخر الاستمرار فى محاولة تطويق الاتحاد السوفييتى، بأحلاف عسكرية وسياسية ، وهى خطة كان يتابع تنفيذها بإصرار يكاد يشبه الهوس الدينى ، وكانت الدافع وراء كل أعماله وتصرفاته فى الشرق الأوسط..

 
وفي الجانب المصرى كان اللواء محمد نجيب لم يزل الرئيس الإسمى للثورة ، مع أنه كان قد وضح الآن- وبعد مرور عشرة أشهر على خلع الملك فاروق - أن عبد الناصر هو الرجل الذى يملك السلطة. وكان ما يريده عبد الناصر، هو السلاح للدفاع عن بلاده ضد خطر العدوان الإسرائيلي .

وهكذا جلس الاثنان، الرجل الأشيب الذى يتخذه الغرب بطل ا، والضابط الشاب قاثد الثورة القومية إلى المائدة، يكسران الخبز معاً، بينما تخامركل منهـما آمال متباينة جداً عما يمكن أن ينبثق عن لقائهما.

 
وراح دالاس يحاول اكتساب مودة عبد الناصر برواية سلسلة من الحكايات عن السياسات الدولية والمساومات الدائرة بين مختلف الدول ، وقد أعجب عبد الناصر بما سمع وتأثر به، ووجد أن دالاس ليس عنيداً أو متعنتاً فى كرهه للشيوعية فحسب ، بل اكتشف أيضاً أنه يستسيغ النكتة ويتمتع بقدرة " على الإصغاء والاستيعاب .

 
وثمة واقعة فى تلك الليلة أثرت بشكل خاص فى عبد الناصر:

 
عندما وصل دالاس إلى مطار القاهرة صباح ذلك اليوم أدلى بتصريح عبر فيه عن سروره بوجوده فى مصر، البلد ذى الحضارة العظيمة  وقال إنه سيدرس مع زعمائها مشاكل الدفاع عن العالم الحر " وإن اللواء محمد نجيب هو أحد زعماء العالم الحر البارزين فى فترة ما بعد الحرب ".

 
وكان ذلك كلاماً متقناً ، فى ظاهرة

 
على أن عبد الناصر فاتحه بشأن ذلك التصريح  قائلا:

 
" لم أستسغ تصريحك اليوم "


 
ورفع دالاس ناظريه مندهشاً واحتج بأنه قال ذلك بروح الصداقة . فأوضح له عبد الناصر أن عبارة " العالم الحر " لها مضامين مؤسفة لا يرتاح إليها المصريون ( ذلك لأن البريطانيين احتلوا بلادنا لتأمين مواصلات " العالم الحر ". وهكذا فإن عبارة " العالم الحر " بالنسبة إلينا باتت تعني الإمبريالية والتسلط ، وعندما استخدمت هذه العبارة صباح اليوم فإنك تركت تأثيراً سيئاً ).

 
وقبل دالاس وجاهة الاعتراض على الفور واستدعى أحد مساعديه وأصدر تصريحاً آخر، كان أكثر مراعاة لمشاعر المصريين .

 
وقد تمت زيارة وزير الخارجية الأمريكية للقاهرة قى وقت زادت أمريكا من إقحام نفسها فى الشرق الأوسط . وكان الكثيرون فى المنطقة يتطلعون إلى ذلك برجاء . فقد كانت صورة الولايات المتحدة فى ذلك الحين صورة براقة . فقد كانت بريطانيا وفرنسا إمبراطوريتين مكروهتين وفى طريقهما إلى الزوال . وكانت روسيا على بعد خمسة آلاف ميل وإيديولوجية الشيوعية حراماً فى نظر الديانة الإسلامية، أما أمريكا فإنها كانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية وهى أغنى وأقوى وأكثر جاذبية من أى زمن مضى.

 
وكانت هوليوود تخرج يومياً أفلام الحرب التى تظهر الأمريكيين أبطالا وتصور غيرهم أشراراً ، كما كانت الثلاجات الكهربائية، وأجهزة التليفزيون وجميع الأدوات الحديثة لحياة العصرية تأتى من أمريكا.

 
وهكذا كانت الولايات المتحدة تحيط بها كل معاني النجاح والفتنة، براقة متسامية على الفشل الذريع الذى منى به الاستعماريون القدامى ، وكان الناس متجاوبين مع فكرة قيام الأمريكيين بدور رئيسى في الشرق الأوسط ، ومستعدون لقبولها .

 
وكان الأمريكيون، من جهتهم لهم خططهم، كانوا يهتمون اهتماماً جيوياً ببترول الشرق الأوسط . كما كانوا يرغبون في إقامة محطات على طريق شبكة مواصلاتهم الجوية العالمية النطاق ، وكانوا مشغولين- إضافة إلى ذلك- بإدارة الحرب الباردة ، وكانوا يتوهمون الحاجة إلى ملء  الفراغ الذى خلقته بريطانيا وفرنسا، وكانوا ضالعين فى مساعدة الصهيونية، وكانت هذه كلها عوامل تضافرت جميعاً لتجر الولايات المتحدة إلى منطقة اهتزت واضطربت بغليان القومية العربية التى كانت الثورة المصرية خير تعبير عنها .

 
وثمة مفارقة مضحكة لكنها تشهد على الأهمية المتزايدة لأمريكا في مصر فى ذلك الحين ، هى أنه ليلة وقوع الثورة بعث زعيما الجانبين : الرئيس عبد الناصر والملك فاروق بمبعوثين عنهما إلى السفير الأمريكى جفرسون كافرى .

 
وقد كان هناك احتمال بديهى بأن يتدخل الجيش البريطاني ، انطلاقاً من قاعدته في منطقة القناة، لمصلحة النظام القديم . وكانت ثمة سابقة لهذا التدخل ، إذ جرت فى الجانب البريطاني مناقشات جدية حول وجوب التدخل أو عدمه- أثناء حريق القاهرة قبل خمسة أشهر من الانقلاب .

 
وكان السير رالف ستفنسون- السفير البريطانى آنذاك- ضد التدخل لكن الجنرار إرسكن- القائد الأعلى البريطاني- كان يحبذه. وفى النهاية لم يتدخل البريطانيون ، لكن ذلك كان احتمالا اضطر عبد الناصر إلى أن يدخله في حسابه على اية حال . 

 
من هنا فقد اتخذ- قبل كل شئ- احتياطات عسكرية بإرسال كتيبة لقطع الطريق إلى السويس . وتم إعداد خط دفاعى على عجل، واستبقى عدد إضافى من القوات كاحتياط لمواجهة أي هجوم بريطاني .

 
وكانت هناك حاجة ماسة إلى مسعى سياسى يوازى الاحتياطات العسكرية، ويسير معها جنبا إلى جنب. فقد أراد عبد الناصر أن يعرف العالم أن الثورة من الشئون الداخلية التى تخص مصر وحدها ولا تمس مصالح الأجانب القاطنين في مصر أو سلامتهم .

 
وهكذا قرر في الساعة الثالثة من صباح الانقلاب أن يبعث برسالة إلى السفير الأمريكى يشرح فيها أهداف الثورة .

 
ولكن وقفت هناك عقبة. فلم يكن بين الضباط الشبان من كان يعرف السفيركافرى ، كما أن صعوبة تسليم مثل هذه الرسالة التى أرادوا إيصالها إلى السفير في ذلك الوقت المبكر من الصباح ( وجعل السفير يصدقهم) كانت واضحة.

 
عندئذ قال على صبرى- الذى لم يكن ضمن مجموعة الضباط الأحرار التى قادت الثورة وإنما كان واحدأ من الذين اجتذبتهم ضجة الفجر فى القوات المسلحة- إنه على صلة بالملحق الجوى الأمريكى وإنه يعرفه.

 
وهكذا وضع فى سيارة أسرعت به إلى منزل الملحق . وبعد نصف ساعة كان كافرى قد تسلم- رسالة عبد الناصر التى توضح أن الثورة من صميم شئون مصر الداخلية وتحذر من أى تدخل بريطاني .

 
ولكنه تبين بعد ذلك أن البريطانيين لم يعرفوا شيئا عن الثورة إلا بعد أن أضحى تدخلهم عديم الفائدة حتى لوكانوا قد أرادوا التدخل . ففى ظهر ذلك اليوم كان الشعب المصرى قد منح الضباط الشبان تأييده فأصبح أى تحرك بريطاني غير ذي جدوى .

 
وفي الوقت ذاته بعث الملك فاروق ، وهو في حالة من الذعر البالغ برسالة الى الامريكيين ، كتبت بطريقة تنم عن شخصيته تماماً مثلما كانت رسالة عبد الناصر تنم عن شخصيته.

 
فعندما كان الملك طفلا كان يعمل فى القصر الملكى ميكانيكى إيطالى  شاب يدعى أنطونيو بوللى . كان يقوم بإصلاح قطار الملك الكهربائى حينما يتوقف عن السير وقد تصادقا منذ ذلك الحين ثم أنشأ له الملك منصباً جديداً هو منصب السكيرتير الخاص لشئون  الملك الخاصة ومنحه لقب بك ".

 
كان بوللى مسئولا عن تدبير حفلات المقامرة- القمار- وسهراته ومغامراته العاطفية. وسرعان ما أصبح بالغ النفوذ حتى أصبح فى إحدى المراحل حاكم مصر الفعلى .

 
وبعد الثورة افتتح مطعماً وقيل تعليقأ على ذلك أنه تحول من الخدمات الملكية الخاصة إلى الخدمات العامة!.

 
وقد قام بوللى، ليلة الثورة بإيفاد مساعده إيلى يحمل رسالة من الملك إلى كافرى ثقول إن الملك يعتقد أن الوضع يتطور تطوراً خطيراً  ويسأل عما إذا كانت هناك بالقرب من الإسكندرية مدمرة أمريكية تستطيع أن تنقله إلى بر الأمان إذا اقتضت الضرورة ذلك .



 
وأحال كافرى  طلب فاروق إلى واشنطن وعندما زال الخطر عن حياة الملك فى وقت لاحق، أبلغ الأمر إلى سلطات الثورة. وقال للضباط الشبان إن واشنطن ردت بأنه ليست هناك أية مدمرات على قرب كاف، لكن تعليماته كانت أن يفعل كل ما هو ممكن لتأمين سلامة الملك .

 
حدث ذلك في اليوم الثاني للثورة ، وكان عبد الناصر قد ربح معركته من أجل الحفاظ على حياة فاروق وأمر الملك بمغادرة البلاد.

 
واتصل الملك . الذى كان مازال ينشد الحماية الأمريكية- بالسفير كافرى تليفونياً وطلب إليه أن يلازمه حتى يغادر مصر. وذهب السفير الأمريكى إلى القصر وبقى هناك بينما كان فاروق يحزم أمتعته ثم توجه معه إلى السفينة.

 
إذن ، كانت هناك صلة واضحة، تبين مدى دور أمريكا ونفوذها في ذلك الحين فقد كان ممثلها آخر من يودع بقايا النظام القديم وأول من يتصل بالعهد الجديد.

 
وراحت الولايات المتحدة تركز فوراً على هذه الصلة. فزادت من عدد الديبلوماسيين فى السفارة ( وكان بعضهم تابعاً لوكالة المخابرات المركزية C.I.A  لكن ذلك لم يكن معروفآ آنذاك )، كما أظهرت كل نية طيبة حيال مصر، التى ولدت من جديد.

 
وبدا كما لو كانت ثروات العالم الجديد وقوته ستساعد أحد أعرق أقطار العالم على التحرر من ربقة الاستعمار.

 
وقد كان هذا هو الجو الذى اتخذ فيه الرئيس عبد الناصر الخطوة التى ترتب عليها الكثير من الأمور: طلب من الأمريكيين أن يمدوه بالسلاح .

 
وقد كان أول رد فعل لهم هو الدهشة . كما كان رد فعلهم مثيراً للدهشة.

 
فقد أشاروا إلى أن مصر وأمريكا مرتبطتان بعقد تسلح وأبرزوا اتفاقاً سرياً عقد مع حكومة فاروق بعد حريق القاهرة فى فبراير (شباط) 1952، يوافق بموجبه الأمريكيون على تزويد مصر بأسلحة قيمتها (5.000.000 دولار ( خمسة ملايين )

 
وكانت هناك قائمة بالمشتريات متفق عليها . لكن ما أن تصفح عبد الناصر القائمة حتى اكتشف أنها لا تحتوى ما يريده على الإطلاق : ذلك أن حكومة فاروق التى شغلتها مسألة الأمن الداخلى بعد حريق القاهرة . طلبت مصفحات ومدافع رشاشة. وغير ذلك من الأسلحة التى يمكن استخدامها للسيطرة على الشعب. أما عبد الناصر فقد كان يرغب في الطائرات والمدافع والمدمرات لحماية حدود البلاد.

 
قال للأمريكيين : إن واحداً من أسباب الثورة : ضعف جيش مصر، وإن هذا الجيش خاض معركة خاسرة في فلسطين عام 1948 بذخيرة فاسدة اشتريت بأسعار خيالية من أوروبا ، وقتلت من الجنود المصريين أكثر مما قتلت من جنود العدو.

 
وأضاف عبد الناصر أن الثورة قامت بها عناصر من الجيش وأنها برغم كونها ثورة شعبية فإن الجيش هو الذى قادها، وأن الضباط مصممون على أن يكون لهم جيش قوى . ذلك أنهم كانوا يريدون أن يكونوا أقوياء نفسياً ، وعملياً كذلك . ليصبح في إمكان مصر الدفاع عن نفسها.

 
وأبلغ عبد الناصر السفير كافرى أيضا أنه إذا باع الأمريكيون السلاح إلى مصر فإن ذلك من شأنه أن يعزز هيبة الولايات المتحدة ، وتعهد له بأن الأسلحة سوف تستخدم فى الدفاع عن النفس فقط .

 
وفي اكتوبر ( تشرين الأول ) طلب الى مصر أن تقدم قائمة جديدة بحاجاتها لتحل محل القائمة القديمة . وسلمت هذه القائمة الجديدة إلى الملحق العسكري الامريكي . 

 
وكانت المواد الرئيسية في اللائحة تشتمل على معدات و تجهيزات لفرقة مدرعة واحدة بدباباتها ووسائل نقلها ومدفعيتها ومدافعها المضادة للطائرات . وثلاثة أسراب من الطائرات النفاثة المقاتلة.

 
وفى 5 نوفبر ( تشرين الثاني ) ، وصل المستر وليم فوستر ، مساعد وزير الدفاع الامريكي ، الى القاهرة ، وقام كافري السفير الامريكي في القاهرة بدعوة عبد الناصر الى تناول العشاء معه ، في السفارة الامريكية للبحث في موضوع الاسلحة .

 
كان اللقاء ناجحا توسع خلاله المستر فوستر في الحديث ودرس لائحة الاسلحة المطلوبة وأشر على المواد التي يمكن بيعها وبحث في طريقة الدفع – على اقساط بعضها بالقطن المصري – وقال انه إذا نمت العلاقات بين البلدين فإن امريكا قد تضرب صفحا عن بعض المستحقات .

 
وفي نهاية السهرة اقترح فوستر أن تسافر بعثة مصرية إلى أمريكا للقيام بجولة في القواعد العسكرية .. والتحدث الى المسئولين عن تزويد الاسلحة وتهيئة شحنها .

 
وبعد ذلك بفترة قال السفير كافري إنه يعتقد أن فوستر توسع حتى ذهب إلى أبعد مما يجب وأنه تجاوز صلاحياته وأنه تحدث بعد عشاء فاخر وسيجار كوبي ثم نسي نفسه في الحديث .. لكن أحدا لم يكن يعرف ذلك في هذا الوقت ، وكان التصور أن كل شيء قد يسير على ما يرام .

 
وفعلا بدا أن كل شيء يسير بصورة حسنة . فقد تألفت البعثة برئاسة على صبري . وغادرت مصر في مهمة كان الجميع يتوقعون أن تنجح .

 
---------------------------

 
وفي عهد فاروق كان الامريكيون ومعهم البريطانيون والفرنسيون والاتراك قد اقترحوا على مصر دخول حلف دفاعي يدعى ( منظمة حلف الشرق الاوسط ) METO ولكن الفكرة سرعان ما قوبلت بسخرية . وسماه البعض تندرا بمنظمة أنا أيضا ME TOO ( وهو تعبير يطلق على السياسي المفلس من الافكار والذي يقلد برامج المرشحين الآخرين ) . ولم تعمر الفكرة طويلا . وعند احيائها من جديد دعيت باسم " منظمة الدفاع عن الشرق الاوسط " .

 
وعلى كل كانت فكرة أحلاف المنظمات الدفاعية الهادفة إلى تطويق الاتحاد السوفييتى بالقواعد ، برغم افتقارها إلى النجاح، ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الأمريكيين . وعندما كانت بعثة السلاح المصرية فى أمريكا جرى من جديد تعويم فكرة عقد حلف عسكرى إسلامى .

 
وكان الرجل الذى طرح الفكرة : الجنرال أولمستد مدير برنامج المساعدة العسكرية الخارجية ، الذى أبلغ بعض المصريين فى واشنطن أن إمكانيات عقد حلف إسلامي سوف تكون عظيمة، لأن مثل هذا الحلف سيضم ثلاث عواصم : أنقره . عاصمة أكثر الدول الإسلامية تمدناً وعصرية . وكراتشى عاصمة أكثر الدول الإسلامية كثافة في السكان . والقاهرة ، عاصمة أقوى الدول الإسلامية نفوذاً وأعلاها مقاماً .

 
ومضى يقول إن مثل هذا الحلف- إلى جانب أنه يهدف إلى الدفاع عن الشرق الأوسط- سوف-يكون ذا تأثير هائل على مسلمى الاتحاد السوفييتى والصين . ثم صدم محدثيه بالكلام عن كيفية تأليف طابور خامس في هذين البلدين وكان ذلك مثيراً للاستغراب والدهشة تماماً ، لأنه كان خارج تفكير مصر الثورة تحت كل الظروف .

 
وأزاح الجنرال الأمـيريكى ستاراً يغطى خريطة كبرى على حائط  مكتبه . وكانت الخربطة مليئة بالدبابيس والأعلام . والتقط مؤشرا طويلا وبدأ يشرح معنى الدبابيس والأعلام ثم أشار إلى منطقة وضعت فيها دباببس قليلة وقال :

 
" يجب أن نضع بعض الدبابيس والأعلام هنا . إن ثمة فراغأ هنا ".

 
كان يتحدث عن المنطقة التى يشملها الحلف الإسلامى المقترح . وكان تصرفه كله في غاية الغرابة . فقد كان كل ما يرغب فيه هو أن يملأ خريطته بالأعلام والدبابيس ..

 
وبالرغم من ذلك فقد بدا أن كل شئ يسير على ما يرام بالنسبة إلى بعثة الأسلحة، فقد تباحث على صبرى مع الجنرال عمر برادلي فيما تطلبه مصر وتم تأليف لجان فرعية للبحث في التفصيلات الفنية.

 
وكان الرئيس عبد الناصر واثقاً من النجاح إلى درجة أنه أبلغ الوحدات العسكرية التى زارها أنها ستتلقى أسلحة جديدة من الولايات المتحدة وأن الشحنات الأولى ستصل قريباً .

 
وذات يوم كان يتحدث بهذه الطريقة إلى أحد الضباط ويبلغه أنه ينتظر الشحنة الاولى فأجابه الضابط:

 
" سيادة الرئيس إننى أخشى أن يكون على صبرى نفسه الشحنة الأولى ! " . وروى عبد الناصر هذه القصة للسفير كافرى وسأله :

 
" ما الذى يحدث؟ ماذا حل بعلى صبرى؟ "

 
فكرر السفير طمأنته، وفى الوقت ذاته تقريباً بعث على صبرى إلى القاهرة برسالة يقول فيها إن كل شئ يسير على ما يرام وطلب إحداث تعديلات في المطارات العسكرية بحيث تكون مستعدة لاستقبال الطائرات النفاثة.

 
لكن الوقت أخذ يمر. وجاء عيد الميلاد، ولم يحدث شىء محدد، و لم تصل أية أسلحة . وبدأت البعثة تشعر بخيبة أمل . وقيل لأعضائها إنه لايمكن اتخاذ أى قرار لأن هناك تغييراً وشيكا فى الحكومة. ذلك أن ايزنهاور كان على وشك تسلم زمام الرئاسة من  ترومان . وأنه لا يمكن عمل شئ قبل تنصيب الرئيس الجديد.

 
غير أن الجانب الأمريكى أكد لهم أن الطلب المصرى موجود فعلا على مكتب الرئيس الجديد وسيكون من بين الأمور الأولى التى سيبت فيها .



 
وهكذا عاد على صبرى إلى القاهرة ، وثارت شكوك . فيما إذا كانت بعثته ستصادف النجاح في النهاية على الإطلاق ، لكن الشعور السائد وقتها أنه إذا كانت مصر قد انتظرت ثلاثة أشهر فيمكنها أن تنتظر شهراً آخر حتى يتسلم الرئيس الأمريكى الجديد منصبه.

 
------------------------

 
في هذه  المرحلة دخل دالاس المسرح حاملا تعصبه التبشيرى ، المكرس لاحتواء الشيوعية . وقد رأى أن وضع الشرق الأوسط من الأهمية بحيث يستدعى حضوره إلى القاهرة بعد أربعة أشهر فقط من تسلمه منصب وزير الخارجية الأمريكية . وفى تلك المناسبة جلس يتناول العشاء مع الرئيس عبد الناصر .

 
وتحدث الاثنان بعد العشاء لمدة ساعتين . وبادر عبد الناصر بفتح موضوع الأسلحة على الفور، فقدم دالاس أول إيضاح لإرجاء أيزنهاور تزويد مصر بالأسلحة التي تحتاج إليها ، فقال إن السير ونستون تشرشل رئيس الوزارة البريطانية اتصل تليفونياً بالرئيس الأمريكى الجديد المنتخب ، وحثه على أن لا يبيع إلى المصريين سلاحا " حتى لا يبدأ رئاسته بتزويد مصر بأسلحة قد تستخدم في قتل الجنود البريطانيين الذين خدموا تحت أمرة ايزنهاور اثناء الحرب العالمية الثانية " .

 
وقال دالاس إن هذا الرجاء أثر فى أيزنهاور تأثيرا عميقا ، فطلب قائمة الأسلحة التى يريدها عبد الناصر وعندما درسها وجدها تحتوى فى المقام الأول على أسلحة خفيفة ومدافع بازوكا ورشاشات ، أى نوع الأسلحة التى يمكن استخدامها في حرب عصابات تشن على البريطانيين في منطقة قناة السويس. وبدا له أن مخاوف تشرشل لها ما يبررها وهكذا قرر ألا يفعل شيئاً . لم يرفض إعطاء الأسلحة فوراً إنما اكتفى بالاحتفاظ بالطلب المصرى فى ملف " القضايا المعلقة " .

 
ولم يكشف الستار . إلا بعد وقت طويل ، عن أن ماقدم إلى الرئيس أيزنهاور كان قائمة أخرى . وهى القائمة التى كان الملك فاروق قد تقدم بها للحصول على أسلحة خاصة بالأمن الداخلى ولم تكن قائمة الرئيس عبد الناصر الخاصة بالأسلحة المطلوبة للدفاع الوطنى .

 
ومضى دالاس يقول لعبد الناصر في ذلك اللقاء بينهما في السفارة الأمريكية بالقاهرة " إنه سينظر إلى الطلب المصرى بعين العطف وأنه سيحاول في الوقت نفسه المساعدة على حل المشكلات التى كانت قائمة بين بريطانيا ومصر". وانتقل بعد ذلك الى الموضوع الذى كان يهمه أكثر من أى شئ آخر:

 
وهو اقامة الحلف المناهض للشيوعية .


تحدث دالاس . عن الحاجة إلى أحلاف أمن مشتركة ولاسيما منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط MEDO وشدد على أهمية اشتراك مصر في هذه المنظمة .
 
 وسأله عبد الناصر لماذا يجب أن تنضم مصر إليها؟ ضد من ستدافع هذه المنظمة؟

 
فرد دالاس :

 
" ضد الاتحاد السوفييتى "

 
ودهش عبد الناصر وقال متسائلا :

 
" ولماذا؟ إن الاتحاد السوفيتي يبعد عنا 5 آلاف ميل ولم نقم قط مشاكل معه كما أنه لم يهاجمنا أبدأ. ولم يحتل أرضنا اطلاقاً. ولم يكن له قط قاعدة فى مصر بينما لاتزال بريطانيا في مصر احتلالاً استعماريا منذ سبعين عاماً ".

 
فقال دالاس :

 
لا بأس .. لكن الإنجليز الذين سيبقون هنا فى ظل هذا الحلف سيبقون في القاعدة تابعين للحلف ولن يسمح لهم برفع العلم البريطاني إنما سيكونون في ظل علم الحلف ".

 
وكان ذلك تفكيراً غريباً رد عليه عبد الناصر بقوله :

 
" إننى إذا أخبرت شعبى أن وضح البريطانيين هنا سيتبدل وأنهم سيتحولون من محتلين إلى شركاء بمجرد تغيير العلم فإنهم سيضحكون على .

 
إنهم سيفقدون إيمانهم بي وسوف يقوم  أناس آخرون يبدأون نشاطهم سراً تحت الأرض ويربحون ثقة الشعب. وإذا توقفت عن قيادة شعبى كزعيم قومي فإن قادة وطنيين آخرين سوف يقومون ، ويجب أن يقوموا وسوف يقودون المصرين وسيستثمرون مشاركتى وعضويتي فى الأحلاف المعقودة معكم ليقولوا اننى عميل لكم وصنيعتكم.

 
وكيف أستطيع أن أتوجه إلى الناس وأقول إننى أغض الطرف عن قاتل فى قناة السويس يسدد إلى مسدسا من مسافة 60 ميلا لأننى قلق من شخص يحمل مدية على بعد5000 ميل؟

 
إنهم سيقولون لى : لنبدأ أولا بالأمور الأولى والأهم . ان على الشعب أن يملك استقلاله قبل أن يبدأ بالاهتمام فى الدفاع عنه.

 
إننا لسنا مستعدين للبحث فى الأحلاف أو أية إجراءات دفاعية ما لم ندرس ذلك بإرادتنا الحرة ".

 
وقال إنه لايمكن أن يبحث فى هذا الأمر قبل أن يجلو البريطانيون عن منطقة القناة وإلا فإنه سيبدو مرغماً بضغط من الـ 80 ألف جندى بريطاني المرابطين في قناة السويس .

 
واستمد دالاس من هذه الحجة بعض الأمل . وشعر أنه بعد جلاء البريطانيين عن القواعد قد يكون من الممكن إقناع عبد الناصر بالانضمام إلي حلف دفاعى .

 
وقد أقر عبد الناصر أيضأ بالحاجة إلى الدفاع عن مصر ضد أى تدخل حتى الشيوعية إذا أصر دالاس لكنه أضاف : " إنما ، ما هى الطريقة للدفاع عن أنفسنا ضد الشيوعية؟ انني لا أعتقد أن الهجوم الشيوعى سيأتي عبر حدودنا ، لأنه ليست لنا حدود مع الاتحاد السوفييتى ، لكنه سيأتي عبر جبهتنا الداخلية ولذا فإن ما نحتاج حقاً إلى الدفاع عنه ضد الشيوعية هو جبهتنا الداخلية وليس حدودنا " .

 
وحذر دالاس قائلا:



 
" أعتقد أنك تعقد مباراة كرة القدم ، إن المستقبل هو للوطنية ولقد أخرج الاستعمار من اللعبة وباتت المباراة الآن بين فريقين : الوطنية وأى فريق آخر يريد إغفال الاعتبار الوطنى حتى لو كان هذا الفريق هو الشيوعية. وإذا أصررت على اللعب فإنك ستفسد المباراة على الآخرين ".

 
تأئر دالاس بهذه الحجج، التى يبدو من البديهى أنها لم تطرح عليه من قبل ، وفى نهاية النقاش والبحث اللذين امتدا ساعتين قال إنه يظن أن خللا قد حدث فى الاتصالات بين البلدين ، ومن المحتمل أنه اتخذ آنذاك قراره باستبدال السفير جفرسون كافرى .

 
كان صحيحاً بالتأكيد أنه حدث خلل فى الاتصالات بين القاهرة وواشنطن ، فقد كان كافري حينئذ قد جاوز الستين، وكان قد أمضى معظم حياته المهنية فى أوروبا وبدا أنه وجد من الصعب التعامل مع ضباط عرب شبان ، فعين موظفاً شاباً هو وليم ليكلاند ، المستشار في السفارة ، ليقوم بمهـمة ضابط الاتصال مع الضباط .

 
وذهب الرئيس عبد الناصر عدة مرات لتناول العشاء في منزل ليكلاند حيث يبحثان العلاقات بين بلديهما، وكان لدى عبد الناصر انطباع بأن بيل ليكلاند رجل مهم .

 
ولذا فإنه عندما قال عبد الناصر خلال العشاء مع دالاس ، أنه نقل مشاعره إلى السفارة حول مواضيع معينة، تعجب دالاس لأن أحداً لم يطلعه على ذلك. وأخذ يستفسر من عبد الناصر عن هذه النقاط ، وكان الرئيس يجيبه " أجل . لقد قلت لبيل " أو " أبلغت بيل بذلك " أو " وكما قلت لبيل .. "

 
وبعد فترة لم يعد في استطاعة دالاس أن يتحمل أكثر من ذلك فانفجر قائل ا: " بحق السماء ... من هو بيل هذا ؟ "

 
وكان بيل المسكين يقف متوارياً فى طرف الغرفة إلى جانب الباب ، يحاول الاختباء وأن يغطى الحرج الذى وقع فيه . فقد انكشف وضعه ومركزه الحقيقى .

 
------------------------------------------------

 
كانت لذلك العشاء أهميته البعيدة المدى . فقد تأثر دالاس بقوة الحجج الى أوردها عبد الناصر ضد الانضمام إلى حلف دفاعى مشترك ، كما أنه تراجع بعد ذلك عن التأييد المطلق لحلف بغداد.

 
وأصبح دالاس مقتنعا بالحاجة إلى تسهيل طريق الانسحاب البريطانى من مصر، بل أصبح أكثر تصميما على محاولة إقامة سلام بين إسرائيل والدول العربية وقرر أن يستبدل جفرسون كافرى.

 
على أن النتيجة الفورية المباشرة التى كان الرئيس عبد الناصر يرغب فيها لم تتحقق . فلم تعط لمصر أية أسلحة أمريكية. بل الواقع أن الأسلحة الوحيدة  التى بعثت بها الولايات المتحدة إلى مصر، كانت عبارة عن زوج من مسدسات " الكولت " عيار 38 ملليمتر ، المطلية بالفضة، كان دالاس قد حملها معه لإهدائها إلى اللواء محمد نجيب .

 
ولما سمع السير ونستون تشرشل بخبر المسدسين أجرى مكالمة تليفونية ثانية مع الرئيس أيزنهاور، وفى هذه المرة احتج تشرشل على الناحية الرمزية الكامنة في المسدسين . وقال إنها علامة سيئة، ومن شأنها تشجيع  المصريين !

 
 ثم سارت الأحداث فى هدوء ، فترة من الوقت بعد عودة دالاس إلى واشنطن . كان الوقت وقت الديبلوماسية، وقد قرر أن من الأفضل ترك الدول العربية تعالج شئونها بنفسها فى الوقت الحاضر، وركز جهوده على بلدان  " أقطار الحزام الشمالى " وهى تركيا والعراق وباكستان.

 
ثم استبدل دالاس جفرسون كافرى بهنرى بايرود ، مساعده لشئون الشرق الأدنى . وكان بايرود شابا ساحرا ذا نشأة عسكرية سبق له أن خدم فى الصين وبدا اختياره مثالياً . وبدا بايرود بداية حسنة وترك لدى عبد الناصر انطباعاً طيباً . لكن ما لبث أن بدأ يتعثر فى المتاعب وأصبحت خدمته فى مصر تعيسة من الناحيتين الشخصية والسياسية معاً .
 
وفى يوليو ( تموز) 1954، وقعت مصر وبريطانيا اتفاقاً مبدئياً بالأحرف الأولى تعهدت بريطانيا بموجبه أن تجلو عن  منطقة قناة السويس وتغادر مصر نهائياً بعد 70 عاماً من الاحتلال .

 
إلا أن هذا الاتفاق، مشفوعاً بالنية الحسنة المتواصلة، التي كانت تبديها الولايات المتحدة حيال الثورة المصرية، لم يسر الإسرائيليين . فقد كانوا يريدون أن يبقى الجيش البريطانى في مصر لأن البريطانيين كانوا يشكلون عاملا لإلهاء المصريين وحاجزاً على طول قناة السويس في الوقت نفسه . ولم يكن الإسرائيليون يريدون أن تظل الولايات المتحدة على علاقات طيبة مع مصر .

 
وهكذا دبر بن جوريون الذى كان يتظاهر بالعيش متقاعداً منعزلا فى الصحراء ، مع فريق من كبار الضباط فى وزارة الدفاع الإسرائيلية خطة لشن حملة إرهابية فى مصر . وتم ذلك دون معرفة بنحاس لافون وزير الدفاع الذى زور توقيعه على أوامر تجيز المؤامرة .

 
كان هدف المؤامرة الإرهابية إقناع بريطانيا وأمريكا بأن مصرا ليست أهلا للثقة، وأنه ليس فى وسع عبد الناصر السيطرة على بلاده ، وذلك عن طريق نسف المنشآت الأمريكية والبريطانية فى مصر ...

 
وقام الإسرائيليون بتهريب ضابط مخابرات عسكرية ، نظم مجموعة من اليهود المصريين الشبان للقيام بالجانب القذر من المهمة، لكن المؤامرة - التى كانت فى فكرتها وتنفيذها شريرة - أخفقت إخفاقاً شنيعاً. واعتقل المتآمرون وشنق اثنان منهم ، بينما انتحر العميل الإسرائيلى وهو فى السجن قبل صدور الأحكام .

 
على أن آثار المؤامرة كانت بعيدة النتائج، فقد استقال لافون احتجاجاً وعاد بن جوريون- بضغط من العسكريين- إلى الحكومة وزيراً للدفاع وكان جزء من السبب محاولة تغطية تواطئهم في المؤامرة .

 
وفرض الإسرائيليون حظراً شديداً على جميع أخبار الكارثة التى منوا بها ، لكن رائحتها فاحت ، وما لبث رئيس وزراء إسرائيل موشيه شاريت ، - العاجز عن كبح بن جوريون- أن " استقال يأساً وقنوطاً، فاحتل بن جوريون مكانه . وكانت تلك " فضيحة لافون " المشهورة .

 
-----------------------

 
وبينما كل هذه الأمور تجرى كانت وكالة المخابرات المركزية منهمكة بنفس القدر من النشاط في القاهرة الذى كانت تمارسه فى كل مكان آخر من الشرق الأوسط .

 
وذات يوم كان عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يبحثون مسألة  بناء برج لاسلكى للاتصالات العالمية التى تقوم بها وزارة الخارجية وإدارات المخابرات وقيل لعبد الناصر إنه سبق وأن تم شراء بعض المعدات، ولما احتج بأنه ليست هناك أموال مرصودة في الميزانية لهذا الأمر، قيل له إن المال جاء من اعتماد أمريكى خاص . ودهش عبد الناصر . إذ كانت هذه أول مرة يسمع فيها بوجود أى اعتماد خاص . وقيل له عندئذ إن وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب ثلاثة ملايين دولار.

 
وكان المبلغ قد تم تسليمه بواسطة عميل أمريكى في حقيبة ضخمة عبئت بقطع نقدية من فئة المائة دولار، وسلمت الحقيبة فى الواقع إلى ضابط فى المخابرات المصرية كان يعمل كضابط اتصال بين المخابرات المصرية ووكالة المخابرات الأمريكية وتمت عملية الدفع والاستلام في بيت العميل الأمريكى في ناحية المعادى الأنيقة.

 
واستشاط عبد الناصر غضباً عندما سمع بذلك . وتوجه بالسيارة فوراً إلى مجلس الوزراء وطلب تفسيراً من محمد نجيب الذى كان آنذاك رئيساً للوزراء .

 
وأصر نجيب على أنه فهم أنه ليس للمخابرات الأمريكية علاقة بذلك المبلغ ، وأنه مرسل من الرئيس أيزنهاور الذي خصص اعتمادات مالية لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية.

 
وهنا طلب عبد الناصر إيداع المال فى خزينة إدارة المخابرات وأمر بعدم صرف أى شئ منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة .

 
وفى النهاية بنى البرج . وكان مخططاً له في الأصل أن يكون برجاً بسيطاً وعملياً يعلوه هوائي لاسلكى وشبكة أسلاك تنحدر إلى الأسفل عبر وسطه. لكن عبد الناصر قرر أن يبنيه كنصب يشهد على حماقة وكالة المخابرات الأمريكية فاستخدم الأموال الأمريكية لبناء البرج الفخم المزركش، الذى بنى المطعم الدوار فى قمته والذي يطل اليوم على منظر القاهرة كلها.

 
وقد لقى البرج انتقاداً شديداً عند تشييده لأنه لم يكن فى وسع أحد أن يفهم سبب إهدار المال عليه. وإذا كان قسم المواصلات في مبنى البرج جدياً وجوهرياً فقد كانت الاعتمادات متاحة ولم يكن هناك بأس من بناء المطعم ومن الهندسة الباذخة ، وبشكل ما فإن ذلك كان إهانة إلى وكالة المخابرات الأمريكية.

 
وقد غضب عبد الناصر من الأمريكيين غضباً شديداً بسبب هذه الحادثة التى اعتبرها محاولة للإفساد.

 
وحتى أثناء مؤتمر الفدائيين قبيل وفاته فإن عبد الناصر وقف على شرفة فندق هيلتون وتطلع إلى برج القاهرة وقال لى :

 
" لا. لا تتكلموا . حذار، إننا موضع مراقبة ".

 
وسألته:

" لكن ممن ؟ "

 
فأجاب مشيراً إلى البرج :

 
" من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ".

 
وكان من نتيجة اكتشاف عبد الناصر لذلك المبلغ أن أصبح أكثر ارتياباً فى الولايات المتحدة وأمر بإجراء مسح كامل لجميع النشاطات الأمريكية في مصر. وهذا بدوره جعل الأمريكيين يشكون فى نوايا عبد الناصر .

 
ومن وجهة النظر المصرية كان الأمر بمثابة محاولة للتعامل مع حكومتين أمريكيتين ، أولاهما أمريكا وزير الخارجية فوستر دالاس ، والثانية أمريكا شقيقه آلن دالاس، مدير وكالة المخابرات المركزية.

جاءت نقطة التحول الثانية في شئون الشرق الأوسط فى فبراير (شباط) 1955، عندما أغار الإسرائيليون على معسكر للجيش المصرى في غزة وقتلوا 38 جندياً مصرياً .

 
وكان بن جوريون هو الذى أصدر الأمر بهذا الهجوم بعد أسبوع واحد فقط من عودته إلى" الحكم كوزير للدفاع ، كما كان هذا الهجوم نموذجاً للغارات التأديبية الضخمة التى أعقبته...

 
حدث ذلك في زمن من أزمنة الانشقاق في العالم  العربي .

 
كان النظام العراقي قد انضم إلى حلف بغداد ، وكان الرئيس عبد الناصر معارضاً للحلف بشدة ، مؤمناً بأنه محاولة تقودها بريطانيا لاجتذاب الدول العربية الأخرى وعزل مصر.

 
ثم عقد بعد ذلك ، فى يناير ( كانون الثاني) 1955، اجتماع لرؤساء الوزراء العرب فى القاهرة انهار وانفض في حالة من الفوضى والهرج والمرج . وهكذا تعرض الرئيس عبد الناصر إلى ضغط شديد عندما ضرب الإسرائيليون ضربتهم فى غزة . لم يلق سوى تأييد ضئيل من الدول العربية الأخرى . وكان حلف بغداد يهدده . وكان قلقاً من مكائد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية . وكان عليه أن يحصل على السلاح من مكان ما، وأن يجهز جيشه لمواجهة التهديد الذى يشكله بن جوريون .

 
حاول عبد الناصر شراء أسلحة ولى زمانها من مخلفات الحرب العالمية الثانية فى بلجيكا . وحصل على قطع قليلة من السلاح من إيطاليا . وجرب فى السويد وسويسرا وأسبانيا . وحاول حمل البريطانيين على الإفراج عن 80 دبابة سنتوريون كانت الحكومة المصرية تعاقدت على شرائها قبل الثورة وسددت ثمنها . فأرسل البريطانيون 16 دبابة وقالوا إنهم سيسلمون الباقي شرط أن توقف مصر حملاتها على حلف بغداد.

 
وفى الوقت ذاته بدأت المخابرات المصرية تحصل على معلومات بشأن مشتريات إسرائيل من الأسلحة من فرنسا وهى المشتريات التى بدأت عام 1954.

 
وغالباً ما كان يتردد أن الفرنسيين أعطوا إسرائيل الأسلحة بسبب تأييد مصر للثورة فى شمال أفريقيا، وكان هذا صحيحاً إلى حد ما فإن مصر ساعدت على استقلال تونس وعلى إعادة الملك محمد الخامس ملك المغرب إلى عرشه فى الرباط ، ولم تكن الثورة الجزائرية قد بدأت بعد وقد اتخذ عبد الناصر قراره بمساعدة الجزائريين وزيادة مساعداته لهم ، وكان ذلك لدافع آخر إلى جإنب الدافع القومى ، كان هذا الدافع- كما قال عبد الناصر نفسه-  " لكى نجعلهم يحتاجون إلى أسلحتهم في الجزائر ولا يعود فى استطاعهم إعطاؤها لإسرائيل . إننا سنجبرهم على استخدامها بعيداً عنا حتى لاتستخدم ضدنا ".


 
ولذلك كان من الحيوى ، بالنسبة إلى الرئيس عبد الناصر أن يحصل على السلاح من مكان ما ... ومن أى مكان ...

 
وكان هنرى بايرود قد تسلم منصبه كسفير للولايات المتحدة بعد يومين أو ثلاثة من الغارة الإسرائيلية على غزة.

 
وقد شرح له الرئيس عبد الناصر في اجتماعهما الأول مدى حاجة مصر الأساسية إلى الحصول على مدافع ودبابات وطائرات نفاثة وطلب إليه أن يرفع هذه الرسالة على وجه السرعة إلى دالاس .

 
إلا أن دالاس كان غاضباً من عبد الناصر في ذلك الحين نظراً إلى أن عبد الناصر كان قد أعلن عزمه على الذهاب إلى باندونج لحضور مؤتمر دول عدم الانحياز . وكان دالاس يرى فى ذلك خذلاناً وخيانة لحملته الصليبية ضد الشيوعية.

 
كانت كلمة " عدم الانحياز " كلمة قذرة بالنسبة إلى دالاس . وقد حاول إقناع الرئيس عبد الناصر بعدم الذهاب إلى المؤتمر لكنه لم ينجح .

 
----------------------------------

 
وصل عبد الناصر إلى رانجون مع " نهرو " [ في 15 ابريل 1955 ] في طريقهما إلى المؤتمر وكان في استقبالهما بالمطار يونو رئيس وزراء بورما وشوين لاى وزير خارجية الصين الشعبية وقتذاك . وقام نهرو بتعريف عبد الناصر إلى شوين لاى وأعجب الزعيمان ببعضهما البعض على الفور.

 
وعندما ارتدى نهرو وعبد انناصر ويونو الزى الوطنى البورمى بعد ذلك وذهبوا لحضور مهرجان المياه، تخلف شوين لاى لكنه طلب مقابلة عبد الناصر- بعد أن يعود من المهرجان فى أصيل ذلك اليوم.

 
واجتمعا فى غرفة من غرف المنزل الذي كان يوماً مقر الحاكم العام ثم أصبح قصر الضيافة الحكومى، وكانت الغرفة عبارة عن ردهة كبيرة من الطراز الذى كان سائداً فى العصر الاستعمارى ، لها مراوح فى السقف وستارة نصفية على الباب . وكان شوين لاى في انتظار عبد الناصر هناك وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى وقد بدا جامد الملامح فى سترته ذات الياقة العالية.

 
تحدثا أولا عن مؤتمر باندونج، وتحدث شو عن الحالة في الهند الصينية ، وعن علاقات الصين بالولايات المتحدة. وتحدث الرئيس عبد الناصر عن الشرق الأوسط ثم بحثا في قطاعات التعاون الممكن بين بلديهما . وقال شوين لاى مبرهناً لعبد الناصر عن الإمكانيات العظمى للأسواق الصينية ، إن الصين تستطيع أن تستهلك كل القطن الذى تنتجه مصر بمجرد أن نطلب إلى كل صينى تطويل سترته خمسة سنتيمترات .

 
ورد عليه الرئيس عبد الناصر بأن الحصول على الأسلحة هو من الميادين التى يرغب حقاً فى التعاون فيه. توجه عبد الناصر بسؤال مباشر إلى شوين لاى يستفسر منه إذا كان يعتقد أن الاتحاد السوفييتى على استعداد أن يبيع السلاح إلى مصر؟

 
كانت هذه أول فاتحة استهلالية لصفقة الأسلحة.


 
ووعد شوين لاي بأن يسأل الروس، وأضاف أنه يعرف أن عندهم فكرة رفيعة حسنة عن الحكومة المصرية. وكان الموقف قد تغير. ذلك أن كلا من الاتحاد السوفييتى والصين كان في البداية شديد الارتياب فى الزعماء الثوريين المصريين ، وخاصة الاتحاد السوفييتي ، الذى حمل عليهم بعنف ناعتاً إياهم بأنهم حفنة من الفاشيين الذين يحاولون خنق حرية الجماهير الشعبية. لكن الموقف الروسي تعدل بسبب معارضة عبد الناصر للإمبريالية ولحلف بغداد الموجه ضد الاتحاد السوفييتي .

 
واستدرك شوين لاى محذراً من أنه إذا وافق الروس على بيع الأسلحة إلى مصر فإن موافقتهم ستخلق لمصر كثيراً من التعقيدات مع الدول الغربية .

 
ورد عبد الناصر بأنه مستعد لمواجهة كل التعقيدات لأن السبيل الوحيد الذي بقى مفتوحاً أمامه كان الحصول على السلاح من الاتحاد السوفييتى . وأشار إلى أنه كان- بعد الثورة- قد خفض ميزانية الجيش واستخدم السبعين مليون دولار التى صادرها من فاروق لبناء المستشفيات والمدارس والطرقات. واستدرك قائل ا: " إننا لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا بالمستشفيات أو المدارس ... فكل ما نفعله هو أننا نهيئها للإسرائيليين كى يحتلوها ".

 
ونفذ شو ما وعد به وبعث بعد عودة عبد الناصر من باندونج ، " رسالة قال فيها إن الروس وافقوا وأنهم سيكونون جاهزين لعقد الصفقة إذا ما فاتحهم الرئيس بذلك .

 
وبعد ذلك ، و بالتحديد يوم 18 مايو (آيار) 1955، وجد الرئيس نفسه الى جانب السفير الروسى دانييل سولود فى حفلة فى السفارة السودانية. وعندما تصافحا قال له الرئيس :

 
" كنت أريد مقابلتك " .

 
فرد سولود قائلا:

 
" لقد تلقيت تعليمات بطلب عقد اجتماع معك يا سيادة الرئيس ".

 
وتم الاجتماع يوم 21 مايو ( آيار) في مكتب رئيس الوزراء . وهكذا بدأت صفقة الاسلحة الروسية.

وفى مايو ( آيار) ويونيو (حزيران) ويوليو (تموز) جرت مناقشات بشأنها فى أحد المنازل بالمعادى. وأرسل الاتحاد السوفييتى الكولونيل تيموشنكا الى القاهرة كملحق عسكرى لكن وظيفته الحقيقية كانت البحث فى متطلبات مصر من السلاح .

 
وباستثناء زيادة طفيفة فقد كانت الاسلحة المطلوبة هى نفسها التى تضمنتها القائمة التى قدمت إلى الأمريكيين .

 
ولم يكن الروس بعد على استعداد للظهور كطرف فى الصفقة . فقد كان ذلك- صيف سنة 1955- زمن مؤتمر القمة فى جنيف [ عقد مؤتمرالقمة للدول الأربع الكبرى في جنيف من 18 – 24 يوليو 1955 ، وحضره : ايزنهاور ، وايدن ، وبولجانين ، وخروشوف ، وإدجار فور . ]  وشعر الروس بأنهم إذا ما أقدموا على تزويد مصر علناً بالسلاح فإن ذلك قد يعتبر خرقاً متعمداً لروح جنيف .

 
وهكذا واعتباراً من أغسطس ( آب) تولى التشيكيون المحادثات فى هذا الموضوع فى براج . وتم إعداد اللوائح والاتفاق على الأسعار.

 
على أن الرئيس عبد الناصر- قبل أن يتم ذلك كله- آثر أن يعطى الأمريكيين فرصة أخيرة لتزويده بالأسلحة التى يحتاج إليها . ففى 22 مايو ( آيإر) أى بعد يوم من مناقشته مع سولود ، استدعى بايرود لمقابلته وأبلغه أن لديه عرضاً روسياً ثابتاً لتقديم السلاح .

 
وحتى ذلك الوقت كان عبد الناصر لا يزال يفضل الأسلحة الغربية. إذ كان يشعرأن الجيش المصرى ليس معتاداً على الأسلحة الروسية . وكان يشعر أنه سيكون هناك حاجز لغوى ، بالإضافة إلى أن مصر لم تكن تعرف ما يحتويه مستودع السلاح الروسى ، فضلا عن ردود الفعل السياسية وخاصة من الأنظمة المحافظة في العالم العربي .

 
وتولى بايرود إبلاغ واشنطن ما قاله عبد الناصر . لكن لم يصدر رد فعل عن العاصمة الأمريكية. فقد كان دالاس يظن أن عبد الناصر كان " يبلف " أو يناور. وأبلغ بايرود كذلك السفير البريطانى المتقاعد السير رالف ستيفنسون فحوى محادثته مع عبد الناصر. وعندما زار السير رالف الرئيس مودعاً قال إنه بلغه أن مصر تفكرفي شراء الأسلحة من الاتحاد السوفييتى و من ثم حذر الرئيس، بمنتهى الجد، من الإقدام على هذه الخطوة " كآخر عمل أقوم به في بلادكم " ذلك أن شراء الاسلحة من روسيا سيكون عملا محفوفاً بالأخطار الجسام وسيؤدى إلى كثير من الصعوبات.

 
وبدأت أنباء محادثات براج تتسرب . وكان الإسرائيليون أول من علم بها، ثم بدأ الأمريكيون يشعرون بما حدث. وفجأة أخذوا يلمحون إلى تزويد مصر بالأسلحة وطلبوا من جديد قائمة بالاحتياجات وقالوا إنهم مستعدون للنطر بعين العطف إلى قضية صفقة الأسلحة. لكن الوقت كان قد فات حينئذ، وشعر الجميع بأن الأمر لايعدو أن يكون مناورة وخدعة لتعكير المحادثات فى براج.

 
إلا أنه برغم التحذير الذى وجهه الرئيس وبرغم كل الدلائل التى تشير إلى أن مصر ماضية في الصفقة فقد ظل دالاس يرفض تصديق الأمر.

 
فقد كان مقتنعاً بأن عبد الناصر " يبلف ". وكان متعصباً كل التعصب لهذا الاقتناع . ومن المحتمل أن يكون الأمريكيون قد اتصلوا بالروس ، عندما تلقى دالاس تقرير بايرود ، وسألوهم ما إذا كان صحيحاً ما يقال عن أن روسيا ستعطى سلاحاً لمصر، وبالطبع نفى الروس ذلك ، وصدقهم دالاس .

 
وتحطم دالاس عندما اضطر مجبراً في النهاية لأن يقتنع بأن عبدالناصر قد فعل ما قال إنه سيفعله تماماً.

 
وقد كان التقرير الذى فتح عينى دالاس في النهاية هو تقرير أعده مصرى كان في خدمة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. فقد كان هذا الرجل يتحدث مع مسئول مصري رفيع واستنتج من المحادثة أن الصفقة إما أن تكون قد وقعت أو أنها على وشك أن توقع ، فاتصل برئيس شبكة عملاء المخابرات المركزية في السفارة ويدعى جون إيكلبرجر وأبلغه النبأ.

 
وأبلغ إيكلبرجر النبأ إلى واشنطن ، وعندها بدأت الانفجارات تتوالى :

 
ففي الساعة الثالثة صباحاً اتصل بي إيكلبرجر بالتليفون وهو في حالة هياج شديد وناشدني أن أرجو الرئيس أن لا يقع في فخ شيوعي . وقال : " قل للرئيس أن يتمهل  فهناك رسول خاص قادم من واشنطن ".



 
أما ذلك الرسول الخاص الذي بعث به دالاس- بل كل من الأخوين دالاس فى الحقيقة - فقد كان كيرمت روزفلت الذى كانت له علاقة بعمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إيران والذى أصبح بعد ذلك وثيق الصلة بجميع شئون- الشرق الأوسط .

 
وعندما أبلغت عبد الناصر بكل ذلك قرر أن يعلن نبأ الاتفاق . وكانت حجته في ذلك . أنه لا يستطيع الامتناع عن مقابلة كيرمت روزفلت  لكنه لا يريد أن يكون موضع استجواب ولا يرغب في أن يسأل إذا كان النبأ صحيحاً أم لا، كما أنه إذا سأله فسوف يرد بالإيجاب ، وهو لا يسمح لنفسه أن يكذب إذا سئل...

 
وهكذا قرر أن يقطع الطريق على روزفلت.

 
------------------

 
وأخذ عبد الناصر يتطلع إلى منبر يعلن منه النبأ، واكتشف أن إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة كانت تنظم معرضاً صغيراً للصور الفوتوغرافية يحتل ردهة واحدة . فذهب الرئيس إلى المعرض، حيت كان هناك نحو 70 شخصاً ، واستعرض الصور الفوتوغرافية ثم وقف  وأعلن إن مصر قد وقعت اتفاق سلاح مع تشيكوسلوفاكيا.

 
كان ذلك فى 27 سبتمبر (أيلول) 1955، وكان قد مضى أسبوع على توقيع الاتفاق ، لكن لم تكن قد وصلت بعد أية شحنة أسلحة.

 
وكان السفير المصرى فى واشنطن الدكتور أحمد حسين يمضى إجازة فى القاهرة ، فى ذلك الحين، وعندما سمع بالنبأ اندفع لمقابلة الرئيس بلا موعد سابق فى التاسعة من صباح اليوم التالى، وسأله إذا كان الخبر الذى طالعه فى الصحف صحيحاً ، ولما رد عبد الناصر بالإيجاب ، أفلتت أعصاب الدكتور أحمد حسين وبدا عليه الانفعال البالغ .

 
كان الأمريكيون فرغوا لتوهم من تنظيم عملية قلب حكومة اربينيز اليسارية فى جواتيمالا ، وراح أحمد حسين يردد بعصبية : " جواتيمالا... يا سيادة الرئيس... جواتيمالا ".


وفي النهاية فرغ صبر عبد الناصر فأجابه : " فلتذهب جواتيمالا إلى الجحيم " .
 
لكن أحمد حسين مضى يقول بإصرار: " كيف أستطيع أن أعود الى واشنطن وأقابل دالاس؟ "

 
وغضب عبد الناصر غضباً شديداً من ذلك وقال له :

 
" ليس من الضرورى أن تعود إذا كنت لاتريد ذلك ".


ووصل كيرمت روزفلت فى صباح ذلك اليوم نفسه حاملا رسالة مؤداها أن دالاس غاضب للغاية، وقال إن دالاس يتصرف كالثور الهائج، وأنه مصمم على وجوب إيقاف الصفقة. وأضاف أن دالاس يريد من الرئيس عبد الناصر أن يلغى الصفقة، فإذا لم يفعل فإن الولايات المتحدة تعتزم اتخاذ التدابير الأربعة الآتية:

ا- إيقاف كل المساعدات الأمريكية لمصر.

2- إيقاف كل التجارة.

3- قطع العلاقات الديبلوماسية.

4- محاصرة مصر و منع أي سفينة تحمل سلاحاً من الوصول إليها .
 
كان دالاس يعتقد أن كل ذلك ضرورى ، لأن صفقة السلاح كانت تمثل قفزة من الدول الشيوعية فوق " الحزام الشمالى" [ يطلق الحزام الشمالي على الدول المحيطة بالاتحاد السوفييتي من ناحية الشمال ، وترتبط بأحلاف مع الغرب وكانت : تركيا والعراق وإيران وافغانستان وباكستان ] ، بالإضافة إلى أنها كانت تحطم قالب أحلافه ونمطها.

 
وتمكن بايرود السفير الأمريكى من اقناع روزفلت مبعوث دالاس ، بأن يكون ديبلوماسياً عندما يقابل عبد الناصر تلك الليلة. وهكذا فإن روزفلت عندما ذهب تلك الليلة لمقابلة عبد الناصر حاول أن يكون ديبلوماسياً رقيقاً ومقنعاً ، وقال له:

 
" يا سيادة الرئيس إنكم تشترون الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا فدعوني أخبركم بنتيجة التعاون بين تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتى ".

 
وبدأ روزفلت يروى قصة جان مازاريك [ جان مازاريك هو أول وزير لخارجية تشيكوسلوفاكيا في فترة ما بين الحرب العالمية الثانية ، وكان معروفا بميله للغرب ، وقد انتحر في 10 مارس 1948 بأن ألقى بنفسه من نافذة مكتبه ]  إلا أنه لم ينقل إلى الرئيس تهديدات دالاس الأربعة .

 
واستمرت المحادثات يومين . وكان من المستحيل الوصول إلى حل . فلم يكن عبد الناصر ليتزحزح عن موقفه.

 
وفى اليوم الثالث قيل لروزفلت أن دالاس أوفد مبعوثاً آخر هو المستر جورج آلن ، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومعه رسالة مهمة.

 
ولكن قبل أن يصل آلن  وقعت حادثة جعلت حياة بايرود صعبة جداً . فقد بدأ يشعر بأن مهمته أخفقت، وأن دالاس فقد ثقته به، فقد كان دالاس قد أرسله كمبعوث خاص يتمتع بصلاحيات خاصة إلى بقعة خاصة جداً وكان من ثم يتوقع نتائج خاصة على يديه. لكنه كان من المستحيل عليه أن يحقق تلك النتائج . والواقع أن مصركانت مقبرة لمستقبل الكثيرين من الديبلوماسيين .

 
وفي أثناء محادثات روزفلت مع الرئيس حاول أحمد حسين ، الذى كان بالغ الانزعاج من احتمال تكرار سابقة جواتيمالا ، أن يخلق جواً وديا فقام بتهيئة حفلة عشاء فى بيت حميه بالجيزة على مقربة من الأهرامات . وحضر الحفل روزفلت أيضاً وأريك جونستون [ أريك جونستون هو صاحب مشروع استغلال مياه نهر الاردن الذي سمي بإسمه ، وقد تردد على مصر ودول المنطقة عدة مرات في الفترة من 1953 إلى 1960 – كمبعوث شخصي للرئيس الامريكي – لبحث هذا المشروع . ]  الذى كان يحاول حل مشكلة ينابيع مياه نهر الأردن كما حضره بايرود.

 
ووصل الرئيس مع المشير عبد الحكيم عامر وقائد الجناح عبد اللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة.

 
وطلب الرئيس قدحاً من عصير البرتقال بينما كان بايروس يحتسى الويسكى . ولم يكد عبد الناصر يرتشف أول رشفة حتى بدأ بايرود يتحدث اليه وفى الحال شعر الجميع بقرب وقوع الكارثة.

 
فقد قال بايرود وهو يرتجف انفعال ا:

 
" يا سيادة الرئيس . لقد ضرب أحد رجالى اليوم فى السويس حتى شارف على الموت " .

 
وأجابه عبد الناصر بأنه سمع بالواقعة، وتساءل:

 
" ولكن لماذا ذهب هذا الرجل إلى السويس؟ "

 
فرد بايرود بأن المستر فينش- الرجل المضروب- هو الملحق العمالى فى السفارة وقد كان من صلب وظيفته أن يكون على اتصال بالحركة العمالية، ولذا ذهب إلى السويس ليدرس الحالة في حقل الصناعة البترولية.

 
وقال الرئيس، الذى كان على علم بجميع التفصيلات، ان فينش- تصرف لسوء الحظ بطريقة جعلت الناس تظن أنه جاسوس .

 
وأنكر السفير الامريكى ذلك قائلا:

 
" إنه لم يكن جاسوساً ومع ذلك فقد ضرب ".

 
ثم أضاف يقول وصوته يقطر بالمرارة : " آسف ، لقد كنت أظن أننا في بلد متمدن " .

 
واستشاط عبد الناصر غضباً ، وأطفأ سيجارته وتطلع حوله الى عامر والبغدادى وقال لهما : ". فلنخرج "  ومشى .

 
أصيب الحاضرون بالارتياع . وبدا أن بضع كلمات هستيرية دمرت العلاقات بين مصر وأمريكا. وكان موقفاً مخيفاً .

 
وهرع جونستون وروزفلت وراء الرئيس للاعتذار إليه وإعادته لكنه رفض العودة ، وانتهـى حفل العشاء الذى كان يهدف إلى تعزيز الصداقة، إلى كارثة.

 
وأرسل روزفلت وجونستون- نتيجة للحادث- برقية إلى دالاس يشيران عليه فيها باستدعاء بايرود، أما  بايرود المسكين فكان قد انهار وتزعزع . واتصل بي تليفونيا يطلب أن أقابله، وعندما تقابلنا وجدته فى حالة اكتئاب نفسى يائس . وكانت الدموع تترقرق في عينيه وقال لى إنه فقد السيطرة على أعصابه بالأمس لأنه قبل أن يذهب للعشاء مع الرئيس كانت زوجة فينش كانت قد اتصلت به تليفونياً وفى حاله بالغة الإنزعاج بسبب الضرب الذى تعرض له زوجها . وكان بايرود يريد أن يعرف ما إذا كان الرئيس سوف يرضى باستقباله ثانية، لأن المفروض فيه أن يرافق المستر  آلن لتقديمه إلى الرئيس .

 
وسألت عبد الناصر عن ذلك فقال الرئيس : " فليأت إذا كان راغباً في القدوم ".

 
وكان الرئيس يعتقد أن بايرود ارتكب خطيئة، لكن الحادث انتهى بمجرد مغادرته الحفلة. ولن يحمل له ضغينة أو يحاول الانتقام منه بسببها.

 
---------------------------

 
وفى الوقت ذاته كانت وكالات الأنباء تنقل روايات من واشنطن تقول إن آلن يحمل إنذاراً إلى عبد الناصر. وهكذا فإن الرئيس- الذى كان مازال فى مرحلة " السبع الطليق "- استدعى روزفلت بينما كان آلن لا يزال فى الجو، وأطلعه على برقيات الوكالات وقال له إنه إذا صحت هذه الأنباء وقدم إليه آلن إنذاراً فإنه سيدق الجرس الموضوع على مكتبه ويأمر رئيس تشريفات الرئاسة بأن يطرد الزائر الأمريكى ومن ثم سيخرج شخصيا ويبلغ مراسلى الصحف أنه قطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة . أنه لن يسمح بتوجيه تهديد إليه.

 
كان هذا هو الجو السائد بينما كان آلن طائراً إلى مصر.

 
وقرر روزفلت وجونستون و بايرود تفادى الكارثة. فتوجهوا إلى المطار وبعثوا برسالة بواسطة برج المراقبة يطلبون فيها إلى آلن أن لايقول شيئا للمراسلين الذين كانوا متجمعين فى انتظار التصريحات المعتادة التى تعطى فى المطارات.

 
وأطلعوه على الأمر وهم يعودون به من المطار وأشاروا عليه بأن الموقف بلغ من التوتر حداً يقتضى منه أن لايتقدم إلى عبد الناصر بالرسالة المكتوبة وأن عليه أن يتكيف مع الوضع وأن يسرد شفهياً بعض محتويات هذه الرسالة، لكن دون توجيه أى إنذار بأى حال من الأحوال .

 
واقتنع آلن بحجج زملائه ، واحتفظ فى جيبه بالرسالة التى لايعرف أحد بمحتوياتها، لأنه لم يبرزها قط لأى إنسان، وإن كان يبدو من المؤكد أنها كانت تحتوى على النقاط الأربع ذاتها التى طلب إلى روزفلت أن يرفعها إلى الرئيس .

 
وأجرى  آلن حديثاً طويلا مع عبد الناصر، لكنه لم يصل معه إلى أى شئ وعندما قال للرئيس إن " دالاس متضايق " أجابه الرئيس : " فليكن ، إنه متضايق ... ولكن شعبى مهدد " وقال آ لن إنه فى حالة قيام الرئيس بإلغاء الصفقة الشيوعية فإن من شأن الولايات المتحدة أن تتطلع بإيجاب إلى قضية إمداده بالسلاح .

 
وأجابه عبد الناصر قائلا:

 
" لقد فات الأوان " .

 
وهكذا أخفق آلن وغادر مكتب الرئيس خائباً .

 
وبعد ساعة من ذهابه تلقى إشارة من دالاس تصر على وجوب تقديم الرسالة المكتوبة إلى الرئيس . لكن كان الأوان قد فات على ذلك أيضاً .



 
وغضب دالاس من بايرود وغضب من جونستون الذى لم يؤذن له إطلاقاً بالاشتراك في المفاوضات، وغضب من روزفلت وغضب من آلن . وبدأ دالاس يظن أن لعبد الناصر تأثيراً سحرياً غريباً على رجاله.

 
وعندما رفع إليه جونستون وروزفلت بعد ذلك تقريراً مشتركا عن المشكلات التى كان يمكن أن تحدث، هدأ قليلا وتقبل حقيقة أن آلن لم يكن فى وسعه أن يفعل شيئا بصدد صفقة الأسلحة دون أن يزيد الطين بلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

 
على أن الوضع بالنسبة لمصر كان خطيراً طوال تلك المفاوضات. ذلك أنه لم تكن قد وصلت بعد أية أسلحة وكان من شأن الحصار الأمريكى أن يخلق مصاعب جمة.

 
ووصلت الشحنة الأولى إلى رصيف الإسكندرية بعد عشرة أيام من الإعلان الرسمى عن الاتفاق ووجدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن عليها أن تعمل بشكل عاجل.

 
وهكذا أغرت أحد بحارة سفينة من أولى السفن . التى حملت الأسلحة بالهرب ، ولما أبلغ قبطان السفينة عن اختفاء بحاره استقصت السلطات المصرية آثاره ، فتوصلت إلى أنه انتهى به المطاف إلى القنصلية الأمريكية فى الإسكندرية، ولكنها ريثما توصلت إلى آثاره كان الأوان قد فات ، فقد كان البحار الهارب، قد وضع فى صندوق كبير كتب عليه " أوراق ديبلوماسية " وشحن على متن طائرة أمريكية حملته إلى الولايات المتحدة .
 
و برغم غضب دالاس وشعوره بالفشل أمام عبد الناصر، فإنه لم يتخل قط عن مساعيه للتوصل إلى تسوية بين مصر وإسرائيل . وبعد صفقة الأسلحة بقليل فكر فى مسعى ديبلوماسى سرى . وفي غضون سنة 1955 أرسل روبرت أندرسون إلى القاهرة حاملا رسالة من الرئيس أيزنهاور.

 
كانت هذه الرسالة تختلف كلية بطابعها و طبيعتها عن تلك التى بقيت فى جيب آلن . وكان مجمل ما فى الرسالة الجديدة أن الولايات المتحدة ترغب فى حل المشكلة الفلسطينية إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل .

 
وعقد أندرسون سلسلة من الاجتماعات مع الرئيس عبد الناصر في منزل بالزمالك حيث بسط الرئيس عبد الناصر للمبعوث الأمريكى وجهة نظره فى أن أساس أى حل يجب أن يكون مشروع التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947.

 
وطار أندرسون مرات عدة بين القاهرة وتل أبيب . وكانت هناك مشكلات كثيرة وخطط كثيرة للتغلب على تلك المشكلات . على أنه من أشد تلك العقبات عدم وجود اتصال برى بين مصر وبقية العالم العربي شرقاً ، وهى عقبة لا تزال وجيهة إلى يومنا هذا.

 
وكان بين الخطط الهادفة إلى إزالة هذه العقبة مخطط وضعه الأمريكيون قبل عامين من مهمة أندرسون، وكان ذلك المخطط بمثابة حل فني يستند إلى الخبرة الأمريكية في شق الطرق وبنائها.



 
وكانت هذه الخطة تقضى بإعطاء جزء من صحراء النقب لمصر. وجزء آخر-  للأردن على أن يلتقى الجزءان عند الطريق المؤدية إلى ميناء إيلات ، الذى كان المفروض أن يبقى فى يد إسرائيل بموجب الخطة.

 
أما لب الخطة فيقضى بأن يبنى الأمريكيون طريقا مشتركة ومزدوجة ومعلقة تكون فيها للإسرائيليين الطريق التحتية التى تصلهم بإيلات وتكون لمصر والأردن الطريق الفوقية المبنية فوق الطريق الإسرائيلية.

 
والمدهش أن هذه الخطة استغرقت من الأمريكيين قسطاً هائلا من العمل وأنتج كل من الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية عشرات الرسوم الهندسية المفصلة لبناء هذه الطريق المعلقة فى الصحراء .

 
وجرى اطلاع الرئيس عبد الناصر على تلك المخططات الهندسية ففحصها باهتمام ثم قتل المشروع كلياً.

 
فقد قال :

 
" ستكون الطريق العليا للعرب والطريق السفلى للإسرائيليين . حسناً. لكن لنفترض أن عربياً كان على الطريق العليا ذات يوم واستجاب إلى نداء الطبيعة ، وسقطت هذه على سيارة إسرائيلية فى الطريق السفلى . فماذا يمكن  أن يحدث؟

 
" هل سيكون من شأن ذلك اندلاع الحرب .؟ "

 
ومنذ ذلك الحين درج الرئيس عبد الناصر على تسمية ذلك الحديث باسم يتصل بنداء الطبيعة! فقد شعر بأن الأمريكيين يشغلون أنفسهم أكثر ممايجب بالتفاصيل السطحية أوالمصطنعة والجوفاء لتسوية المشكلات ولم يكن في وسعه أن يحمل تلك الابتكارات على محمل الجد.

 
وقد بذل أندرسون قصارى جهده، لكنه كان- فى المقام الأول -  محكوماً بالفشل ، لأن الإسرائيليين لم يكونوا ينوون-  بالقطع- الرجوع إلى الحدود المقررة بموجب مشروع التقسيم .

 
----------------------

 
وفي هذه الأثناء ، سقطت قطعة أخرى من قطع لغز الشرق الأوسط في مكانها من الصورة ، وبدأت معالمها تظهر بوضوح.

 
فقد كان خروشوف وبولجانين يقومان فى بزيارتهما المشهورة إلى لندن [ تمت هذه الزيارة في الفترة من 12-25 ابريل 1956 ] حيث أبلغهما إيدن أنهما سيتسببان- إذا استمرا في إرسال الأسلحة إلى مصر- فى كثير من التعقيدات، واقترح أن ينهيا أولا تنفيذ الصفقة الوحيدة التى عقدت على أن يتوقفا بعد ذلك .

 
ورد عليه خروشوف بأن الاتحاد السوفيتى مستعد لوقف كل صفقات السلاح التالية إذا كان ذلك جزءاً من حظر عام على الأسلحة توافق عليه الأمم المتحدة ويتم بإشرافهـا .

 
ولكن إيدن أجاب بأن لبريطانيا التزامات تعاقدية فى المنطقة وأنها- مثلا- تورد السلاح إلى تركيا والعراق بموجب تلك الالتزامات.

 
إلا أن خروشوف رفض القبول بهذه الحجة وكانت وجهة نظره أن حظر الأمم المتحدة يجب أن يشمل حتى الأقطار المرتبطة بمعاهدات مع بريطانيا .

 
وقد عرف عبد الناصر بتفاصيل هذه المناقشة، لأن خروشوف بعث إليه بخلاصة كاملة لكل ما دار خلال هذه المحادثات . وكان الروس من الحرص على تنمية علاقاتهم مع مصر، إلى درجة أنهم كانوا يطلعون عبد الناصر بكل شئ بتصل بالشرق الأوسط في علاقاتهم الخارجية.

 
وأقلق هذا التقرير الرئيس عبد الناصر، لأنه عندما فرضت الأمم المتحدة حظراً على السلاح أثناء الحرب الفلسطينية عام 1948، لم نستطع الحصول على الأسلحة بينما استطاع الإسرائيليون ذلك. وبالتالى فقد كانت إمدادات مصر من الأسلحة معرضة للانقطاع إذا اشترك الاتحاد السوفييتى فى حظر جديد على الأسلحة تفرضه الأمم المتحدة .

 
وكان السؤال هو: كيف يمكنه أن يتحايل على مثل هذا الحظر؟

 
كان الحل هو أن تجيء الأسلحة السوفييتية عن طريق الصين الشيوعية. فهى ليست عضوا في الأمم المتحدة ولذا فإن أى حظر لا يلزمهـا . كما أن شوين لاى الذى رتب أول صفقة سلاح كان صديقاً . ومن شأن ذلك أن يسد الثغرة بالنسبة للسلاح إذا حدث حظر رسمى .

 
وهكذا اعترف عبد الناصر فى ربيع 1956 بالصين الشيوعية .

 
ومرة أخرى استشاط دالاس غضباً . وظلت القاهرة تسمع باستمرار أن " وزير الخارجية قد جن جنونه ". مراراً وتكراراً حتى  أصبحت عبارة " وزير الخارجية قد جن جنونه " أسطوانه تقليدية ، وحتى أخذ عبد الناصر يعتقد أن الوزير قد جن حقاً .

 
ورد دالاس على الاعتراف بالصين الشـيوعية بأن سمح للفرنسيين تزويد الإسرائيليين بالمزيد من طائرات  الميستير المتطورة التى كان حلف الاطلنطي متعاقداً على إنتاجها وكان ذلك تحت دعوى الاتفاق الثلاثى بين بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة التى كانت تدعى أنها تحافظ على توازن السلاح في الشرق الأوسط .

 
وبالتالى فقد طلب عبد الناصر بدوره من الروس تزويده بطائرات ميج- 17، بدلا من طائرات الميج- 15 س ، التى كانت تؤلف العمود الفقرى لصفقة السلاح الأولى .

 
على أنه لم تعقد صفقة أسلحة رسمية ثانية إنما أدمجت الثانية فى الأولى وعندما بلغ دالاس أمرها " جن جنونه " من جديد.

 
----------------------------

 
فى أثناء ذلك كان الرئيس عبد الناصر يعمل جاهداً على تحويل حلمه ببناء سد أسوان إلى حقيقة واقعة. وكانت مصر قد فاتحت البنك الدولى لترتيب التمويل اللازم لكنه لم يكن فى طاقة البنك الدولي أن يقوم وحده بتمويل مثل ذلك المشروع الضخم . فكان عليه أن يلجأ إلى كبار الدول المساهمة فيه طلباً لمساعدتها وهذا ما يفسر كيف تورطت بريطانيا وأمريكا في الموضوع .

 
وبدأت المحادثات تدخل مرحلة حاسمة فى نهاية 1955، وعندما عاد أحمد حسين لمزاولة مهام منصبه كسفير في واشنطن ، بعد الإعلان عن صفقة الأسلحة، أجرى حديثاً طويلا مع دالاس تعرض فيه لعديد من المسائل .

 
وجرت هذه المحادثة فى-17 أكتوبر (تشرين الأول) وقد كتب أحمد حسين في برقيته التى بعث بها فى اليوم التالى إلى الرئيس عبد الناصر يقول :

 
" لقد أوضحت للمستر دالاس أنه من الحيوى بمكان أن تنال مصر دعم الولايات المتحدة فى بناء السد العالى . وأبلغته أننا لا نزال نفضل التعامل مع البنك الدولي بالرغم من أن الحكومة الروسية عرضت علينا شروطاً أفضل من تلك التي عرضها علينا البنك الدولى ".

 
" وأبلغته أنه لا يمكن إرجاء اتخاذ قرار بالأمر أطول من ذلك لأن مصر تعتبر السد أكثر مشاريعها الاقتصادية أهمية، وبالتالى فإن أى إرجاء من شأنه أن يؤثر على ثقة الشعب المصرى فى قدرة حكومته على تنفيذ مشروعاتها الكبيرة كما أنه ليس من مصلحة البنك الدولى أن يرجىء الرئيس قراره بتمويل السد ، إلى أمد أطول لأن من شأن ذلك أن يخلق ضغوطاً على الرئيس لقبول العرض الروسى " .

 
وكان أحمد حسين قد تجاوز تعليماته حينما أبلغ دالاس  أن الروس تقدموا بعرض تمويل السد. فلم يكونوا قد تقدموا بعد بمثل هذا العرض . وكانت ورقة لعبها بمبادرته الشخصية.

 
ولكن نبوءته هذه تحققت بالفعل .

 
ولم يلزم دالاس نفسه بشيء فى هذه المحادثة مع السفير المصرى وذكر أحمد حسين أن دالاس أفاد أنه انزعج كثيراً من صفقة الأسلحة وحذر مصر مرة أخرى من التعامل مع الروس ولكنه استدرك قائلا : " لكن الولايات المتحدة لن تتخذ من الثأر أسلوباً للتعامل مع مصر ".

 
وفى نوفمبر ( تشرين الثانى) 1955 ، توجه الدكتور عبد المنعم القيسونى ، وزير المالية المصرى إلى لندن وواشنطن لإجراء محادثات حول المشروع مع الحكومتين البريطانية والأمريكية . والبنك الدولى، وقد قابل دالاس في واشنطن وطلب دالاس إليه أن يحمل إلى عبد الناصررسالة تفيد أن الاتحاد السوفييتى يساعد مصر بالسلاح وأن ذلك يعنى الموت بينما ستعمد الولايات المتحدة إلى مساعدة مصر على بناء السد العالى وهذا يعنى الحياة.

 
وقال إنه يرجو أن يأخذ الرئيس عبد الناصر هذا الأمر بعين الاعتبار وأن يفكرفي الفارق بين طبيعة نوعى المساعدة وأن يقرر بعد ذلك من هم أصدقاء مصر الحقيقيون .

 
لكن جمال عبد الناصر كان يشتبه فى أن الأمريكيين كانوا يتوهمون، - استناداً إلى حجم المشروع وضخامته- أن فى وسعهم أن يمسكوا بمقدرات مصر بقبضة حازمة، وأن من شأن طول مدة تنفيذ هذا المشروع. بالذات أن تعطيهم المهلة اللازمة ، إما لمنع نمو التعاون السوفييتى مع مصر، أو للإعداد لانقلاب من الداخل.



 
فى ذلك الحين كانت تشن على عبد الناصر حملات دعاية عدائية كبرى موجهة إلى مصر من محطات إذاعة سرية تديرها كل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وإدارة المخابرات البريطانية، ولم يكن لدى عبد الناصر شك في رغبة الغرب فى إزاحته واستبداله بشخصية أكثر طواعية منه.

 
وقدرت تكاليف بناء السد العالى بألف مليون دولار، 400 مليون- دولار منها بالعملات الأجنبية . وقد عرض البنك الدولي أن يقدم نصف هذا المبلغ إذا قدم البريطانيون والأمريكيون النصف الآخر.

وكان ما تريده مصر هو قرض بمبلغ 200 مليون دولار من الولايات المتحدة وبريطانيا ، وليس منحة ولا هبة ولا مساعدة . غير أن الامريكيين والبريطانيين بحثوا الأمر سرا وعلى انفراد وأعلنوا فى ديسمبر (كانون الأول) أنهم مستعدون لإعطاء مصر منحة بمبلغ 70 مليون دولار، لتغطية تكاليف عمليات السنة الأولى من بناء السد.

 
وكان رد فعل الرئيس عبد الناصر حيال هذا الإعلان هو أنه لا يسعه أن يبدأ مشروعاً من المقرر أن يستغرق إنجازه عشرة أعوام بما يكفى من المال لسنة واحدة فقط من العمل ، فقد كان ذلك يعنى أن أى تغيير فى السياسة بعد عام واحد سوف يتركه وحده يتدبر أمر كومة هائلة من الصخور والاتربة و الحجارة .

 
لكن دالاس أصر على أنه لا يمكنه أن يتوجه إلى الكونجرس  للحصول على التزام طويل الأمد . فقد كانت هناك ميزانية سنوية للمساعدات يجب التصويت عليها عاماً بعد عام ، وأضاف دالاس قائلا إنه بالإضافة إلى ذلك فإن الكونجرس سيتجدد ثلاث مرات في خلال فترة بناء السد العالى وأنه ليس فى وسع أى كونجرس أن يلزم سلفاً الكونجرس التالى له.

 
وكان الرئيس عبد الناصر يعارض كلية خطة العمل هذه ، فقد كان معناها أنه كلما حل موعد مناقشة المساعدة السنوية كل عام فمن شأن ذلك أن يعطى -  في كل مرة- حكومة الولايات المتحدة فرصة جديدة للضغط ولإملاء إرادتها. وتأكد عبد الناصر فى يناير (كانون الثاني) 1957، أن هناك ما يدعم شبهاته، لأنه عندما زار الملك سعود عاهل المملكة العربية السعودية الولايات المتحدة ، أبلغه دالاس أنه عندما قرر المساعدة فى بناء السد مع أن المشروع طويل الأمد، فقد كان هدفه أن يربط مصر بأمريكا لمدة عشرسنوات ، إما أن يقلع عبد الناصر فى خلالها عن التعاون مع الاتحاد السوفييتى، وإما أن يكون نظامه قد سقط عن الحكم

 
-------------------------

 
في الوقت ذاته كانت مصر تواجه مشاكل مع البنك الدولى . وكانت نقاط الخلاف الأساسية ثلاثاً :

 
فقد أراد البنك الدولي- بسبب ضخامة المبلغ الذي ينطوي عليه المشروع -  مزاولة حق الإشراف على ديون مصر الخارجية، وكانت هذه من النقاط التي استهوت دالاس ، لأنه اعتقد أن من شأنها أن تستبعد شراء المزيد من الأسلحة السوفييتية. وقد اعترض عبد الناصر على هذه النقطة دافعاً أنها تشكل قيداً سياسياً وليس قيداً اقتصادياً .

 
أما نقطة الخلاف الثانية فتتعلق بنسبة الفائدة، فقد كان البنك يطالب بنسبة الفائدة السائدة في السوق وهى 5.5%، وكان عبد الناصريعتقد أن هذا المعدل أعلى مما يجب ، وخاصة بالنسبة إلى مشروع طويل الأمد كهذا المشروع .


 
وكانت النقطة الثالثة تتعلق برغبة البنك في أن يرسل إلى مصر " إعلان نوايا" بأنه يعتزم تمويل مشروع السد هذا بينما كنا نحن في مصر نريد منه كتاباً يتضمن معنى الالتزام .

 
وجاء محافظ البنك الدولى المستر يوجين بلاك مرتين لمقابلة عبد الناصر، فذللا الصعاب وتوصلا إلى حل وسط مقبول وتبادلا الرسائل التى أعطت البنك حق الحصول على معلومات عن الاقتصاد المصرى ، وحق الإشارة بالخطوات اللازمة، وإن كانت لم تعطه حق الإشراف على الاقتصاد. كما حدد معدل الفائدة بخمسة في المائة ، ووافق بلاك على توجيه كتاب التزام بدلا من كتاب بإعلان النية.

 
وهكذا حلت مصر خلافاتها مع البنك الدولي وسوتها وكان هـذا شيئاً لم تفلح أبداً في أن تفعله مع الولايات المتحدة.

 
---------------------------------

 
وبعد ذلك . عندما أجرى الرئيس عبد الناصر تحليلا للأحداث خلص إلى أن دالاس كان جاداً بشأن المساعدة في بناء السد العالى ربما لشهر واحد فقط فى مطلع 1956. وسادت في تلك الفترة فى أمريكا ، حملة غريبة للمبالغة فى أهمية السد- وفى يناير (كانون الثانى) نشرت " نيوزويك " ، ما كان يبدو خبراً موحى به- من أن حياة مصر كلها إنما تتوقف على السد العالى . وبدا أن الأمريكيين أرادوا تضخيم أهميته ليمسحوا القيمة الدعائية لضربة صفقة الأسلحة السوفييتية.

 
وفي نهاية مايو (آيار) طلب أحمد حسين الإذن بالعودة إلى مصر ليشرح المصاعب التى يجابهها دالاس مع الكونجرس . وقبل أن يغادر واشنطن اجتمع إلى هربرت هوفر الابن مساعد وزير الخارجية الذى كان ينوب عن دالاس ، وكان هوفرمهندساً وكان هو المسئول عن إثارة اهتمام دالاس بالسد.

 
وبالاضافة إلى إصرار هوفر- أثناء مقابلته مع أحمد حسين - على وجوب قبول مصر بجميع الشروط المالية التى فرضتها أمريكا وبريطانيا، فإنه طلب شيئين إضافيين :

 
أولهما ، أن تعلن- مصر في بيان رسمي ، امتناعها عن عقد المزيد من صفقات السلاح مع الاتحاد السوفييتي .

 
وقال إن ذلك ضرورى حتى لا يتأثر الاقتصاد المصرى ، ولأنه سيمكن مصر من دفع ديونها، بدلا من رهن قطنها فى مقابل السلاح . وكان ذلك - الكلام موضوعاً - يتكرر دائماً برغم أنه لم يكن صحيحاً . فالواقع أن مصر لم تكن تصدر أكثر مما يجب من القطن إلى روسيا. وكان عبد الناصر يلح على أن تحافظ مصرعلى توازن في التصدير يقضي بأن يخصص ثلث الصادرات للكتلة الشيوعية، والثلث الثانى لدول عدم الإنحياز، والثلث الثالث للكتلة الغربية. كما أن صفقة السلاح الأولى ، لم تكلف أكثر من ثمانين مليون دولار، تسدد على 12 عاماً . أى أن مصرلم تكن تدفع أكثر من 7 ملايين دولار سنوياً. ولم يكن ذلك معناه رهناً  للقطن المصرى .

 
أما الأمر الثاني - الذى طلبه هوفر- فهو أن يمارس عبد الناصر نفوذه وزعامته فى الشرق الأوسط، ليعقد صلحاً بين العرب والإسرائيليين . وقال إنه إذا كان الرئيس راغباً فى بناء السد العالى، فإنه من الأفضل أن يزيل أولا جميع أسباب التوتر والحرب في المنطقة .

 
وهكذا أخذت أهداف السياسة الأمريكية تصبح أكثر وضوحاً ، ففي مقابل المساعدة على بناء السد، كان مطلوباً من مصر أن تحد من علاقاتها مع الاتحاد السوفييتى بحجة أن صفقات الأسلحة تفرض عبئاً اقتصاديأ أثقل مما تطيق، كا أنه إذا كانت مصر سوف تكرس جهودها لبناء السد العالى، فقد كان عليها أن تعقد صلحاً مع إسرائيل.


ومضى هوفر يقول- إن الولايات المتحدة تتعرض لضغط شديد، من أصدقائها الكبار والصغار فى المنطقة، حتى لا تساعد على تنفيذ مشروع السد. وكان يعنى بالكبار بريطانيا وفرنسا، وبالصغار تركيا وإيران والعراق .
 
وكان البريطانيون قد أصبحوا واضحى العداء لعبد الناصر وانقلبوا ضده تماماً ، فقد كانت سياسته- بمهاجمة حلف بغداد، وتعزيز حركة القومية العربية فى الأقطار العربية الأخرى- تتعارض مباشرة مع المصالح البريطانية فى جميع أرجاء الشرق الأوسط .

 
وكان إيدن- الذى كانت تسيطر عليه تماماً روح مؤتمر ميونيخ- قد بدأ ينعت عبد الناصر " بالديكتاتور ". وكان الفرنسيون غاضبين عليه أشد الغضب لمساعدته للثوار العرب في شمال أفريقيا.

 
أما " الأصدقاء الصغار " فقد رأوا فى سياسة عبد الناصر بتأييد الحركة القومية خطراً على أنظمتهم.

 
وذكر هوفر كذلك في حديثه مع أحمد حسين أن هناك معارضة قوية من ثلاث فئات من جماعات الضغط السياسية فى واشنطن : فئة جماعات الضغط المتحدثة باسم ولايات القطن الجنوبية التى تعارض في مساعدة مشروع السد لأنها ضد أى توسع في انتاج القطن في مصر . وفئة جماعات الضغط لصالح إسرائيل التى تعارض فى أى مساعدة من شأنها أن تقوى مصر . ثم فئة أصدقاء الصين الوطنية وكان يتزعم هذه الفئة السناتور وليم نولاند التى أهاجها اعتراف مصر بالصين الشيوعية.

 
وأصبح دالاس واقعاً تحت الضغط من جميع الجهات ، لكى يتراجع عن التزامه.

 
----------------------------------

 
لم يجئ ذلك كمفاجأة للرئيس عبد الناصر. فكان قد عرف منذ أبريل (نيسان) 1956، أن الأمريكيين سيتملصون من تعهدهم . كان يعرف لأنه كان قد زود بجميع المحاضر السرية جداً المتعلقة باجتماع وزراء خارجية دول حلف بغداد الذى عقد فى طهران ، في أواسط مارس (آذار).

 
فقد دون أحد الوزراء العراقيين مذكرات كاملة عن مجريات الاجتماع وصور الوثائق ، وعندما مر عبر بيروت أعطاها لأحد المسئولين المصريين هناك قاثلا إن لديه مظروفاً مغلقا يريد تسليمه إلى الرئيس عبد الناصر شخصياً .

 
وكتب بطاقة أرفقها بالمظروف ، جاء فيها أنه يحيل هذه المعلومات إلى زعيم القوميين العرب وقائدهم، بدافع من الولاء للقومية العربية والمناهضة للمؤامرات عليها.

 
و في البداية كان هناك بعض التردد ، في التسليم بصحة تلك الوثائق . لكن الأحداث ما لبثت أن بدأت تقيم الدليل على صدقها وصحتها. كانت تلك الوثائق صريحة المضامين، ولا تحتاج إلى شرح، ثم وردت من ذلك الوزير العراقي ذاته تقارير أخرى كانت تؤلف مصدراً منتظماً للمعلومات الحيوية، إلى أن انهار حلف بغداد بعد الثورة فى العراق .

 
وعاد أحمد حسين ليقدم تقريره عن مفاوضات السد العالى ، فزار الرئيس فى الأسبوع الأول من يوليو (تموز)، فى مصيف برج العرب  الساحلية الصغيرة حيث كان عبد الناصر يستجم قبل الذهاب إلى يوغوسلافيا، لحضور مؤتمر بريوني مع تيتو ونهرو- وهو مؤتمر آخر لدول " عدم الانحياز " " جن جنون وزير الخارجية منه ".

 
كان ثمة غداء عائلى، فى اليوم الذى وصل فيه أحمد حسين ، وبعد الغذاء انفرد الرجال للحديث الجدى. ووضع عبد الناصر- الذى كان يرتدى الشورت وقيصاً رياضياً-  الرجال معه فى سيارة شفروليه ساقها إلى كابين على الشاطىء ، وهناك باشروا الحديث وهم يصغون إلى أمواج البحر.

 
تحدث أحمد حسين عن الموقف فى واشنطن ، وعن مصاعب دالاس مع الكونجرس، لكن عبد الناصر استوقفه قاثل ا: " إننى لن أخوض فى التفاصيل لكن عندى الدليل القاطع على أنك حتى لو عدت وقبلت بشروطهم كلها التى قد تريح دالاس مع الكونجرس فإنهم لن يعطونا السد العالى . " .

 
وتمسك أحمد حسين بموقفه قائلا :

 
" لا يا سيادة الرئيس . أن المشكلة فى الواقع هى أن الكونجرس ... " ومضى يشرح مشكلات دالاس لمدة ساعة كاملة.

 
وفي النهاية قال الرئيس :

 
" حسناً . سأعطيك الفرصة لكى تثبت شيئاً من أجلى . عد وقل لدالاس إنك قبلت بجميع شروطه ثم راقب رد فعله ".

 
ودهش أحمد حسين وقال :

 
" ألا تريد تعديل أى من الشروط ؟ "

 
فقال عبد الناصر:

 
" لا. إني أعطيك تفويضاً كاملا . اذهب وقل له : إننا قبلنا بأن يتجدد الالتزام الأمريكى تجاه السد العالى كل سنة، ولكن لا تقل أو تفعل شيئاً يمس كرامتنا ، ذلك لأننا لن نحصل على السد العالى " .

 
وخرج أحمد حسين من الاجتماع وهو فى أشد الحيرة ، وعاد إلى واشنطن عن طريق لندن بينما توجه الرئيس عبد الناصر إلى يوغوسلافيا.

 
عندما وصل أ-حمد حسين إلى لندن أدلى بتصريح قال فيه إن مصر تقبل بجميع المقترحات الغربية بشأن السد العالى وأنها ترجو مساعدتها على بناء السد وتعتمد على هذه المساعدة وتطلبها...


و سمع الرئيس عبد الناصر من الإذاعة بخبر هذا التصريح وذلك فى نحو منتصف الليل وهو في قطار يعبر به كرواتيا ( فى يوغوسلافيا) وقد ضايقه التصريح إذ شعر بأن مصر قد أهينت وبأنه ما كان على أحمد حسين أن يدلى بأى تصريح قبل أن يقابل دالاس ، كما أنه كره عبارة " ترجو وتعتمد وتطلب ".
وبالصدفة الغريبة توقف القطار تلك الحظة في محطة صغيرة احتشدت بجمهور من الناس يهتفون " تيتو... ناصر ، تيتو... ناصر " وكان الرئيس حينئذ فى بيجامته ولم يكن راغبا فى مقابلة الناس إذ لم يكن مرتدياً الملابس اللائقة باللقاء كما كان متضايقا . ولكن قيل له إن الناس كانوا ينتظرونه في المحطة منذ زمن طويل، فارتدى قميصا فوق سروال البيجاما، ووقف على النافذة يلوح بيده . وعندما خرج القطار من المحطة عاد وارتدى سترة البيجاما واستأنف الحديث عن تصريح أحمد حسين .

 
----------------

 
وعلم دالاس- أيضاً- بتصريح أحمد حسين وأحس بأنه سوف يوضع موضع الحرج الشديد ، إذ أنه سيواجه صعوبة شديدة إذا ما وصل السفير المصرى وقال له رسمياً إن مصر قبلت بكل شروطه.

 
وكان أيزنهاور يقضى فترة استجمام ويلعب الجولف بعد نوبة قلبية، واتصل به دالاس تليفونياً وأبلغه بأن المصريين لا يتجاوبون معه، وبأنه يقترح سحب عرض المساعدة على بناء السد، فأجابه أيزنهاور:

 
" أى شيء تراه يا فوستر... أى شيء تراه " 

 
وكان ذلك يوم 18 يوليو (تموز).

 
وفى اليوم التالى وصل أحمد حسين إلى وزارة الخارجية الأمريكية للاجتماع بدالاس ، ولم تمض دقيقة واحدة على دخوله باب مكتب دالاس ، حتى أصدر لنكولن هوايت- المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية- بياناً ، إلى المراسلين الذين كانوا فى الانتظار، يعلن سحب العرض الأمريكى بالمساعدة. وحدث ذلك حتى قبل أن يبدأ الحديث بين دالاس وأحمد حسين .


كان ذلك الاجتماع المؤسف، من أسوأ الاجتماعات طالعاً بين الاثنين .
 
وقد أبرق أحمد حسين بما جرى إلى الرئيس عبد الناصر بعبارات تعتصر بالألم : ذلك أن دالاس فاجأه بالقول حتى قبل أن يفتح فاه :

 
" سنصدر بياناً يا سعادة السفير... إننى آسف لأننا لن نساعدكم على بناء سد أسوان ".

 
وتذكر أحمد حسين ما كان عبد الناصر قد قاله له ففغر فمه واسعاً . لكنه لم يستطيع أن ينطق بكلمة.

 
ومضى دالاس  يقرأ البيان ، الذى كان لنكولن هوايت سبق أن وزعه على الصحفيين . والذى جاء فيه أن الولايات المتحدة قررت سحب عرضها، لأن اقتصاد مصر لا يستطيع تحمل مثل هذا المشروع .

 
وبدأ أحمد حسين يحتج بأن هذا القول يشكل إهانة. لكن دالاس استأنف - على حد ما قال أحمد حسين في تقريره- المناقشة بطريقة ساخرة قائلا: " إننا نعتقد بأن من يبنى السد العالي - أياً كان- سيكسب كراهية الشعب المصرى .. ذلك لأن العبء سيكون ساحقاً " .

 
وقال دالاس :

 
" ليس فى وسع الشعب المصرى أن يتحمل عبء تنفيذ مثل هذا المشروع الضخم ، فمتطلباته تتجاوز ما تستطيع مصادر مصر احتماله وخاصة بعد التزاماتها تجاه شراء الأسلحة. إننا لا نريد أن نكون مكروهين فى مصر، ولذا سنترك هذه المتعة للاتحاد السوفييتى، إذا كان يعتقد أنه يريد أن يبنى السد ".

 
واستطرد يعرب عن اعتقاده ، بأن الروس لا يملكون المصادر الكافية للمشروع وأنهم لو تعهدوا بتنفيذه فإن الدول التابعة لهم ستتمرد عليهم ، لأنهم يساعدون مصر بينما يرفضون إعطاءها المساعدة التى تطلبها.

 
والواقع أنه بالرغم من أنه كانت قد تسربت إلى الصحف إلأمريكية مناورة أحمد حسين الديبلوماسية بذكر المساعدة الروسية، فالحقيقة أنه لم يكن قد جرى أى اتصال قط مع الروس فى هذأ الشأن . بل إنه لم يجر أى اتصال لفترة ما بعد ذلك .

 
ومن العجيب أن دالاس عاد إلى هذه النغمة أثناء محادثة أجراها مع الدكتور محمود فوزى . وزير الخارجية المصرية، عند مناقشة أزمة السويس فى الأمم المتحدة . وقال فوزى في برقية له إلى الرئيس عبد الناصر: إن دالاس أبلغه أن " السد العالى عملية ستنهك الاقتصاد المصرى وأنها كانت ستثير كره المصريين لأمريكا! لأن من شأنهم أن يحسوا بأنهم  حرموا الكثير من الأشياء بسبب الولايات المتحدة. وهكذا فنحن لا نعترض على قيام الروس ببناءالسد ".

 
وقال فوزى فى برقيته:

 
" إن دالاس يعتقد أنه في وسع مصر- على أى حال- أن تمول السد العالى من دخل قناة السويس وذلك فى رأيه هو الحل الأفضل لأنه يعنى أن السد لن يكون إذ ذاك ممولا من أية دولة واحدة معينة ".

 
وقيل بعد ذلك لعبد الناصر إن دالاس يعتبر سحبه عرض المساعدة بمثابة " ضربة معلم " ، وكان قد قيل لدالاس ذات مرة ، عندما شكا من أنه لا يستطيع متابعة تحركات عبد الناصر : إن عبد الناصر لاعب شطرنج ماهر، وظن دالاس أن مناورته هذه ستعنى أنه يقول لعبد الناصر " كش ملك " وكان ذلك تعبيرا استعمله دالاس بالفعل مع بعض مستشاريه وهو يهنىء نفسه على ضربته الحازمة!

 
--------------------------

 
وفى تلك الليلة كان عبد الناصر ونهرو عائدين فى طريق الجو على متن طائرة رسمية مصرية. وكان من المقرر أن يمضى نهرو يومين في القاهرة . وكان الزعيمان فى مقدمة الطائرة وهما يتناولان بعض المرطبات فى انتظار أن تلوح لهما أضواء الإسكندرية.

 
وجاء المرافق الجوى لعبد الناصر من قمرة القيادة فى الطائرة يحمل رسالة لاسلكية تحتوى على خلاصة لبيان دالاس . فقرأها الرئيس واعتذر لنهرو دون أن يخبره بمضمونها وحملها إلى مؤخرة الطائرة ليطلع الدكتور فوزى ويطلعنى عليها . وقال :


" إن هذا ليس سحبأ للعرض . إنه هجوم سافر على النظام الحاكم ودعوة للشعب المصرى الى إسقاطه " 
 
وانتحى الرئيس جانباً ، وجلس وحيداً مدة ربع ساعة . ثم عاد وأطلع نهرو على الرسالة. وقرأها الزعيم الهندى وقال : " يا لصلافة هؤلاء الناس ". ولكن نهرو لم يشعر- لحظتها- بقوة العاصفة التى كانت الأقدار تنسج خيوطها.

 
وفى نحو منتصف الليل هبطت الطائرة فى مطار القاهرة حيث جاء السفراء ، واصطفوا- بما فيهم هنرى بايرود- لاستقبال عبد الناصر ونهرو وفقة للبروتوكول .

 
كان بايرود محرجاً الى درجة مخيفة. فقد سمع الجميع بالخبر. وقد مر به الرئيس وصافحه. وكانت هذه آخر مناسبة أريق فيها ماء وجهه قبل أن يغادر مصر.

 
وعاد الرئيس إلى منزله، وفي اليوم التالى اختصر نهرو زيارته. وبدت تباشير العاصفة واضحة. لكن قبيل رحيل نهرو كان عبد الناصر قد قرر نوع الرد على إهانة دالاس .

 
فقد قرر أن يؤمم قناة السويس ، التى ظلت طويلا رمزاً للسيطرة الأجنبية وأن يستخدم دخلها فى بناء السد العالى .

 
واتخذ عبد الناصر هذا القرار ما بين العاشرة والحادية عشرة من صباح السبت 20 يوليو ( تموز) .
 
عبدالناصر وتيتو
نحن ضمير العالم 
 
فى 28 سبتمبر (أيلول) 1961- أى قبل أن ينتقل جمال عبد الناصر إلى رحاب الله بتسعة أعوام بالضبط- أصيبت محاولاته لتحقيق الوحدة العربية بصدمة شديدة عندما انفصل السوريون عن الجمهورية العربية المتحدة .


وقد شاركه في أساه مشاركة عميقة صديقاه الماريشال جوزيف بروز تيتو رئيس جمهورية يوجوسلافيا، والبانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند ، اللذان أعجبا فى الوقت نفسه بتصرفه.

فقد رفض عبد الناصر أن يتدخل عسكرياً ضد الانفصاليين السوريين لأنه شعر بأن ذلك يعنى أن يحارب العرب العرب. وكان هذا شيئاً كريهاً ومفزعاً فى نظره ، فضلا عن إيمانه بأن الوحدة لا يمكن أن تفرض بقوة السلاح ، إنما يجب أن تنبثق وتنمو طوعاً من أعماق الشعب .

وقد أعجب نهرو برفضه استخدام القوة ، ذلك أن إراقة الدماء تتنافر مع كل مبادئه، كما أعجب به تيتو لأنه كان يعتقد بأن استخدام القوة يؤدى إلى تعقيدات دولية .

وكان تيتو قد اقترح على نهرو- رغبة منه فى التعبير عن تأييده لصديقه فى ساعة الضيق- أن يزورا جمال عبد الناصر فوافق نهرو على الاقتراح . وهكذا اجتمع الزعماء الثلاثة بعد شهر من ذلك فى قصر " القبة " بالقاهرة ، حيث جلسوا- شأنهم شأن كل الأصدقاء الحميمين- يتذاكرون مشكلاتهم و يناقشونها .

وفي ذلك اللقاء روى لهما عبد الناصر أن شكري القوتلي – رئيس الجمهورية السورية حتى قيام الجمهورية العربية المتحدة – كان قد حذره من أن الانضمام الى السوريين في وحدة ، لن يكون بالأمر اليسير . وقال عبد الناصر إن شكري القوتلي ، التفت اليه بعد أن وقع اتفاق الوحدة الذي أقام الجمهورية العربية المتحدة وقال ضاحكاً :

" تهنئتي ياسيادة الرئيس ! إنك لا تعرف ماذا أخذت . إنك لا تعرف الشعب السوري . فقد ورثت أمة نصف أفرادها من السياسيين ، وربع آخر من أفرادها يعتبرون أنفسهم من الانبياء ، وثمن الأمة يعتبرون أنفسهم من الآلهة . إن في سوريا أناساً يعبدون الله وأناساً يعبدون الشيطان ( طائفة اليزيديين) بل إن هناك طوائف وفرقاً تعبد عضواً معيناً من أعضاء المرأة لأنها تعتبره ينبوع الحياة" .

وروى عبد الناصر لتيتو ونهرو أنه تقبل الممازحة ورد عليها بالمثل سائلاً القوتلي لماذا لم يخبره بذلك قبل توقيع الاتفاق . وكان جواب القوتلي الوحيد أن أغرق في الضحك .

وابتسم عبد الناصر ابتسامة شاحبة إذ تذكر ضحكة القوتلي ، ورد عليه نهرو معزياً بأن عنده هو الآخر مشاكله : " إن عندي 400 مليون مواطن هندي  وذلك يعنى أن عندى 400 مليون مشكلة ".

ولم يشأ تيتو أن يكون هناك من يستطيع منافسته في هذا المجال فقال : " إننى أعانى سبع مشكلات معقدة . فنحن دولة واحدة لكننا نستخدم أبجديتين اللاتينية والسلافية. ويتكلم شعبنا ثلاث لغات الصربية والكرواتية والسلوفانية - المقدونية. وعندنا أربع ديانات : الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية والمسيحية الكاثوليكية واليهودية . وعندنا خمس قوميات : السلوفينية والكرواتية والصربية وقومية الجبل الأسود والمقدونية ، كما أن عندنا ست جمهوريات وتحيط بنا سبع دول مجاورة " !

وهكذا جلس الثلاثة فى ساعة الضيق والشدة يضحكون ويتضاحكون، ويستمدون القوة بعضهم من بعض مستمتعين بتضامنهم .

في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان هؤلاء الرجال كالفرسان الثلالة على المسرح الدولى . وكانوا يختلفون كثيراً بعضهم عن بعض ، فقد كان تيتو ملحداً ، وكان عبد الناصر مسلماً ، وكان نهرو هندوكياً متأثراً بالإسلام .

وكان أحدهم ينحدر من أوروبا، والثاني من آسيا، والثالث من الشرق الأوسط .

وفى ذلك كان عبد الناصر رجل العقيدة والعمل ، وكان تيتو رجل الحسابات والتوازنات ، وكان نهرو رجل الطلاقة الفكرية والتردد . وبالتالى لم يكونوا صالحين لتقمص أدوار أتوس وبورتوس وآراميس، لكنهم كانوا يتصرفون تصرف الفرسان الثلائة في القصة المشهورة وشعارهم " الجميع للفرد والفرد للجميع " .

وكانت هزيمة أحدهم تعنى هزيمتهم جميعاً ، وكان انتصار أحدهم انتصاراً لهم جميعاً . كان كل منهم يبتهج بما يصيبه الآخر من النجاح ويقف إلى جانبه ويشد من عضده في ساعة الخذلان .

وكانوا دعاة فكرة عدم الانحياز وساستها، وهى فكرة آمنوا بأنها حيوية للسلام وللتنمية العالمية.

كانوا يجدون أنفسهم واقعين بين أكبر دولتين عالميتين : الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. وكانوا يشعرون بأنهم سيكونون بالتأكيد من ضحايا المواجهة الذرية بين الدولتين، حتى إذا وقعت هذه الحرب بالصدفة ودون تدبير سابق .

من هنا فلم يحاول عبد الناصر و تيتو ونهرو تأليف كتلة ثالثة ، إنما بذلوا كل الجهد للبقاء مستقلين ، آملين في تسوية المشكلات الدولية، كلا بما تستحقه وبما تمليه ظروفها ، بغض النظر عن سياسات دول الحرب الباردة . وكان يخيل إليهم أنهم يستطيعون بهذه الطريقة أن يزاولوا ضغطاً مؤثراً على كل من أمريكا وروسيا، دون أى تحيز، مستخدمين في ذلك الأمم المتحدة ، وشريعة القانون الدولى كسلاح.

وكان تيتو يقول : " نحن ضمير العالم ولسنا عضلاته ".

-------------------------

اجتمع عبد الناصر وتيتو للمرة الأولى في فبراير ( شباط ) 1955. وفى ذلك الحين كان الزعيم المصرى يتأهب لمؤتمر باندونج، وكان يومها في نزاع مع البريطانيين بشأن حلف بغداد، كما كان يبحث عن مصدر للسلاح لأنه كان قد أصبح واضحاً أن الأمريكيين لن يفوا بوعودهم بتزويد مصر بالأسلحة التي تحتاج إليها . كانت الأحداث تتحرك، وبدأت رائحة المتاعب تفوح في الهواء .

وكان تيتو يقوم بزيارة نهرو، حين اقترح الزعيم الهندى عليه وجوب الاجتماع بعبد الناصر. وهكذا عندما وصل يخت تيتو " جاليب "- طائر النورس البحرى- إلى السويس صعد عبد الناصر إلى ظهر اليخت وأبحرمع تيتو إلى بحيرة التمساح .

كان اللقاء ودياً ، لكنه كان يفتقر إلى الحرارة  التى اتسمت بها صداقتهما فيما بعد، ذلك أنهما لم ينسجما تماماً ، وكان كل منهما يسبر غور الآخر. وقد شعر عبد الناصر بخيبة أمل حيال ما اعتبره إفراطاً في مراسم البروتوكول التى تحيط بتيتو. ولما كان لا يزال عنده بعض التصورات فيما يختص بتقشف الشيوعية فقد دهش تقريباً من طريقة حياة تيتو .

وفي ذلك اللقاء كان تيتو يرتدى زى المارشال وعبد الناصر زى البكباشى .

وكان من الأشياء الى اكتشفها عبد الناصر فى هذه الرحلة شغف تيتو بالحيوانات ، وقد اصطحبه تيتو إلى عنبر السفينة، حيث أراه الأسد الشبل والنسانيس التى أهداها إليه نهرو . وكان نهرو قد أهدى إليه فيلا أيضاً ، واضطر تيتو أن يقول إنه رأى من الأسلم أن لا يحمله في يخته ، وأن تحمله بدلا من ذلك مدمرة كانت في حراسة اليخت .

وتحدث الزعيمان فى الشئون العالمية، ولكن لم يتمخض حديثهما عن شيء مهم . فقد كان اللقاء بين الرجلين استطلاعياً بصورة رئيسية .

واختلف الأمر تماماً عندما عاد تيتو إلى مصر فى ديسمبر (كانون الأول) من تلك السنة . فقد كان عبد الناصر قد عقد صفقة الأسلحة السوفييتية، وكان داخلا فى صراع عنيف مع البريطانيين بشأن حلف بغداد، الأمر الذى يقيم الدليل على أنه كان مصمماً على البقاء مستقلا. كانت هذه الأشياء جميعاً تحمل تيتو على الإعجاب بعبد الناصر وكان عبد الناصر بدوره معجباً بالطريقة  التى تصدى بها تيتو لستالين . وفي هذه المرة انسجما فوراً وسرعان ما تمخض اجتماعهما عن فكرة عدم الانحياز كقوة فى العالم .

وكان عدم الانحياز يعنى- بالنسبة لتيتو- وجود يوجوسلافيا وكيانها كله وقد روى إلى الرئيس عبد الناصر عن مؤتمر يالتا الذى جلس فيه ستالين وتشرشل وروزفلت يقسمون العالم إلى مناطق نفوذ [وهو المؤتمر الذى عقده الحلفاء فى أعقاب الحرب العالمية الثانية فى بلدة " يالتا " الروسية، المطلة على البحر الأسود فى الفترة من 4- 11 فبراير 1945. ] . وكان الأمريكيون يسمحون للروس بأن يبسطوا نفوذهم مائة فى المائة على بلد ما مقابل أن يسمح الروس لهم بأن يبسطوا نفوذهم مائة  بالمائة على بلد آخر. وكان العالم كقطعة حلوى وزعوها فيما بينهم ، غير أن يوجوسلافيا، كانت القطعة التى اقتسموها بالنصف تماماً .

وكان تيتو مقتنعاً بأن هذا التقسيم لمناطق النفوذ في يوجوسلافيا، كان يعنى أن أى تحول فى ميزان القوى فيها من شأنه أن يعود بكارثة عليها. ولم يكن من شأن الروس أن يسمحوا للأمريكيين بالتغلغل في يوجوسلافيا ، كما لم يكن الأمريكيون ليسمحوا للروس بالاستمتاع بحرية التحرك الملاحي فى البحر الأبيض المتوسط عبر الموانئ اليوجوسلافية على الأدرياتيكى .

من هنا فقد كان تيتو يؤمن بأن عدم الانحياز ليس فقط سبيل يوجوسلافيا إلى السلم إنما هو الأساس الحقيقى لاستقلالها وسلامتها .

أما الموقف المصرى حيال عدم الانحياز فقد انبثق بشكل آخر. فقد كان ثمة كلام كثير عن حياد مصر حتى فى أيام الحزب الوطنى . بل إن بعض أعضاء الحزب الوطنى نادى بتحويل مصر إلى سويسرا " الشرق الأوسط ". وكان منطقهم في ذلك أن الدول الكبرى خليقة بأن تؤيد مثل هذا المسعى لأن من شأنه أن يبعد عن قناة السويس خطر الوقوع في نطاق أى حرب .

ومن الشخصيات البارزة التى حاولت إقناع الرئيس عبد الناصر بهذه السياسة الدكتور محمود عزمى ، الكاتب المرموق ، الذي عينه عبد الناصر فيما بعد مندوباً دائمأ لمصر في الأمم المتحدة حيث وافاه الأجل بنوبة قلبية بيما كان يدافع عن حق مصر في إغلاق خليج العقبة.

وكان من رأى محمود عزمى أنه إذا أعلنت مصر حيادها المطلق ، فسوف تستطيع الخلاص من البريطانيين الذين كانوا لا يزالون يحتلون منطقة قناة السويس . لكن عبد الناصر اعترض بأن قضية سويسرا تشكل وضعاً خاصاً جداً ومختلفاً جداً . ذلك أن لكل الدول الكبرى مصلحة في الإبقاء على حياد سويسرا بسبب الاستثمارات المالية ومرافق المواصلات والصليب الأحمر وكل الخدمات الأخرى التى يمكن لسويسرا أن تقدمها إلى بلاد تجد نفسها دائماً في حرب مع بعضها البعض . أضف إلى ذلك أن غزو سويسرا لم يكن ليخدم أى غرض مفيد، أما مصر فإنه لا يمكن إبعادها بسهولة عن الحرب، ذلك أن كل دولة كبرى تدرك أهمية مصر الاستراتيجية كمفترق طرق عالمى وبالتالى فليس من شأنها أن تسمح لمصر بأن تكون محايدة على الطراز السويسرى .

ومع هذا فقد كان الرئيس يبحث عن مخرج يبعده عن النزاع بين الكتلتين الكبيرتين . كان استقلال مصر هو الشيء الذى يريد أن يضمنه . وفى الوقت الذى عقد اجتماعه مع تيتو برزت فكرة عدم الأنحياز كأفضل سبيل تتبعه مصر للبقاء مستقلة .

وقد رفض عبد الناصر كل إغراءات دالاس وضغوطه من أجل الانضمام إلى الأحلاف المعادية للسوفييت، وفى الوقت نفسه أحبط كل المحاولات الشيوعية الرامية إلى أن يكون لها نفوذ في مصر.

وهكذا وصل الرجلان إلى عدم الانحياز، ولكن عن طريقين مختلفين :
فقد فرضت يالتا والحرب الباردة على تيتو طريقه فرضاً ، أما عبد الناصر فوصل إلى تبنى عدم الانحياز عن طريق مناقشة الحتميات المنطقية التى أدت إلى استبعاد كل مجريات العمل الأخرى.

ومن الغريب فعلا أن تيتو كان يخشى انتهاء الحرب الباردة بنفس الدرجة التى كان يخشى بها استمرار هذه الحرب ، فقد كان خائفاً من الحرب الباردة بسبب أخطار الدمار الذرى الذى من شأنه أن يمس العالم بأسره ، وكان خائفاً من التفاهم بين الروس والأمريكيين ، لأن من شأنه انبثاق تسوية عالمية تفرضها الدولتان العملاقتان، ولا تفيد غيرهما . كان يرى في مثل هذه التسوية " يالتا نووية " .

" أما الاجتماع الثالث بين الزعيمين فكان ذلك اللقاء التاريخى فى بريوني ، في يوليو (تموز) 1956 ، عندما اجتمع عبد الناصر وتيتو ونهرو، للمرة الأولى معاً ، مثيرين ريبة الكرملين وهياج جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى .

وكان عبد الناصر قد سبق نهرو إلى بوجوسلافيا حيث أخذه تيتو فى جولة واسعة في أنحاء الولايات اليوجوسلافية ليطلعه على مرافق التنمية الصناعية والزراعية. وعندما وصل نهرو إلى بريوني. وجد الزعيمين- المصرى واليوجوسلافي- في استقباله.

وحياهما نهرو بحرارة لكنه كان قلقاً لأنه كان قد اجتمع بفريق من المراسلين الاجانب في مطار بولا ورأى أنهم يبالغون كثيراً فى أهمية الاجتماع . وقال نهرو لهم : " ليس هذا مؤتمراً، إنما هو لقاء بين أصدقاء " . وضحك تيتو قائلا : " و لماذا تحاول التقليل من أهمية اجتماعنا ؟ لماذا تحاول أن تهبط من قدرنا؟ " ، و لكن نهرو كان قلقاً حقاً . إذ راح يقول : " يا لهؤلاء المراسلين الحمقى . انهم يتحدثون عنا كما لو كنا كتلة أخرى بينما نحن ضد كل الكتل " .

وتبين في النهاية أن الاجتماع كان أكثر أهمية مما كان يتصور أى إنسان ، وبالتالى فقد كانت الأحداث الى انبثقت منه أكثر أهمية مما تخيله الجميع .

ذلك أن عبد الناصر- فى طريق عودته من بريوني - تلقى رسالة بالراديو عن سحب دالاس- بطريقة مهينة- عرض المساعدة الأمريكية لبناء السد العالى . وكانت الأحداث التى تلت تلقيه هذه الرسالة تاريخية فعلا بل لم يكن من الممكن أن تكون أكثر تاريخية من ذلك .

وكانت لبريونى كذلك بعض اللحظات الغريبة. وحدثت إحداها فى البداية بينما كان تيتو يتلو على نهرو وعبد الناصر الرساثل الى تلقاها من أرجاء العالم حول اجتماعهم . وكانت كلها تقريباً من رسائل التهنئة والتمنيات الطيبة لكنه توقف عند إحداها قائلا : " لقد تلقيت هذا الخطاب من رجل يرغب في أن يأتي إلى بريوني وينضم إلينا فى مناقشاتنا . بل أنه يعرب حتى عن استعداده لينضم إلينا فى عدم الانحياز. ولا أريد أن أكشف لكم اسمه لأننى أريد أن أرى رد فعل الرئيس عبد الناصر ".

قال هذا وأعطى عبد الناصر رسالة من بن جوريون يطلب فيها إلى الماريشال تيتو أن يتوسط في النزاع العربي- الإسرائيلى، ويقول إنه مستعد للطيران إلى بريوني للانضمام إلى جماعة عدم الانحياز. وقرأ عبد الناصر الرسالة وقال : " حسناً، لا شك أن هذه بداية مضحكة جداً ".

ومما زاد فى غرابة أمر هذه الرسالة أن بن جوريون كان منهمكاً آنذاك فى الإعداد لهجومه على سيناء بالتواطؤ مع الفرنسيين والإنجليز .

واستطاع عبد الناصر أن يثبت بسهولة لصديقيه، بمجرد سرد مقتضب للوضع فى الشرق الأوسط، كيف أنه من المستحيل على بن جوريون قطعاً أن يكون غير منحاز في أى يوم من الأيام .

وكان أحد أهم جوانب المحادثات هو المجهود الذى بذله الثلاثة لاستكشاف الطريقة الى سيحكم بها خروشوف الاتحاد السوفييتى، وكيف ستؤثر سياساته على بقية أنحاء العالم .

وكان تيتو يزور موسكو فى فبراير (شباط) من تلك السنة، أى أثناء انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتى- وهو المؤتمر الذى عرف فيما بعد باسم مؤتمر التطهير من الستالينية- وهكذا استطاع أن ينقل إلى عبد الناصر ونهرو شيئاً من الخطاب الشهير الذى ألقاه خروشوف فى المؤتمر وهاجم فيه ستالين، كما استطاع أن ينبئهما ببداية الحملة ضد الستالينية.

والواقع أن ثاني الموضوعات أهمية- التى نوقشت في مؤتمر بريوني بعد عدم الانحياز رغم أنه لم يعلن عنه فى حينه- فهو الآثار العالمية المحتمل أن تترتب على نزع الصبغة الستالينية.

وكان تيتو فعلا على علم بكل ما كان يحدث في الكتلة السوفييتية، وقد أعجب عبد الناصر بالطريقة التى كان اليوجوسلافيون يجمعون بها المعلومات ويحللونها . وكان تيتو كذلك يرسل إلى عبد الناصر ونهرو نسخة من التقارير التى كانت ذات أهمية بالنسبة إليهما وكان يكتب على هذه التقارير كلمة " مطالعة مثيرة للاهتمام " ويوقع بإمضائه.

وكان الزعيم اليوجوسلافي يراقب الفاتيكان- دائماً- عن كثب . فقد كان يعتبر الفاتيكان من أهم المواقع الديبلوماسية والسياسية. وكان يعتقد أن فى وسعه أن يستحوذ من الفاتيكان على معلومات عن الغرب تزيد فى أهميتها كثيراً على أية معلومات يستقيها من أى مصدر آخر.

على أنه لم يكن من رأى اليوجوسلافيين، أن بيوس الثاني عشر- البابا في ذلك الحين- هو البابا الحقيقى، إنما كانوا يعتقدون أن الكاردينال سبيلمان - الأمريكي- هو رجل السلطة الفعلية في العالم الكاثوليكي .

-------------------

وكانت محادثات بريونى مهمة من حيث أنه جرى فيها تخطيط مستقبل سياسة عدم الانحياز. وفى هذا المؤتمر توثقت أواصر الصداقة بين الزعماء الثلاثة . ولكن شيئاً واحداً فى بريونى لم يعجب عبد الناصر.
كان ذلك الجانب هو البروتوكول الذي كرهه عبد الناصر فى اجتماعه الأول مع تيتو والذى كان لا يزال يحيط بالرئيس اليوجوسلافى .

وبهذه المناسبة تلقى رئيس تشريفات الرئيس عبد الناصر من زميله اليوجوسلافي لائحة بالاحتفالات وبالثياب التى يجب ارتداؤها . فكان يجب لإحداها ارتداء سترة " اسموكنج " للعشاء ، ولأخرى بذلة " فراك "، وكان عبد الناصر لا يطيق ذلك على الإطلاق .

وارتدى عبد الناصر سترة العشاء " الإسموكنج " مرة واحدة ، وفي تلك الليلة التى ارتداها توسل إلى تيتو كى لايسمح للمصورين بالتقاط صورته قائلا : " إننى أشعر بالخجل الشديد وأنا أرتديها، وأرى أن منظرى فيها يبدو غريباً للغاية ".

وكان من بين أمتعة عبد الناصر رداء القائد الأعلى للقوات المصرية المسلحة لكنه لم يطق أن يلبسه إلا مرة واحدة ، عاد بعدها إلى لبس ردائه كبكباشى في الجيش أو الزى المدني .

وكان الفارق بين تيتو وعبد الناصر يكمن في أن تيتو كان على استعداد للقبول بالبروتوكول بينما كان عبد الناصر يتمرد عليه دائمأ .

وذات ليلة عندما كان عبد الناصر يستضيف تيتو على العشاء في يوجوسلافيا قال له رئيس التشريفات الذى صمد في منصبه منذ أيام فاروق :

يا سيادة الرئيس : عليك أن تنتظر ضيفك تحت الثريا ".

ولما سأله عبد الناصر عن السبب أجاب :

" لأن مكانك هناك يا سيادة الرئيس " .

وسأله عبد الناصر من جديد:

" ولماذا تسمرني فى مكان واحد؟ إننى، لا أريد أن أقف في ذلك المكان ".

وارتبك رئيس التشريفات وسأل الرئيس :

" ولم لا يا سيادة الرئيس ؟ "

وضحك عبد الناصر وقال :

" لأن الثريا قد تقع على رأسى " .

والواقع أن ذلك اليوم كان سيء الطالع بالنسبة إلى رئيس التشريفات المصرى واليوجوسلافي الذين كانا معا في حالة من العصبية البالغة . وبعد أن وصل تيتو وحياه عبد الناصر عند الباب بدأ رئيس التشريفات المصرى ينسحب ماشيا إلى الخلف... وتزحلق على البلاط المرمري ووقع على ظهره.

وأثارت هذه السقطة المفاجئة من ذلك الرجل الوقور ضحك عبد الناصر وتيتو بينما كان رئيس التشريفات !اليوجوسلافي يتطلع بدهشة إلى زميله المصرى الممدد على الأرض . وسرعان ما وجد نفسه إلى جانبه ممددا على الأرض . إذ تزحلق هو الآخر ، بجانب زميله المصرى بينما كان رئيسا دولتيهما يضجان بالضحك عليهما.

وكانت تلك أيضاً سقطة البروتوكول الكبرى . فبعدها لم يعد البروتوكول يقيد تيتو وعبد الناصر ويزعجهما.

فقد كانت لكل منهما مشاغل أكثر أهمية . وكانت المشاغل تستأثر بعبد الناصر بشكل خاص لأن الأحداث التى أدت إلى أزمة السويس بدأت تتكشف قبل مغادرته بريوني . وكان عبد الناصر يناضل من أجل البقاء ذاته.

----------------------

وثمة اجتماع آخر أثر فى كل منهما تأثيرا عميقا . كان ذلك هو الاجتماع الذى تم في يونيو (حزيران) 1958 قبيل الانقلاب ضد نورى السعيد والملك فيصل في العراق .

فقد دعا تيتو عبد الناصر إلى حضور الذكرى السنوية الخامسة عشر لمعركة سوتيسكا ، المعركة التى كان الألمان قد أرادوا منها إبادة جيش الأنصار " البارتيزان " الذى يقوده تيتو . وقد طوق الألمان بست فرق محاربي  تيتو البالغ عددهم 19 ألف رجل ودارت رحى القتال دون هوادة و تجلد فيها الطرفان حتى النهاية لكن الألمان أخفقوا فى تحقيق غرضهم . ومع أن الأنصار تكبدوا خسائر جسيمة فإن الناجين منهم عاشوا ليستأنفوا الكفاح وليحرروا يوجوسلافيا من النازيين .

وأصبح ميدان المعركة بعد ذلك مكانا مقدسا وترك كما كان لم يمس فيه شيء . وعندما اجتمع " البارتيزان " بالألوف من جميع أرجاء يوجوسلافيا للاحتفال بذكرى المعركة، أضيء ميدان القتال بنيران المشاعل التى كانت تتوهج على وجوه الأصدقاء القدامى وهم ينشدون الأغاني التى ملأت قلوبهم بالشجاعة فى القتال ضد النازيين قبل 15 عاما .

وشاركهم تيتو في الغناء ورأى عبد الناصر جانباً لم يكن يعرفه فى تيتو. فقد شاهده كزعيم لرجال المقاومة وسط رجاله. وما من شيء وطد العلاقات ووثقها بين الزعيمين مثل ذلك الوقت الذي أمضياه على أرض ميدان معركة سوتيسكا.

وكانت لحظة تموج بالعواطف. وروى تيتو لعبد الناصر حكاية فتاة من الأنصار جاءت إليه والمعركة في أوجها تحمل إليه وشاحا طرزت عليه اسمه .ولما سألها تيتو : " كيف حصلت عليه؟ "

أجابته : " لقد اشتريته لك بكيلو من الزبد ".

وتصادف أثناء إعداد مقر مخيم الاحتفالات أن تم العثور على قبر الحارس الشخصى لتيتو الذى قتل أثناء المعركة ودفن فى ميدانها . ولما بلغ النبأ تيتو اصطحب عبد الناصر لزيارة قبر ذلك الرجل الذى هوى صريعا فى القتال من أجل الحرية.

واعتذر بوبوفيتش ، وزير الخارجية اليوجوسلافية، من الانفعال العاطفى الذى يحيط بالمناسبة قائلا:

" أرجوك يا سيادة الرئيس أن لا تلومنا إذا تصرفنا كالأطفال . ولكن هذا المكان قرر الحد الفاصل بين الحياة والموت بالنسبة إلينا جميعا ".

وتحدث تيتو إلى عبد الناصر عن رجال المقاومة وعن المشكلات التى صادفها في توجيههم من الحرب إلى السلام وفي تحويل تكوين محاربيه إلى إطار الدولة الجديدة . وتحدث إليه كذلك عن مشكلاته مع ستالين وروى له كيف أنه لم يكن فى وسع ستالبن أن يدرك أن اليوجوسلافيين كانوا راغبين فى استقلالهم وراغبين فى أن لا ينحازوا إلى أحد، وراغبين فى اتباع سبيلهم الخاص إلى الاشتراكية.

وروى لعبد الناصر كيف أنه أمر بإجراء تقدير لموقف السوفييت تجاه يوجوسلافيا بعد الحرب مباشرة . وكانت النتيجة تقييما يفيد أن السياسة السوفييتية تجاه يوجوسلافيا تكون إما انتهازية أو عدائية.

واحتج الكسندر رانكوفيتش- نائب الرئيس اليوجوسلافي في ذلك الحين- على هذه النتيجة احتجاجا غاضبا والتفت إلى الخبير الذى قام بالتقدير وسأله:

" هل تعرف من يصوغ سياسات الاتحاد السوفييتى ويقررها؟ "

أجاب المسئول .

" أجل أعرف، إنه ستالين "

واضطر تيتو إلى التدخل فى المناقشة وأن يوضح أنه هو شخصيا طلب إجراء الدراسة عن السياسة الروسية " بغض النظرعن الشخص الذى يصوغ تلك السياسة ويقررها " .

وبعد ذلك زج رانكوفيتش الستالينى في السجن لتآمره على تيتو. وصعق عبد الناصر عندما أنبأه تيتو بأن أجهزة التسجيل السرية قد دست في زوايا بيته . وأن التجسس عليه كان من الشدة والدقة بحيث أن رجاله اكتشفوا ميكروفونات عدة مخبأة في غرفة نومه.


وبعد سنوات من ذلك كانت مكالمات عبد الناصر التليفونية الخاصة حتى مع أصدقائه موضع التجسس والاستماع من المتآمرين فى بلده . على أن تلك حكاية أخرى .

-------------------

رسخت عميقا في التفكير السوفييتى ريبة ستالين في تيتو وافتقاره إلى تفهمه . وكان خروشوف شديد الارتياب في صداقة عبد الناصر مع تيتو . وذات يوم انفرد الرجلان فشاهد الزعيم السوفييتي صورة لعبد الناصر وتيتو يتبادلان قبلات التحية على الوجنتين . وهنا قال لعبد الناصر:

" إننى أعرف أنك صديق لتيتو ، لكنني أسألك هـل تصدقه ؟ "

وأجابه الرئيس :

" نعم إنني أصدقه ، وأثق فيه!  " .

ولم يسع خروشوف أن يتقبل شيئا من ذلك فمضى يقول :

" إنه منافق . وعندما يقبلك فإنه يعطيك خدا ويعطى الأمريكيين الخد الآخر " .

ودافع عبد الناصر عن تيتو ثم التفت يسأل خروشوف : " لماذا تحتمل كوني أومن بعدم الانحياز بيما لا تطيق عدم انحياز تيتو؟ ".

أجابه خروشوف بسرعة : " ألا تعرف لماذا ؟ "

ولما هز عبد الناصر رأسه بالنفي قال له خروشوف :

" لأنه إذا نجح تيتو فإن من شأنه أن يؤثر في كثلتنا لكنك إذا نجحت أنت فإن من شأنك أن تؤثر في الكتلة الأخرى " .

وفي ليلة ثانية في ميدان سوتيسكا تحدث تيتو بغضب عن سير الأمور في يوجوسلافيا. ومع أنه لم يقر الطريقة الى أوضح بها مليوفان دجيلاس آراءه في كتابه " الطبقة الجديدة " فقد كان يوافق على كثير من تلك الآراء . فقد قال للرئيس عبد الناصر: " سمعت بقصة موظف حكومي ركب سيارة رسمية مسافة 800 كيلومتر ليشهد مباراة في كرة القدم ". وأعرب تيتو عن قلقه من الأموال التي تنفق على الاحتفالات والحفلات الرسمية ومن الإسراف ومظاهر البذخ .

وقال إنه كان ينبيء ستالين شيئا كان يردده باستمرار لمساعديه وهو أنه إذا ما ناقضت نتائج التجربة كارل ماركس فإنه يفضل أن يخضع لدروس التجربة وليس لتعاليم ماركس ، ومضى يقول:

" وما زلت أقول لمساعدى إننى أريد مزيدا من الأسمدة والجرارات وقليلا من الشعارات الاشتراكية ".

وكانت مناسبة الاحتفال بمعركة " سوتيسكا " مناسبة سعيدة مثمرة بالنسبة إلى العلاقات بين مصر ويوجوسلافيا. وقد انتهت زيارة عبد الناصر لتيتو بتوجه الرئيس على جناح السرعة إلى موسكو بسبب الثورة في العراق وسبب خطر التدخل الأمريكى هناك . وساعدت مأساة أحداث تلك الأيام وأخطارها على توثيق عرى الصداقة بين تيتو وعبد الناصر...

ومن الأمثلة التى تجلت فيها تلك الصداقة الرحلة التى قام بها تيتو إلى أفريقيا وآسيا لمدة شهرين عام 1958 حينما مثل- بناء على طلب عبدالناصر- مصر كما مثل يوجوسلافيا في زياراته. كانت رحلة تيتو مهمة تبشير بالسلام وبمبدأ عدم الانحياز. وقد قال عبد الناصر في ذلك الحين :

" إن عدم الانحياز ليس حالة، إنما تيار يستطيع كل من يحمل فكرته أن يمثله ".

وبدأ تيتو سلسلة زياراته في ديسمبر (كانون الأول) فمر على متن يخته بميناء بورسعيد. وعندما عاد بعد شهرين توجه لمقابلة عبد الناصر ومن ثم ذهب الزعيمان معا إلى سوريا حيث تأثر تيتو تأثرا هائلا بالاستقبال الذى لقياه .

وتصادف أثناء زيارتهما- أن كان موكبهما متوجها من دمشق إلى حمص عندما هبت عاصفة ثلجية سدت الطريق وقطعته. ولم تستطع سوى السيارة الى تحمل الرئيسين أن تجتاز العاصفة الثلجية وتصل إلى قرية " الفارق " الصغيرة حيث لجأ الرئيسان إلى أقرب بيت . وكان صاحب الدار غائبا ولكن يمكن أن يتصور القاريء دهشته عندما عاد متعثرا عبر الثلوج ليجد حرس الرئيسين خارج بيته والرئيسين داخله .

وسارع الرجل في الحال ونحر شاة تكريما لهما. وعلم الجيران- برغم العاصفة الهوجاء- بأمر ضيفيه فتسارعوا إلى إعلان الحفاوة بهما وفي مدى ربع ساعة فقط كانوا قد نحروا اثنتى عشرة شاة إلى أن ناشد تيتو صديقه عبد الناصر أن يوقف إراقة الدماء .

وعلى سبيل المثال لا الحصر التقى عبد الناصر وتيتو أكثر من ثلاثين مرة وأمضيا الساعات الطويلة معا. وكانت جزيرة " فانجا "- التى تقع خلف فيللا تيتو في بريوني- من أبهج الأمكنة التى تعودا على اللقاء فيها. كان تيتو شغوفا بتلك الجزيرة التى أطلق فيها القرود التى أهداها إليه نهرو. والواقع أنه ملأها بالطيور والحيوانات فكانت الديوك البرية والطواويس بأذيالها الملونة الطويلة تتبختر في ممراتها . وعندما علم المزارعون المحليون باهتمام تيتو بتلك الجزيرة سارعوا إليها وزرعوها- بالورود وأشجار الفاكهة من أجله.

وكانت لتيتو أقبية خمر خاصة به وكان يستمتع باصطحاب ضيوفه إليها ليشربوا من خمره ونبيذه. وكان في ذلك يتصرف عن خبرة وكانت هذه هى  مملكته الصغيرة .

وقد ارتكبت أنا شخصيا- إثر زيارتي الأولى لأقبية فانجا- خطأ وصفه بأنه " أول ملك شيوعي ". فقد يكون ملكا بالقياس إلى أسلوب حياته لكنه شيوعى من قمة رأسه إلى إخمص قدميه. وقد ذكرني مداعبا عند اجتماعنا التالي بشأن هذا الوصف الذى أطلقته عليه.

كانت المناقشات التى تدور حول مائدة أقبية " فانجا " طويلة وساحرة . ولم يكن عبد الناصر يمس الخمر إطلاقا أما تيتو فكان يشرب كأسين من الويسكى يوميا ، جسب تعليمات الأطباء، بينما كان النبيذ يقدم إلى بقية المدعوين .


وكان عبد الناصر متشوقا إلى معرفة المزيد عن التجربة اليوجوسلافية وكانت تدور حول المائدة مناقشات عقائدية وأحاديث عن الماضى، وآمال بالنسبة إلى المستقبل .

تلك كانت لقاءات تتسم بالراحة الكاملة بين الأصدقاء .
  

وقد آلت اللقاءات والأبحاث والخطط في 1961 إلى عقد أول مؤتمر لدول  عدم الانحياز في بلجراد ( في الفترة من 1- 6 سبتمبر) . وكان كل من تيتو وعبد الناصر حريصا كل الحرص على نجاح المؤتمر، فى وقت كانت الأحداث تتحرك عبر مرحلة من القلق وعدم الاستقرار . فقد كان الرئيس كنيدى لم يزل حديت العهد في منصبه. وكانت مغامرة غزو كوبا قد انتهت إلى فشل وإفلاس ذريعين . وكان ذلك اللقاء الذى تم بين خروشوف وكنيدى فى فيينا قد أضر أكثر مما نفع . ثم كان ذلك التصعيد فى القتال فى لاوس .

وباختصار.. لم تكن دلائل الأيام وإشاراتها بمشجعة على الإطلاق .

وفي الثالث من أغسطس ( 3 آب) كتب تيتو إلى عبد الناصر يعرب عن خيبة أمله لأن بعضا من رؤساء الدول قرروا " أن يكتفوا بإرسال ممثليهم إلى المؤتمر أو أن يمتنعوا عن المشاركة فيه كليا " .

وأضاف يقول بالحرف : " إن الاستعدادات الشاملة والنشطة للمؤتمر تتخذ الآن ، وإن كل شيء سيكون جاهزاً في الموعد المحدد . ولكن يجب أن أعترف بإننى لا أعتقد شخصيا بأن الحاجة ستكون ماسة إلى مثل ذلك الإعداد الهائل .

" وكما كان متوقعا، فإن بعض الدول الكبرى لم يبق مكتوف اليدين . فقد بدأوا يزاولون الضغط على كل من رؤساء دول عدم الانحياز من أجل حملهم على عدم حضور المؤتمر أو عدم إرسال ممثليهم إليه. على أن ذلك لا يمكن بالطبع أن يقال بالنسبة إلى معسكر من المعسكرين إنما يمكن أن يقال بالنسبة إليهما معا . هذا ما جرى  في البداية و في رأيي أن هذه الحقيقة هى بالضبط العامل الذى يمنع بعض رؤساء الدول من المجىء شخصيا إلى المؤتمر . وأعتقد أنك تعرف من يخطر اسمه على بالى فى هذا الصدد".

والواقع أن السفير السوفييتى سلم- قبل يومين من الموعد المقرر لافتتاح !المؤتمر- كلا من ممثلى دول عدم الانحياز في المؤتمر- وكان عددهم يناهز الخمسمين- رسالة شخصية من خروشوف. وجاء فيها : أن الاتحاد السوفييتى سيستأنف إجراء التجارب على الأسلحة النووية.

وأثار هذا النبأ الغليان في المؤتمر والقى به في أتون الصراع  ذلك أن استئناف التجارب النووية كان يناهض كل ما كانت تنادى به دول عدم الانحياز . ولم يسع أى إنسان أن يفهم السبب الذى حدا بخروشوف أن يقرر أولا: استئناف التجارب وثانيا إعلان قراره هذا بحيث يتصادف موعده مع موعد المؤتمر وأن يذيع النبأ بذلك الشكل الشخصى الواضح .

وانضم نهرو إلى عبد الناصر وتيتو بينما كانا يبحثان الوضع الجديد فى ضوء سياسة عدم الانحياز. وأصغى الزعيم الهندى إليهما ثم انفجر قائلا :

" إن المشكلة لم تعد مشكلة انحياز أو عدم انحياز . إننا نجابه الآن قضية السلام أو الحرب ، أجل إما السلام أو الحرب " .

وكان نهرو بالغ الانفعال والاضطراب من الأخطار التى كان يراها منبثقة من استثناف التجارب النووية.

وانفرد تيتو وعبد الناصر بمحمود فوزى وبوبوفيتش وبدأ الأربعة يحللون البيان الروسي محاولين العثور على المبرر المنطقى الكامن وراءه .

ولم يستطيعوا أن يدركوا السبب الذى يدفع الروس إلى تعمد إثارة استياء دول عدم الانحياز. وفى النهاية تنبه الجميع إلى عبارة فى رسالة خروشوف يقول فيها : " سيبرهن التاريخ فيما بعد أن هذا القرار الذي اتخذه الاتحاد السوفييتى يخدم مصلحة السلام ".

ومن ثم خلصوا إلى أن خروشوف كان يحاول أن يقنع المؤتمر بأن عليه أن يعمل الآن وإلا فاته الوقت قطعا. وأن على دول المؤتمر أن تجعل نفوذها محسوسا الآن وإلا فإنها لن تستطيع ذلك بعد ذلك. وكان خروشوف من خلال ذلك يتعمد الضغط على المؤتمر حتى تضغط دول عدم الانحياز بدورها على الولايات المتحدة من أجل إجراء تسوية للقضايا الدولية قبل فوات الأوان .

وعمد عبد الناصر- على أساس الأفتراض أنه فهم رسالة خروشوف على وجهها الصحيح- إلى تغيير خطابه الافتتاحى في المؤتمر إذ قال : " ليس أمامنا الآن من بديل فإما الحرب أو المفاوضات ". وقال مخاطبا المؤتمر: " علينا أن نحاول إذابة الجليد بين الدولتين الكبيرتين " . وأقترح على دول عدم الانحياز أن تحاول ترتيب مؤتمر قمة بين كنيدي وخروشوف .

" ووافق المؤتمر على تبنى اقتراح عبد الناصر وإيفاد مبعوثين إلى كل من أقوى رجلين فى العالم. تقرر إيفاد سوكارنو رئيس جمهورية إندونيسيا وموديبوكيتا رئيس جمهورية مالى إلى البيت الأبيض، بينما تقرر إيفاد نهرو رئيس وزراء الهند ونكروما رئيس جمهورية غانا إلى الكرملين .

وحمل المبعوثون رسالتين أصر نهرو على كتابة مسودتيهما إلى خروشوف وكنيدى تطلبان إليهما أن  يجتمعا ويتفاوضا من أجل السلام العالمى .

وقد قال نهرو : " للمرة الأولى في التاريخ تتقدم أقل الدول قوة بمطالب-  ترقى إلى مرتبة الأمر-، إلى أكثر الدول قوة فى العالم ".

ولم ينجح المبعوثون الأربعة في مهمتهم وتردت العلاقات بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة في الأشهر التالية حتى آلت إلى أزمة  الصواريخ الكوبية . ومع ذلك فإن الموقف العنيد الذى اتخذته دول عدم الانحياز- حيال استئناف التجارب النووية- ساعد على وجه التأكيد، على تحقيق الاتفاق الجزئى على حظر التجارب النووية الذى تم بعد ذلك- بين أمريكا وروسيا.

--------------------------

وبعد المؤتمر، انغمس عبد الناصر مباشرة في الأزمة السورية ومشكلة انفصام الجمهورية العربية المتحدة وكتب إليه تيتو معزيا متعاطفا ومعجبا في 8 أكتوبر ( تشرين الأول) : " هل لى قبل كل شئ أن أهنئك على القرارات العظيمة التي تنم عن الحكمة السياسية التى اتخذتها في الحالة الخطيرة الناجمة عن الانقلاب العسكرى فى الإقليم السورى من الجمهورية العربية المتحدة؟ إننا جميعا معجبون بالغ الإعجاب بقرارك بعدم التدخل عسكريا ضد العصاة الذين هم- سواء علموا أم لم يعلموا- أدوات الرجعيين المحليين وكذلك أدوات الأجانب من أعداء التضامن العربي . وإننا كذلك معجبون ببيانك القائل إنك لن تعارض فى قبول سوريا في الأمم المتحدة والجامعة العربية.

إن هذه في الواقع ، قرارات بعيدة المدى لأنك انتزعت كل الأسلحة من  أيدى الرجعيين السوريين والقوى الامبريالية، التى لا تحاول بدعايتها أن تخدع الشعب السورى والعالم العربى فحسب إنما كذلك الرأى العام العالمى بشأن الطبيعة الحقيقية للانقلاب وبشأن حقيقة نواياه .

اسمح لى بأن أنهى إليك عواطفى الخالصة مشفوعة بتمنياتي الصادقة وكذلك بتمنيات شعبنا بأن تحقق النجاح الكامل ليس فقط لنضالك العادل من أجل مستقبل أفضل وأمثل وأسعد لشعبك : إنما كذلك لنضالك ضد كل مكائد الرجعيين والدول الاستعمارية الموجهة ضد بلادكم وضد التضامن العربي عامة ".

وبعد أن خط هذه الرسالة توجه تيتو مع نهرو لإظهار التعاطف مع عبد الناصر شخصيا في القاهرة.

----------------------------

وكان تبادل الرسائل مستمرا بين تيتو وعبد الناصر وقد بحثا فى أزمة الصواريخ الكوبية واليمن والنزاع بين الهند والصين برسائل مطولة ودية وكانا فى العادة على وفاق واتفاق على كل نقطة.

فمثلا أيد تيتو- تأييدا كاملا- قيام عبد الناصر بتحمل " العبء الكبير فى مساعدة حكومة اليمن الثورية " . واني لأتساءل عما يمكننا- نحن وغيرنا من الدول- أن نفعله من أجل تخفيف العبء عن كاهلك ، أى من أجل مساعدة حكومة اليمن الثورية ".

أما النزاع الهندى- الصينى فقد آلمهما كليهما بشكل خاص . فكتب تيتو إلى عبد الناصر فى تاريخ 22 نوفمبر (تشرين الثانى) ،

إن من أهم الأمور: وضح حد فورى للعمل العسكرى والبدء فورا فى المفاوضات وغني عن القول إن الهند يجب أن لاتشعر بالذل، وإن الصين- من جهة أخرى- يجب أن تقبل اقتراحك بالانسحاب إلى المواقع التى كانت تحتلها قوى الجانبين قبل أكتوبر (تشرين الأول) "

ومضى تيتو في رسالته يقول :

" لقد وجهت إلى رئيس الوزراء الهندى نهرو كتابا أعربت فيه عن اعتقادى بأنه سينجح فى إيجاد سبيل لانفراج الوضع وبأنه لن يسمح باشتباكات جديدة من شأنها أن تؤدى إلى عواقب بالغة الخطورة وإلى المزيد من التعقيد فى العلاقات المتوترة السائدة فى العالم . وبالنظر إلى السمة الخاصة للعلاقات التى تربطنا بأحد فريقي النزاع ، فإن نشاطنا لا يمكن أن يتكشف إلى المدى الذى نرغب فيه. ومع ذلك فقد اعتبرنا أن من واجبنا أن نبلغ ممثل جمهورية الصين الشعبية فى بلجراد وجهات نظرنا فى نزاعها مع الهند وفي العواقب السيئة التي ستترتب حتما على إطالة أمد النزاع ".

وبسط عبد الناصر مشكلاته فيما يتعلق بالنزاع بين الهند والصين في كتاب طويل إلى تيتو بتاريخ 12 فبراير (شباط ) 1963 قال فيه :

" لقد جابهنا هذا النزاع ، للمرة الأولى، بمشكلة جديدة وأعني بها مشكلة نشوب حرب على نطاق واسع وبشكل فجائي بين بلدين آسيويين هما عضوان في مؤتمر باندونج . لا بل أن هذين البلدين مرتبطان قبل مؤتمر باندونج ببيان الباتاشيلا (المبادئ الخمسة) باعتباره سبيلا للتعايش السلمي .

إن موقفنا حيال المشكلة كان من أشق الأمور. فقد شعرنا- بلا أدنى شك- بأن الصين- سواء عن قصد وتصميم أم بغير قصد ولاتصميم- قد ارتكبت خطأ جسيما وإن عناصر دولية مهمة وكذلك عناصرمحلية فى الهند بالذات رغبت فى اقتناص الفرصة لزعزعة إيمان الهند بسياسة عدم الانحياز.

فى مثل هذا الجو وبرغم رأينا الصريح الواضح في سياسة الصين حيال المشكلة، تجنبنا إصدار بيان يستنكر العدوان بشدة حتى لا تزيد الحالة تشابكا وحتى لا نسد الطريق تماما قبل بذل كل مجهود لإيجاد مخرج من الأزمة.

وقد شعرنا فى بعض الأحيان بأن موقفنا كان موضع الانتقاد فى الهند لأسباب عدة، تتراوح بين الافتقار إلى العمق فى النظر إلى الأمور والرغبة الواضحة فى زعزعة سياسة عدم الانحياز.

على أنه من حسن الحظ أن البانديت نهرو- الذى تبادلت معه رسائل عدة في هذه الأيام- ينظر إلى الأمور بصفاء عقلى شديد وبإيمان عميق وبمنطق سليم .

أن مجرد استنكار العدوان فى مثل هذه الظروف هو الحل الأسهل لكنه في رأينا موقف سلبى لن يكون له أى أثر على المشكلات .

على أننى لم أخف على الصين رأيي فى رسائل عدة تبادلتها في تلك الفترة مع رئيس الوزراء الصينى شوين لاى ".

وقد كانت قضية عدم الانحياز تجد تعبيرها الدائم فى المراسلات بين تيتو وعبد الناصر وكانت قضايا فيتنام والأمم المتحدة والكونجو والتجارب النووية مادة الرسائل المتبادلة بينهما إذ كانا يبشران بقيمة عدم الانحياز وضرورته للعالم .

----------------------

وانعقد المؤتمر الثانى لدول عدم الانحياز فى القاهرة عام 1964 وكان المؤتمر مناسبة حزينة بالنسبة إلى تيتو وعبد الناصر شخصيا لأن ذلك كان لقاؤهما الأول بعد وفاة نهرو.

وفي ذلك المؤتمر وصل تشومبى كممثل لكازافوبو رئيس جمهورية الكونجو . وكانت الجهود قد بذلت لإقناع كازافوبو بعدم إيفاد تشومبى إلى المؤتمر لكنه أصر على ذلك . وجرى تقديم جواز تشومبى إلى السفارة المصرية فى ليوبولدفيل لمنحه تأشيرة دخول إلى مصر وبالطبع أعطى التأشيرة. فلم يكن من الممكن رفض إعطاء رئيس وزراء الكونجو تلك التأشيرة . ولكن بينما لم يكن ممكنا رفض إعطاء تشومبى تأشيرة الدخول فقد كان عبد الناصر متشددا في عدم السماح لتشومبى حضور المؤتمر. فقد كانت ذكرى اغتيال لومومبا لاتزال تؤلمه . وكان يعتبر تشومبى قاتلا سفاحا. وهكذا اقتيد تشومبى عندما وصل إلى القاهرة إلى أحد بيوت الضيافة واحتجز هناك .


وتوجه تيتو بسؤال إلى عبد الناصر عما فعله مع تشومبى فأجابه عبد الناصر بأن تشومبى محتجز فى أحد بيوت الضيافة وأنه لن يحضر المؤتمر. وكان رد فعل تيتو الأول هو أن سأل السؤال التالى:

" إننى أتساءل فعلا عما كان يمكن أن يفعله نهرو لو كان معنا " .

وكان تيتو يعرف أن نهرو- لو كان حيا- كان سيتشكك فى شرعية احتجاز- تشومبى .

وبقيت ذكرى تساؤلات نهرو وتشككه وأصالة ثقافته وصدقه مع نفسه، عالقة فى ذهن كل من زميليه، وطالما تساءلا عما كان يمكن أن يفعله نهرو لو كان معهما.

وعندما تلقت إنديرا غاندى مقاليد زعامة الهند بعد وفاة شاسترى عام 1966 تضامن تيتو وعبد الناصر مع ابنة صديقهما القديم وسافرا إلى الهند للتدليل على تضامنهما معها في الشدائد التى واجهتها فور استلامها الحكم.

لم يعودوا فرسانا ثلاثة، لكن تيتو وعبد الناصر لم ينسيا لحظة أنه كان هناك ثالث لهما .

وقد أقام تيتو الدليل على مدى قربه من عبد الناصر فى أحلك أيامه عام 1967 عندما فقدت مصر كل أسلحتها فى صحراء سيناء ولم يبق من جيشها إلا القليل بينما تعرض طيرانها للدمار الكامل تقريبا.

واندفع تيتو يفعل ما فى وسعه من أجل المساعدة على إعادة بناء القوات المصرية فدعا إلى اجتماع لزعماء الأحزاب الشيوعية فى ثمانى دول أوروبية شرقية عقد في موسكو حثهم فيه على إعادة تسليح مصر. وعندما كان الروس يعدون العدة لإرسال طائرات النقل " أنتونوف " الضخمة المحملة بمقاتلات الميج وغيرها من الأسلحة : أرجأوا عملية الشحن قائلين إنهم لا يملكون حق هبوط طائراتهم في الأراضى اليوجوسلافية حيث كان من الضرورى أن تتزود فيها بالوقود في منتصف طريق رحلتها الطويلة.

وشرح السفير المصرى في بلجراد هذه المشكلة لتيتو الذى رفع سماعة التليفون قائلا للسفير:

" لن تكون ثمة قيود. فإننى لا يمكن أن أظل غير منحاز حينما يتعلق الأمر بمصر".

ثم أصدر أوامره بالتليفون بفتح المطارات لطائرات الأنتونوف السوفييتية ومنحها جميع الخدمات والتسهيلات . وما لبثت طائرات النقل الجبارة أن تدفقت على مصرعبر يوجوسلافيا بمعدل 3 طائرات كل ساعة فيما أصبح جسرا جوياً هائلا لخلق جيش جديد وسلاح جوى جديد.

وحاول تيتو أن يفعل كل ما يستطيع لمساعدة عبد الناصر. فجاء إلى القاهرة في أغسطس (آب) 1967 ثم توجه إلى دمشق ومنها إلى بغداد لتعضيد مقاومة العرب للاسرائيليين واستثارة تأييدهم لعبد الناصر.

-----------------------

وفي مستهل 1968 توجه الدكتور ناحوم جولدمان- رئيس المؤتمر اليهودى- إلى بلجراد وطلب إلى تيتو أن يتوسط لدى عبد الناصر فى محاولة للوصول إلى حل لأزمة الشرق الأوسط . فكتب تيتو إلى عبد الناصر عن اجتماعه بجولدمان :

" إجتمعت إليه بناء على طلبه فحدثنى عن الوضع فى إسرائيل وعن مجريات تفكير مختلف الناس والفئات هناك، وأظن أن معرفة ذلك قد تجديك " .

وقال جولدمان لتيتو: إنه من الجوهري حل المشكلة بالاعتماد على جدول زمنى ولذا فإنه من الضرورى معرفة ما من شأن الجانب العربى أن يقبل أو لا يقبل به . وذكر أنه بات من الممكن ترتيب اجتماع فى نيويورك يمكن أن يمثلك فيه محمد حسنين هيكل بصورة غير رسمية.

لكن عبد الناصر ألقى بهذا الاقتراح جانبا وكتب إلى تيتو يبلغه رفضه له.

ورد عليه تيتو قائلا: " قلت لنفسى إن على أن أطلعك على ما أخبرنى به " .

وكان هناك فى الواقع ، شخصان يحاولان حمل تيتو على الضغط على عبد الناصر في ذلك الحين. أولهما جولدمان وثانيهما الرئيس جونسون . لكن تيتو كان عميق الالتزام بجانب صديقه عبد الناصر.

--------------------------

وكانت آخر قضية كبرى شغلت تيتو وعبد الناصر- قبل نداء الرحيل- قضية خلع الرئيس التشيكوسلوفاكى دوبتشيك .

وكنت قد رافقت الرئيس عبد الناصر فى رحلته إلى موسكو فى صيف 1968. ولما كان من عادة الرئيس أن لا يذهب إلى موسكو دون أن يزور تيتو فقد انتهزت الفرصة لإجراء حديث صحفي مع الماريشال اليوجوسلافى .

وكان تيتو قلقا من الأحداث الجارية فى تشيكوسلوفاكيا.

سألته : " ما هو رأيك فيما يجرى في تشيكوسلوفاكيا على ضوء تجاربكم ، وهل ترى فيه تكرارا لما حدث فى يوجوسلافيا عام 1948 حين ثار خصامك المشهور مع ستالين وقررتم الاحتفاظ باستقلالكم؟ " .

فأجاب تيتو : " إن التطورات الجارية في تشيكوسلوفاكيا ذات طابع يختلف ويجب ألا نبالغ في أمرها أو أن نصورها تصويرا مسرحيا مثيرا. ولا أظن أن فى الاتحاد السوفييتى من يبلغ به قصر النظر إلى حد الالتجاء إلى القوة لحل مشكلة هى في الواقع من صميم الشئون الداخلية التشيكية. لقد جرت مساع وتحركات يمكن الاستنتاج أنها كانت بمثابة ضغط على تشيكوسلوفاكيا، لكننا سمعنا اليوم أن قوات الاتحاد السوفييتى ترتد منسحبة ولا أعتقد أن التدخل من جانب دولة أو مجموعة دول فى شئون دولة أخرى هو مسلك سليم . أضف إلى ذلك أننى أتصور أن الموقف ليس فيه ما يعرض الاشتراكية فى تشيكوسلوفاكيا للخطر. وإذا كان ثمة خطر فإننى أعتقد بأن النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا نفسه على استعداد للدفاع عن نفسه. فعنده جيشه الاشتراكى وحزبه الاشتراكى وطبقته العاملة، وعلى نفس النهج فإن لدينا في يوجوسلافيا كل ذلك ، ومن ثم فإننا لا نحتاج لأحد لكى ينقذ لنا اشتراكيتنا ".

جرت هذه المقابلة صباح ذات أحد فى بريوني ثم عدت طائرا إلى القاهرة لأعدها للنشر فى مقالى الأسبوعى " بصراحة ". الذى يظهر صباح الجمعة . لكننى تلقيت صباح الإثنين برقية من رئيس تحرير وكالة " تانيوج " يخبرني فيها أن الماريشال تيتو أمر بنشر الحديث فى يوجوسلافيا فوراً .

عند ذلك أبرقت مباشرة إلى الرئيس تيتو مشيرا إلى أننى أحتفظ بالحديث لمقالى الأسبوعى فى (الأهرام) يوم الجمعة وذلك أوسع توزيع في العالم العربي .

ورد على تيتو متسائلا: " هل تستطيع نشرالسؤال المتعلق بتشيكوسلوفاكيا؟

وبناء عليه فقد اتخذت الترتيبات لنشر ذلك السؤال وحده قبل بقية الحديث.

وبعد ذلك بمدة، وفي أسوان، قال الماريشال تيتو إنه كان على علم بمخططات الروس لغزو تشيكوسلوفاكيا فأراد أن ينشر فورا التحذير الذى يتضمنه جوابه عن ذلك السؤال دون أن يضطرإلى مقابلة أى مراسل صحفى لهذا الغرض المحدد وحده .

أما عبد الناصر- الذى لم يكن يعتقد بأن الروس سيغزون تشيكوسلوفاكيا- فكان رد فعله معتلا حيال الغزو. فلم يصدر أى استنكار عنيف ولذا لم يكن تيتو مسرورا بموقفه فقد كان يريده أكثر شدة وقسوة. وقال لعبد الناصرفي أسوان :

" إننا غير منحازين وعلينا أن نعلن رأينا حيال هذه الأمور " .

وأجابه عبد الناصر :

" يجب أن تدرك حقائق موقفى . إن جزءا من أرضي محتل ولذا لا يمكن أن أكون غير منحاز كلية. وما من دولة محتلة جزئيا تستطيع أن تكون مستقلة استقلالا تاما ".

وسأل عبد الناصر تيتو :

- ماذا لو ساءت علاقاتي مع الاتحاد السوفييتى؟ وماذا سيحدث لو هاجمتهم بشأن تشيكوسلوفاكيا؟. أن ذلك يعنى أننى سوف أضيع الشرق الأوسط تماما لأن الاتحاد السوفييتى هو أملى الوحيد في الحصول على الأسلحة التى أحتاج إليها من أجل استعادة أرضي المفقودة . ثم من الذى سوف يستفيد من هذا الوضع إذا حدث ذلك؟.. الأمريكيون، فهل تريد لهم أن يفيدوا من الشرق الأوسط؟.

ورد تيتو

- كلا

كانت تلك مناسبة من المناسبات التى أحسا فيها أن روح عدم الانحياز باتت مغلولة اليد .

ومن ثم كتب تيتو إلى عبد الناصر بشأن  الوضع التشيكي وبشأن اجتماع عقده مع الزعماء الروس في 30 أبريل ( نيسان) 1968 وقال فى كتابه :

" تطوعت بلفت نظرهم إلى العواقب الوخيمة (المترتبة على التدخل) على أمل أن يثنيهم ذلك عن عزمهم . وكان هذا الشيء ذاته الذى حاولت تحقيقه في حديثى مع هيكل عندما قمتم بزيارتنا ".


لقد أكد لى الزعماء التشيكيون أثناء زيارتى لهم بأنهم من القوة بحيث يقاومون أية جماعات مناهضة للاشتراكية في تشيكوسلوفاكيا وأن في وسعهم الدفاع عن الحدود الغربية لبلادهم . ولقد بينوا لى بجلاء أنهم يريدون البقاء داخل حلف وارسو وفى الكوميكون (السوق الشيوعية المشتركة).

وأعتقد أن الحزب التشيكوسلوفاكى بحكومته وزعامته يتمتع بثقة الشعب وليس ثمة خطر من غزو تشيكوسلوفاكيا من الغرب كما أنه ليس هناك خطر قيام ثورة مضادة داخل تشيكوسلوفاكيا لأن القوى المضادة للثورة هناك ضعيفة جدا بالقياس إلى قوى الحزب والجيش وأغلبية الشعب التشيكوسلوفاكى التى اختارت الاشتراكية .

والواقع أن الاشتراكية لم تكن مهددة بالخطر في تشيكوسلوفاكيا لكن الذى أثار الشبهة في بعض الدوائر : يكمن فى أن الزعامة التشيكية بدأت تعطى لمسة ديموقراطية للتطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى . وحدث ذلك فى وقت اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى في الاتحاد السوفييتي موقفا مخالفا ولذا بدا واضحاً أن السبيل الذى سلكه الحزب الشيوعي التشيكى بعد اجتماع اللجنة المركزية في يناير (كانون الثاني) الماضى لم يكن مقبولا لدى الاتحاد السوفييتى .

من هنا فإننى أعتقد أن الذريعة الرسمية التى أعطيت لتبرير التدخل العسكرى واحتلال تشيكوسلوفاكيا- بحجة منع قوى الثورة المضادة من تغيير ميزان القوى فى تشيكوسلوفاكيا- إنما هى في رأيي ذريعة باطلة.

إن يوجوسلافيا لم تبلغ مسبقا أمر التدخل العسكرى في تشيكوسلوفاكيا والواقع أن الاتحاد السوفييتى أبلغ حكومة الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات ومنها حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية أنه سوف يتدخل ، لا لأن هنالك شيئا من شأنه أن يمس تلك الحكومات إنما لأن المشكلة داخلية لا تخص الا دول حلف وارسو وحدها. وهكذا أعطى الاتحاد السوفييتى نفسه الحق في استخدام عدم قبوله للتطور الداخلى في بلد شيوعى كذريعة للتدخل .

أن هذا مما لم نكن نتصوره إطلاقا مهما بلغت درجة النقد المتبادل بين الدول الشيوعية. وهذه ضربة موجهة لا إلى الحركة العمالية وإلى الاشتراكيين فحسب : " إنما للعلاقات بين الشعوب وإلى أمن العالم وسلامه " .

ومضى تيتو يتحدث عن مبدأ بريجينيف :

" إنه خطير جدا وبالغ الخطورة ومن العجيب أننا نحاول الآن أن نجعل التدخل مشروعا ، ذلك لأنه تدخل عسكرى، سواء أكان مستندا على أساس عقائدى أم لم يكن .

أما فيما يتعلق بيوجوسلافيا فإننا سنناهض هذا المبدأ..

لقد وجه إلينا السفير السوفييتى فى يوجوسلافيا إنذارا بسبب موقفنا من قضية تشيكوسلوفاكيا. وذهب في إنذاره إلى حد مقارنة موقف يوجوسلافيا بموقف العسكريين الألمان الساعين إلى الثأر. وقد رفضت رفضا باتا قبول ذلك الإنذار. وطلبت من سفيرنا في موسكو أن يبلغ السيد  بودجورني أننا لن نقبل أى تعامل يخرج عن حدود المنطق والكرامة. لكننا حتى الآن لم نتلق أى جواب " .

وكان من النقاط التى أوضحها تيتو وشدد عليها في خطابه هو أن التجربة التشيكية أئبتت شيئا غريبا هو " أنه حتى الانتماء إلى كتلة ما، لايشكل حماية للسلام والسيادة القوميتين " .

ومن اللافت للنظر أن تيتو اعتاد في أثناء محادثاته مع عبد الناصر أن يعطى مساعديه فرصة الكلام وكان يقول : " أريد أن أدربهم على التفكير وأنا على قيد الحياة ولا أريد أن أبقى سجينا لأفكاري وحدها، أسيرا لها " .

وذات يوم قال : " إننى أشعر بأن الجميع خارج يوجوسلافيا والكثير من العناصر داخل يوجوسلافيا يتساءلون عما سيجرى ويحدث بعد تيتو ؟ لكننى أعمل شخصيا من أجل إرساء قواعد النظام الذي سيأتي بعد تيتو . إن الغرب يعلق آماله على شباب يوجوسلافيا. بينما يعلق الشرق أمله على الجيش. لكننى سأخيب الشرق والغرب وأحبط مساعيهما ما حييت " .

وفى مناسبة أخرى التفت إلى الرئيس عبد الناصر قائلا:

" إننى أغبطك . فقد بدأت شابا. ووصلت إلى السلطة وأنت فى الثالثة والثلاثين فقط . والعادة أن يرى المرء نتائج عمله بعد خمس وعشرين أو بعد ثلاثين سنة. ولكننى للأسف لن أعيش حتى أشهد نتيجة أعمالى أما أنت فسوف تحيا لتشهد نتائج أعمالك ".

وللأسف.. فقد كانت تلك نبوءة لم تتحقق . ولم يبق اليوم من الفرسان الثلاثة على قيد الحياة سوى فارس واحد فقط .

  عبد الناصر ونهرو
روح الشرق
 
عندما اجتمع جمال عبد الناصر و البانديت جواهر لال نهرو- للمرة الأولى فى سنة 1955، ترك كل منهما فى الآخر أثراً عميقاً وفورياً.


كانت الرابطة التى قامت بين عبد الناصر ونهرو تماثل فى سرعتها وعمقها وقوتها حباً من النظرة الأولى. وكما يحدث في كثير من الأحيان فقد قامت هذه الرابطة بين شخصين مختلفين تماماً . فقد كان عبد الناصر ضخم القامة قوياً ، وكان رجل عمل ، أما نهرو فقد كان هزيل البنية نحيفاً ، وكان رجل فكر.

وأعتقد أن اهتمام نهرو بعبد الناصر-  قبل لقائهما- كان محدوداً وأنه كان من قبيل الاهتمام الاستراتيجى . فقد كانت تلك الفترة ، فترة تصاعد فيها الحديث عن حلف يضم العالم الإسلامى بأسره ، كان من شأنه أن يمد عدو نهرو (الباكستان) بمقدار كبير من القوة بالعمق في جميع أنحاء آسيا الغربية وكان من شأن ذلك أن يضع الهند في وضع عسير للغاية .

غير أن عبد الناصر كان يناهض مثل هذا الحلف . ذلك أنه كان يركز جهوده على الوحدة العربية وليس على الوحدة الإسلامية. وكان يتساءل دائما :

أى شيء مشترك بيننا وبين إندونيسيا غير الدين؟ إننا سنرتكب خطأ جسيما إذا قصرنا اعتمادنا على الوحدة الإسلامية وحدها : فالوحدة العربية تعتمد على عنصرى التاريخ والجغرافيا بالإضافة إلى عنصر الدين .

وكان عبد الناصر يعمل من وجهة نظره من أجل قيام حلف عرف وليس لمصلحة حلف إسلامي ، وكان في ذلك يشترط عدم ارتباطه قطعياً بأى من الدول العظمى .

وكان ذلك بطببعة الحال يوافق نهرو تماماً ، فى ضوء نزاعه مع باكستان . ذلك أن باكستان كانت ستحظى- في حالة قيام حلف إسلامى شامل- بتأييد جميع الدول الاسلامية انطلاقاً من أفغانستان حتى أقصى الشرق الأوسط غرباً ، ولكن هذا التأييد العميق ظل محجوباً عن باكستان بسبب تركيز عبد الناصر- تركيزاً استحوذ على كل حواسه- على حلمه الأول ومثله الأعلى وهو تحقيق الوحدة العربية ومثالياتها.

ومن الأشياء الغريبة اللافتة للنظر فى هذا الموقف ، ذلك المدى الذى كان نهرو متأثراً به بالأفكار الإسلامية . فقد ولد نهرو الهندوكى في مدينة أحمد آباد الإسلامية وشب فكريا وهو قريب الصلة من الإسلام . كان يتكلم- مطولاً وبتبحر- عن الفلاسفة المسلمين وكان مبهوراً بالتاريخ الإسلامى وكان يرى أن عهد السلطة الإسلامية فى العالم قد حافظ على كل ما كان مقدساً لديه عند الإغريق .



كان العرب هم الذين ترجموا أعمال أفلاطون وأرسطو وحفظوها فى أسبانيا حيث استردها الأوروبيون في النهاية، وأعادوا ترجمتها إلى لغاتهم . ولعله من مفارقات القدر أن العرب هم الذين أعادوا إلى أوروبا أعمال أوائل الفلاسفة الأوروبيين العظام .

وربما كان احساس نهرو بالتاريخ هو الذى أمده بموهبة النظرة العميقة الواسعة وكانت لديه تلك الحاسة القادرة على استيعاب وحدة العالم ووحدة التاريخ . وعندما كانت تعترضه أية مشكلة ، كان يرتد لاجئاً إلى التاريخ منقباً عن تفسير لها فى أصوله وكان تيتو يمزح معه قائلا :

مع نهرو كل شئ يبدأ " قبل الميلاد " !

على أن عبد الناصر وجد فى نهرو- قبل كل شيء - الرجل القادر على التفكير، القادر على أن يتفحص المشكلة من جميع جوانبها ويناقشها ويستنتج- بأسلوب منطقى- جذررها وأصولها وآثارها والحل الملائم لها.

كان ذلك الجانب من التفكير العقلاني فى نهرو، هو الذى استهوى عبد الناصر.

وكان نهرو من جهته يحس تجاه عبد الناصر، أحساس الأب تجاه ابنه، وكما هى العادة مع معظم الآباء، فقد كانت فى " ابنه " أشياء تثير اعجابه وتخيفه في الوقت ذاته.

كان معجبأ بجرأة عبد الناصر ولكنه كان يرتاع منها ويخشاها . وكان فخوراً بقدرة عبد الناصر على العمل وكان يغبطه عليها ولكنه كذلك كان يتخوف منها تماماً كأب مفكر مثقف يتجه ابنه نحو هواية تسلق قمم الجبال .

--------------------

حدث اللقاء الأول بينهما فى 15 فبراير (شباط) 1955، عندما بدأ نهرو زيارة رسمية للقاهرة استغرقت ثلاثة أيام . وسارت الأمور على أحسن ما يكون بحيث أن عبد الناصر قرر أن يخصص يوماً كاملا للتحدث مع نهرو بعيداً عن الرسميات . وهكذا رتب أن يمضيا ذلك اليوم على متن باخرة نيلية تنطلق من فندق " سميراميس " إلى القناطر الخيرية.

وقد استغرق الذهاب أربع ساعات وكذلك الإياب، ومن ثم فقد أمضيا الوقت كله في الحديث باستثناء فرصة الغداء حيث أراد عبد الناصر استئناف المحادثات فوراً ولكن نهرو رفض قائلا :

" يجب أن تمنحنى وقتاً للقيلولة " .

وجلس نهرو على كرسيه، وسرح ببصره إلى ضفتى النيل ، ثم استغرق فى النوم خمس دقاثق، ثم نهض مستعدأ للمضى فى المحادثات .

وكان عبد الناصر قد بدأ المحادثات في الصباح بقوله :

لقد تكلمنا-  بالأمس - رسمياً ولكننى أريدك اليوم أن تكلمنى وأريد أن أصغى إليك ".

وكان عبد الناصر مقتنعاً بالحاجة إلى التخطيط ، ولكنه لم يكن يعرف من التخطيط ما يكفى . إذ لم تكن له خبرة سابقة في تخطيط مستقبل الأمة . وكان يعتقد أن الزعيم الهندى اكتسب تلك الخبرة ، وهكذا سأل نهرو بالتحديد:

" كيف تخطط؟ "

وأمضيا الصباح بطوله يبحثان فى التخطيط ، والباخرة تمخر عباب النيل مروراً بالقرى القديمة حيث-كانت كلمة التخطيط مجهولة فى ذلك العالم .

وفى لحظة خلال هذا الحديث قال نهرو لعبد الناصر:

" كان بودى لو أستطيع التخلى عن السياسة تماماً و التركيز على التخطيط لأنه الميدان الذى يتاح فيه للمرء فرصة أن ينجز فيه شيئاً محدداً ، ولكن نهرو عاد بعد أن قال هذه العبارة ، فغاص في إحدى نوبات تردده الفكرى الذى كان من سماته فاستأنف قائلا :

" ومع ذلك فإننى أشك فيما إذا كان فى قدرة أى إنسان أن ينجز كل الأشياء التي يريدها ".

وكان نهرو يدلى باستمرار برأى ثم يفكر فيه، ثم يعود فيلغيه ويتراجع عنه. وربما كان ذلك لأنه كان يمعن في التفكير أكثر مما يجب .

وبعد الظهر تحول الحديث إلى الشئون الدولية، وكان نهرو حريصاً على أن تعترف دول العالم بالصين الشيوعية. وقال :

" إن الصين مثل جبال الهملايا . ولا يسع أحد أن يقول إن الهملايا غير موجودة في آسيا . وإذا تجاهلت وجودها فإنك تتجاهل قبل كل شيء ، حقيقة واقعة ثم إنك- ثانياً - تحرم نفسك من اكتشاف ما يكمن وراءها".

وكان كذلك شديد الاهتمام بالذرة ، وكان يقول :

" إنها تعنى القوة فى الحرب والقوة فى السلم ، سواء عبر النصر أوعن طريق زيادة الإنتاج ".
ولم تكن المسائل الصغرى بالتى تحظى باهتمامه. كان يفضل أن يرسم لوحات كبرى ذات مواضيع هائلة، مواضيع مثل العلم والحرب والسلام .

واستمر الحديث بينهما طوال اليوم حيث كان الثورى العربي الشاب يصغى بكل جوارحه إلى المفكر الهندوكى المجرب. استمر الحديث متواصلا بين أولهما- بأفكاره الواضحة عما هو ذاهب إليه ، وعما سيفعله- وبين ثانيهما بسبيله ومنهجه المتعثر بالتحفظات الفكرية.

ومع ذلك فقد قال نهرو لعبد الناصر في نهاية ذلك اليوم : " كلما مضينا في الحديث ازددت اقتناعاً بأننا نحمل أفكاراً واحدة " .

--------------------

وتقابلا ثانية في باندونج . وكان مؤتمر باندونج مناسبة عظمى لنهرو. ذلك أن نجمه كان فى تصاعد. وكان الصينيون يشتركون فى المؤتمر، كما كان عبد الناصر قد رفض الانضمام إلى حلف إسلامى يرعاه  جون فوستر دالاس ، وكانت أفكار نهرو تتوطد فى الدول المتحررة حديثاً . كما كان هو موضع ا الاحترام في جميع أرجاء العالم .

كان نهرو نجم مؤتمر باندونج بردائه البسيط ذي الياقة العالية، والمحلى بوردة حمراء واحدة ، وكان يتكلم فلسفياً عن التاريخ  والثقافة ، وضرورة الإحساس بالهدف ، وكان عبد الناصر يصغى إليه بإعجاب.

كان نهرو يحس بإعجاب عبد الناصر له ، ويستمتع بكل لحظة من لحظات نجاحه . وقد عادا إلى دلهى فى طائرة واحدة، ومنذ ذلك الوقت تعود الإثنان ، على أن يلتقيا باستمرار،  وكان نهرو كلما طار إلى أوروبا أو أمريكا ، يتوقف فى القاهرة ، وعندما كان الوقت لا يسعفه لزيارة المدينة ، كان يستبقى  طائرته في المطار عدة ساعات يوافيه عبد الناصر خلالها ليتحدث إليه .

ثم جاء مؤتمر بريوني . ثم سحب المعونة الأمريكية لبناء السد العالى ، وتأميم قناة السويس .

وكان نهرو مقتنعاً بأنه لم يكن فى وسع عبد الناصر أن يخطط للاستيلاء على القناة ، فى ذلك الوقت القصير، بين تلقيه الرسالة اللاسلكية عن سحب العرض الأمريكى بالمساعدة على بناء السد، وهو في الطائرة مع نهرو عائدين إلى القاهرة ، وبين الاستيلاء الفعلى على مرافق القناة ، بعد ستة أيام من ذلك .  وكأن متأكداً من أن عبد الناصر كان قد وضع مخططاته لتأميم القناة قبل ذهابه إلى بريوني ، وقد تألم لأن عبد الناصر لم يخبره  بذلك سواء فى يوجوسلافيا  أو خلال اليوم الذى أمضاه فى القاهرة ، قبل أن يختصر زيارته لها، عندما بدا أن العاصفة توشك أن تهب .

ولكن حتى تأثر نهرو، كان مغلفاً بالتحفظات الذهنية !

وكان قد تأثر لأن عبد الناصر لم يبلغه بما يعتزم عمله ، ومع ذلك لم يكن متأكداً  من أنه كان راغباً في أن يعرف. لأنه كان يعزف عن مثل تلك الأفعال والإجراءات الجريئة.

على أنه كان-  بالطبع - يهتم اهتماماً مباشراً بقناة السويس لأن قسطاً  كبيراً من تجارة الهند يعتمد عليها، ولأن إغلاق القناة من شأنه أن يحمل الهند ثمناً باهظاً .

وبالرغم من تأثره ذلك ، ومشاعره التى مست ، بل وبالرغم من قلقه بشأن القناة فقد ظل يشعر بنوع من المسئولية تجاه عبد الناصر، مثله فى ذلك مثل أب دخل ابنه فى مغامرة خطرة !

على أن نهرو بعد ذلك اقتنع بأن عبد الناصر لم يخف شيئا عليه .

وفى 3 أغسطس ( آب) 1956، كتب إلى عبد الناصر يقول :

" علمت بعد عودتى إلى دلهى من القاهرة وبريوني بقرارك  بشأن قناة السويس ، ولما كنت لم تذكر ذلك لى مطلقاً- خلال مباحثاتنا فى بريونى والقاهرة - فإني أعتقد أنك لابد قد اتخذت القرار بعد مغادرتي القاهرة. ولقد أكد لى سفيرنا فى القاهرة ذلك . وقد ساعدني هذا على إدراك ذلك الجانب من المسألة ، وقد تلقيت اليوم من سفيركم فى دلهى نسخة عن بيانكم فى 31 يوليو (تموز) وأشكرك عليه .

" إننى حتى الآن لم أدل بأى تعليق على هذه التطورات باستثناء قولى في البرلمان إن هذه المسألة لم تكن موضع بحث بيننا في بريوني أو القاهرة . وكنت أرجو الحصول على معلومات أكمل بشأن المستقبل، لكى اتمكن من الإدلاء ببيان فى برلماننا، إن مثل هذه المسائل تترتب عليها عادة عدة عواقب وردود فعل دولية. وأريد لبياني البرلماني أن يكون مفيداً بقدر الإمكان . إن مصلحتنا المباشرة تنبع من كوننا دولة منتفعة بالقناة على غرار الدول الأخرى  ولكننا نهتم بالطبع  بتسوية ودية .

" إننا لا يساورنا أى شك فى حق السيادة المصرية ونلاحظ أن الموقف الذي تبنيتموه في  سنة 1954، القائم على أن قناة السويس الملاحية- التى هى جزء لا يتجزأ من مصر- إنما هى ممر مائي ذو أهمية اقتصادية وتجارية واستراتيجية دولية ، ونلاحظ أنكم أعربتم عن تصميمكم على مراعاة المعاهدة التى تضمن حرية الملاحة فى القناة والموقعة فى القسطنطينية بتاريخ 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1888.

ومضى نهرو يقترح قائلا : " وأود أن أخاطر هنا بالإعراب عن أملى فى أن تقرر أن تتخذ بنفسك زمام المبادأة في الدعوة إلى جمع كل أصحاب المصلحة فى الجوانب الدولية ، وفى تطوير القناة وتحسينها ، على أساس احترام السيادة المصرية. ومن شأن هذه الخطوة أن تنسجم كل الانسجام مع نواياكم المعلنة وأن تساعد على النظر فى مثل تلك الترتيبات المفيدة لجميع الأطراف ، التى تتفق مع شريعة بلادكم والعرف الدولى معاً ، كما تساعد على إزالة أية أفكار خاطئة أو فهم خاطىء لغرضكم .

" إننى متأكد من أنك ستقدر أن اقتراحى لا يهدف بأي  شكل إلى أن يكون تدخلاً فى شئون مصر أو فى قرارك، إنما هو اقتراح بدافع الرغبة فى تخفيض أسباب الجفاء إلى الحد الأدنى وفى المساعدة على معالجة تجنح إلى السلم والتوفيق معاً " .

وقد صيغ الكتاب بأسره بلهجة أب ابتهج لأنه اكتشف أن ابنه لم يخف شيئاً عنه كما كان يخشى ، واعتزم أن يقف معه فى وجه كل المتاعب .

وواصل الزعيمان التراسل بهذا الأسلوب ، طيلة أزمة السويس . وكتب عبد الناصر بدوره ، إلى نهرو يقول : " كان من الممكن أن أفهم مبرر الاهتياج بسبب التأميم لو كنا غير منصفين بشأن التعويضات وحقوق حاملى الأسهم . ونظراً لانعدام المبرر لمثل تلك الاعتراضات ومع الجنوح إلى تضليل الذين ليسوا على معرفة بالوثائق ذات العلاقة بالأمر، فإننى أعتقد أن هناك محاولة متعمدة للخلط  بين قضية التأميم ومسألة سلامة القناة وأمنها وحرية الملاحة فيها .

" إن أحدأ لا يسأل عمن تعهد سلامة القناة  وحرية الملاحة فيها بعد جلاء القوات البريطانية . فهل قامت الشركة بذلك؟ إن القناة تمر عبر الأراضي المصرية وقد اعترفت بها معاهدة 1954 كجزء لايتجزأ من مصر ولذا فإن سلامتها وحرية الملاحة عبرها هما من مسئولية مصر التى ضمنتهما ولاتزال تضمنهما، بل إن هذه الضمانة لن يكون لها أى معنى إذا كان لها أن تعزز بسلطة أخرى كما أنه لم يجر من قبل اعتبار مثل هذه السلطة ضرورية.

" إن البريطانيين يقولون إننا نمنع السفن الإسرائيلية من عبور القناة وإننا نحتجز السفن المتوجهة إلى إسرائيل . لقد حدث ذلك أثناء حالة الحرب ومنذ  1949 ولم يفكر البريطانيون- عندما كان لهم فى منطقة القناة 000. 80  جندى بريطاني-  في حماية حرية الملاحة حينذاك .

" إن هذه الحجج كلها لا أساس لها مطلقاً وتستخدم كذريعة لفرض سيطرة جديدة علينا... "

ورد نهرو على هذه الرسالة فى 5 أغسطس (آب) قائلا :

" إننى ممتن لجوابك اللطيف على رسالتى، وأقدر لك تأكيدك بأنك ثفعل كل شيء من أجل إيجاد أساليب لمعالجة المشكلة تتسم بالتوفيق . وأود أن أعرب عن الرجاء بأن يظل موقفك- دائماً- ثابتاً في جنوحه إلى التوفيق على الرغم من التحرشات وعناصر الاستفزاز. وأغلب الظن أن مثل هذا الموقف سوف  يؤدى إلى مزيد من النتائج المرضية وإلى تعزيز المواقف المعقولة.

إننا ندرس اقتراحكم ، وسزسل إليكم ردنا سريعاً ، أما اقتراح الرجوع إلى الأمم المتحدة ، فيستلزم مزيداً من البحث، ولكننى أرحب باستعدادكم  لعقد معاهدات جديدة مع الدول المعنية على أساس دولى . فذلك مما قد يتيح الفرصة للآخرين كيما يجدوا أرضاً مشتركة للوصول إلى اتفاقات مناسبة.

" أما فيما يتعلق بموقفي الخاص حيال الدعوة البريطانية، فإننا لم نرسل إلى البريطانيين أي رد ولا نزالل  نفكر في الأمر. ولن نقبل بأى حال الدعوة دون أن نبدى تحفظاتنا التى تتعلق بالحجج والأسس المنصوص عليها فى البلاغ المشترك ، وعلى طريقة تشكيل المؤتمر وغير ذلك من القضايا الأخرى المعينة. كما أنه ليس فى وسعنا أن نسهم في تسوية من أي  شكل قبل دراستها دراسة مستفيضة من قبلنا وقبل التشاور بشأنها معكم .

" إننا لا نهدف إلى إضعاف موقفكم، إنما نهدف إلى العمل- تماماً كما كنتم تفعلون أنتم- على إيجاد أساليب لمعالجة المشكلة تتسم بالتوفيق ".

وفي اليوم التالى أتبع نهرو هذه الرسالة برسالة- أكثر تطويلأ وأعمق تفكيراً- بسط فيها نصيحته لعبد الناصر قائلا:

" أقترح أن تعرب عن دهشتك من إقدام المملكة المتحدة (بريطانيا) على الدعوة إلى مؤتمر بشأن مشكلة قناة السويس، دون استشارة مصر، بل دون الرجوع إليها .. ويجوز لردك أن يذكر بأن مصر توافق على مؤتمر يتألف من قائمة متفق عليها بأسماء الدول المدعوة ، وذلك بالاستناد إلى معاهدة القسطنطينية.. وأن تعلن فيه عن استعداد مصر لعقد معاهدة جديدة مع جميع الدول المعنية أو للموافقة على عقد معاهدة تضمن سلامة القناة وحرية الملاحة وأمن العبور فيها.. إلا أنه لا يمكن لمصر أن توافق على أى تحد لسيادتها..

" ولا نعتقد أن من الحكمة أن نقترح إحالة المشكلة إلى الأمم المتحدة للنظر فيها.. ففى الوضع العالمي الحالي قد لا يكون تحالف القوى هناك في مصلحتكم . أضف  إلى أنه قد يؤدي  كذلك إلى تفسير ذلك بأنه قبول سابق من مصر للرقابة الدولية .. أجل إنه من الحكمة حالياً، أن نحذر من إدخال الأمم المتحدة فى الموضوع حاليا..

" إننى أتقدم بهذه الاقتراحات استجابة لطلبكم الرقيق، مدفوعاً باعتقادى بأن من شأنها أن تسهم في إيجاد معالجة مجدية للمشكلة... "

وبعد شهر من ذلك ، وبعد إخفاق بعثة منزيس، كتب عبد الناصر إلى نهرو عن مخاوفه من حدوث تدخل عسكرى قائلا :

" وحتى لو لم يحدث تدخل عسكري مباشر على الفور فإن على أن أتأهب  وأستعد له ، وبخاصة أننى أشتبه في احتمال افتعال بعض الحوادث نتيجة تخلى المرشدين عن وظائفهما أو نتيجة وسائل أخرى . هذا كما أن منزيس قد لوح ببعض تلميحات عن احتمال وقوع المتاعب . ولهذا السبب على أن أتخذ - قبل أن يجتمع البرلمان البريطاني يوم الأربعاء المقبل- مبادأة ما لفضح التهديدات ، والتدابير العسكرية والاقتصادية، التى اتخذت ضد مصر، من جهة، ولا ظهار استعدادى للتفاوض مع هـيئة مشر وعة سليمة، من جهة أخرى .

" من هنا فإنني أنوى- حالما يرحل منزيس- أن أطلب عقد مجلس الأمن وأن أصدر- فى الوقت ذاته- بياناً يوضح موقفنا.

" إنني سوف أقدر عظيم التقدير نصيحتكم العاجلة لى بشأن اللجوء إلى مجلس الأمن . فحتى لو استخدم البريطانيون والفرنسيون حق (الفيتو) فإنه سوف تفتضح أمام العالم الحقائق المتصلة باستعداداتهم العسكرية وعقوباتهم الاقتصادية باعتبارها تهديدات حقيقية للسلم . كما أن مجلس الأمن-  بنظره القضية- قد يمنع حدوث تحركات عسكرية محتملة من جانبهم وقد يؤثرفي الرأى العام البريطاني والرأى العام العالمى ... "

ولكن عندما مضى البريطانيون والفرنسيون في عمليات الغزو- برغم الرأى العام العالمى- كتب نهرو إلى عبد الناصر بتاريخ أول نوفمبر ( تشرين الثانى) يقول :

" لست بحاجه إلى إبلاغكم مدى عمق الصدمة التي حلت بنا من التطورات الأخيرة . فقد كان في العدوان الإسرائيلى الكفاية من السوء ويجب أن يكون موضح الإدانة، ولكن الأسوأ منه كان الإنذار الموجه إلى مصر من المملكة المتحدة وفرنسا ثم العمل الذى أقدمنا عليه بعد ذلك..

" إن جميع عواطفنا معكم وأنا متأكد من أن دول آسيا وأفريقيا، ودولا عديدة أخرى، حتى في أوروبا وأمريكا، ستدرك أن عدواناً مفضوحاً يجرى ضد مصر وأن حرية بلد تحررمؤخراً من الاستعمار باتت فى خطر. إن هذا يرجع بالتاريخ إلى الوراء وهو شيء لا يمكن لأى منا أن يطيقه أو يحتمله.

" إن مستقبل الأمم المتحدة أصبح هو الآخر مهدداً . ولا شك أن للدول التى شاركت فى مؤتمر باندونج مسئولية خاصة فى هذا الأمر.

" لقد أنهيت آرائي بلهجة حازمة إلى إيدن وكذلك إلى الرئيس أيزنهاور والرئيس تيتو، وطلبت إليهم استخدام نفوذهم . كما أننى أتصل بموسكو ورانجون وكولومبو وكراتشي ".

عندما أسدل الستار فى ديسمبر (كانون الأول) على المرحلة الحافلة بالأحداث من قضية السويس وجه نهرو إلى عبد الناصر خطاباً بلهجة مختلفة نوعاً ما... قال فيه :

" إننى سعيد برؤيتي أن القوات الفرنسية- الإنجليزية والإسرائيلية ستسحب أخيراً من الأرض المصرية. واننى متأكد من أن ذلك ما كان يمكن أن يتحقق لو لم يقف الرأى العام العالمى في صف مصر بأغلبيته الساحقة . وإني لحريص بأن لاتدفع بعض العوامل العارضة سورة المشاعر التى أحدثها العدوان على مصر، وتزيحها إلى طريق جانبي . ذلك أن التطورات فى المجر قد اعترضت إلى حد ما الجهد المركز ضد المعتدين على مصر. ولذا فإننى أشعر بأنه بات من المهم - أكثر من أى زمن مضى- الحيلولة دون أن تعترض أشياء أخرى طريق إعراب العالم عن تأييده الكلى لمصر.

في هذا السياق اسمحوا لى بلفت انتباهكم إلى الأخبار المتداولة فى الخارج والقائلة إن ضغطاً كبيراً مباشراً وغير مباشر يزاول في مصر على عدد كبير من الرعايا البريطانيين والفرنسيين واليهود ... 

إن الغالبية العظمى من هؤلاء ضحايا أبرياء للمظالم التى ارتكبتها حكوماتهم وإني لأسألك أن تعاملهم بالحسنى . وإذا كنت لا تريد أن يبقى الرعايا البريطانيون والفرنسيون في بلادك فإني أقترح إعطاءهم مهلة معقولة لإنهاء أعمالهم، وعدم إجبارهم على الرحيل فوراً . ذلك أن شيئاً من الصبر والتسامح خليق حتى على المدى القصير أن يساعد على بحث المسائل الأكثر أهمية فى مصر فى الأمم المتحدة وفى غيرها .

وما كنت لأتوجه إليك بهذا النداء لو لم أكن واثقاً من أنك لن تسيء فهمى .

مع خالص تقديري  واحترامى
                                                                                     
                                                                                             جواهر لال نهرو

كانت العلاقات بين الإثنين لا تزال فى مرحلة العلاقات بين الأب الفخور والإبن المعجب. في تلك المرحلة كان نهرو يسدى النصح لعبد الناصر ويواسيه ويؤيده وأحياناً يعاتبه. وكان عبد الناصر لا يزال يتطلع إلى نهرو بإعجاب .

-----------------------

على أن مقام عبد الناصر كان يتصاعد. وكان ينمو ويشب وكان نهرو يتابع مراحل نموه فخوراً به ، وكان يردد أحياناً : " إنه التحدى الشاب لنا جميعاً ".

وعلى كل حال  ظل نهرو : المفكر العملاق المحترم ..

وكان نهرو هو الذى ناشد العالم فى نوفمبر (تشرين الثاني) 1957، أن يستخدم الذرة للأغراض السلمية قائلا فى ندائه :

" أود أن أغامر بمناشدة الزعماء العظام فى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وإني إذ أفعل ذلك بكل تواضع ، فإني أفعله كذلك بتوق عظيم وجدية كاملة. إننا فى الهند نواجه معضلات خطيرة ، ولكن يجتاحنى ويغلب على التفكير فى الأزمة الحضارية التى يواجهها العالم اليوم والتى لم يعرف لها من قبل مثيلا. وأعتقد أن في طاقة أمريكا وروسيا، أن تسويا هذه الأزمة وتنقذا الإنسانية من الكارثة التي  تجابهها.

لقد أصبحت كرتنا الأرضية أصغر من أن تستوعب الأسلحة الجديدة التى تمخض عنها العصر الذرى . وإذ يقتحم الإنسان- فخوراً بعقله ومعرفته- الطريق إلى الفضاء ويخترق السماوات فإن حياة الجنس البشرى بالذات أصبحت محفوفة بالأخطار. فهناك ما يكفى من أسلحة الدمار الجماعى لإنهاء الحياة على الأرض .

إن ملايين البشر تؤمن بما يدعى بالرأسالية الغربية وملايين البشر تؤمن بالشيوعية ولكن هناك الملايين العديدة غير الملتزمة بأى من العقيدتين ، إنما تنشد- عن طريق الصداقة مع الآخرين -  حياة أفضل ومستقبلا يحدوه الأمل والرجاء.

" إننى أتحدث بالأصالة عن نفسى، ولكننى أعتقد بأنني أردد آراء جماهير غفيرة من الناس فى بلادي وفى بقية دول العالم . ولذا فإننى أتوجه بهذا النداء إلى الزعماء العظام ، وعلى الأخص زعماء أمريكا وروسيا، الى أودعت الأقدار في أيديهم سلطة هائلة لتكييف شكل هذا العالم ولرفعه إلى ذرا لم تتردد حتى  في الأحلام ، أو لدفعه إلى هاوية الكارثة. إننى أناشدهم بأن يوقفوا جميع تفجيرات التجارب النووية ، وأن يقيموا- بذلك- الدليل للعالم، على أنهم مصممون على إنهاء هذا التهديد وعلى المضى كذلك من أجل التوصل إلى نزع التسلح نزعاً فعالا...

وأرسل نهرو نسخة من هذا النداء إلى عبد الناصر وأرفقها برسالة قال فيها :

" إننا هنا في الهند، نعانى مشاكلنا الخاصة الكبرى . كما أنكم في مصر تواجهون الكثير من المصاعب. وفيما تشغلنى مشاكلى مباشرة فإن ذهنى يتجه بالتفكير- بشكل متزايد-- إلى المشكلة العظمى الى تواجه الإنسانية.. "

---------------------------

وبرغم انغماس نهرو فى تلك المشكلات الكبرى ، فإنه كان على ترابط عاطفي مدهش مع شعب الهند. وقد برهن على هذا التعاطف ذات يوم من ربيع 1960 ، عندما كان عبد الناصر يحل ضيفااً عليه في دلهى .

فقد كان من المقرر أن يخطب نهرو فى اجتماع عام بميدان رانجيلاه في دلهى فذهب عبد الناصر معه. ودهش عبد الناصر من كثافة الجمهور الذى حضر الاجتماع- فقد جاء زهاء أربعمائة ألف شخص . منهم عانلات بأكملها وأمهات يصحبن أطفالهن، وأناس قصدوا الاجتماع على أقدامهم من مسافة أميال . وكان الجميع جلوساً فى الساحة.

وكان مشهداً مهيباً ... وقد بنيت فى الميدان منصة صغيرة للخطباء...

فما كان المشاهد يرى منها سوى بحر من الجماهير ومن الوجوه المتطلعة. وخيل إلى عبد الناصر أنه ليس فى وسع إنسان أن يستولى على انتباه مثل هذا الجمهور الهائل . و لكن سرعان ما نهض نهرو وبدأ يتكلم .
ومع أن نهرو كان يخطب بالإنجليزية وتترجم كلماته إلى الهندية فقد أسر جميع ذلك الحشد الهائل... واستولى عليه وأمسك أعنته بقبضة يديه... وكان عبد الناصر قد أعرب عن شكوكه لنهرو قبل أن يبدأ الرئيس الهندى خطابه فلما انتهى التفت إلى عبد الناصر متسائلا :

" والآن ما رأيك ، فى خطابى؟ "

ورد عليه عبد الناصر:

" لقد كان ممتازاً "

-  و لماذا ؟

- لأنك أضحكتهم ... ولأني أعتقد أن أضخم مهمة تواجه أى خطيب فى اجتماع حاشد كهذا هو أن يستولى على ألباب الجماهير فيجعلها تنفجر ضاحكة إذا شاء.. وعندما يستطيع إنسان أن يستولى بهذا الشكل على مشاعر أربعمائة ألف نسمة فإن خطابه يعد عملا كبيراً .. "

وكان عبد الناصر مقتنعاً بأن نهرو إذ فعل ذلك فقد برهن على الرابطة القائمة بين زعامته وجماهير الشعب الهندى .

وكانت رابطة الصداقة والإعجاب المتبادل بينهما فى نمو مستمر  وكانت مفعمة بحوادث طريفة.
ففى إحدى المناسبات أصيبت طائرة نهرو بخلل ميكانيكى أثناء مروره بمصر فاضطر إلى قضاء يوم كامل فى القاهرة.

وأصر نهرو على أن يمضى ذلك اليوم في دراسة نماذج فن العمارة الإسلامى وعندما ذهب عبد الناصر إلى الهند اصطحبه نهرو لمشاهدة ضريح تاج محل وغير ذلك من آثار الإمبراطورية المغولية. فقد كان نهرو بالغ الاهتمام بذلك العهد من التاريخ الهندى ، وكان يتحدث الساعات الطوال عن الممالك الإسلامية العظمى الى حكمت بلاده . وكان يمتنع كلياً عن التدخل في النزاع بين  المسلمين والهندوس ، ذلك أنه كان من الناحية الفكرية- وأيضا من الناحية السياسية- جسراً بين حضارتين .

وأذكر- ذات يوم- أنه كان يبحث موضوع امبراطورية المغول مع عبد الناصر ومعى . وقد تحدثنا عن انهيار الإمبراطوريتين الإسلاميتين فى الهند وأسبانيا ، وطلعت بنظرية أن انهيارهما  كان وليد تعدد زيجات الحكام المسلمين لأن العداء بين ورثتهم أدى إلى حروب أهلية وإلى تفكك الإمبراطوريتين وتجزئتهما.

ولم يدعنى نهرو أنسى هذه النظرية- فحيثما تناقشنا في أمر ما كان يداعبنى قائلا :

" هل تعتقد أن ذلك بدأ بتعدد الزيجات؟ "

-------------------

وفى يناير (كانون الثانى) 1960، بدأ تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع تحويل مياه النيل، من أجل بناء السد العالى، بتفجير هائل .. وشعر نهرو بخيبة أمل بالغة عندما لم تسمح له ظروفه بحضور الاحتفال ، ولكنه وجد - عندما زار مصر فى مايو (آيار) من ذلك العام- أن عبد الناصر احتفظ له بتفجير خاص له، واستطاع نهرو أن يذهب إلى مقر السد العالى وأن يضغط بأصبعه على زر فجر شحنة هائلة أدت إلى تحول مياه النيل وتدفقها في قناتها الجديدة .

ولم يفعل عبد الناصر مثل ذلك لأى  زعيم آخر وظل نهرو يحتفظ دائماً أن شيئاً مؤثراً حفظ له ومن أجله، وكان يستمتع بهذه الفكرة .

وكان عبد الناصر يستمتع بصحبته وكان يجد متعة فى حديثه وسلواناً  في مشورته- وإن لم يكن يتبعها دائماً- ذلك أن نهرو كان دائماً يجنح إلى الحل الوسط  والتساهل والتصالح والتوفيق ، وكان أكثر جنوحاً إلى الحديث عن المشكلات منه إلى اتخاذ الإجراءات العملية بشأنها . وطالما ردد على مسامع الرئيس : " في كل مشكلة تمس السلم أو الحرب : خذ دائماً الخطوة الأولى  أولا.. ثم الخطوة الثانية... ثم الثالثة... "

--------------------

ثم جاء زمن تغيرت فيه ظروف أقدارهما واحتاج " الأب "  فى ساعة الأزمة والضيق إلى عون " الإبن " فلقد هاجمت الصين الهند، عبر ممرات سفوح  الهيمالايا بحجة نزاع على تحديد خط ماكماهون ،  وهو خط الحدود الذى رسمه البريطانيون- تعسفاً - بين الهند والتبت .

وكان نهرو مقتنعاً كل الاقتناع- وكان عبد الناصر يجاريه في وجهة نظره - بأن جذور الهجوم الصينى تكمن فى شيء يتجاوز بضخامته النزاع على الحدود وبأنه كان هجوماً على فكرة عدم الانحياز بأسرها.

وكان الصينيون يعتقدون أن عدم الانحياز ليس إلا مرحلة عابرة وقد قبلوا بعدم الانحياز وسلموا به لأنهم اعتقدوا أنه لن يدوم طويلا . ولكنهم  عندما اكتشفوا أنه يشتد ساعدا ويتزايد قوة وأن الاتحاد السوفييتي- الذى أخذوا  يتنازعون معه- يدعم دول عدم الانحياز بالتأييد القوى : شعروا بأن عدم الانحياز أصبح قوة يجب أن يحسبوا لها حسابا..

وهكذا (طبقا لتفسير نهرو للأحداث) هاجم الصينيون الهند وهم يعلمون أن هناك عنصرا يمينيا قويا فى الهند، أملا فى أن يؤدى ذلك إلى الحط من قيمة سياسات نهرو الاشتراكية وسياسته في عدم الانحياز وإلى قيام جناح اليمين بالاستيلاء على الحكم فى الهند مما سيؤدى إلى الانقسام واستقطاب المشاعروالميول الهندية بين اليمين واليسار.

وكان نهرو في ذلك يلمح عدة مسالك في تفكير الصينيين ... منها أنهم كانوا يأملون في أن تنهار الهند تحت وطأة هجومهم وتقع تحت السيطرة الصينية ولكنه لم ير ذلك محتملا- لأن من شأنه إثارة الشعور القومى الهندى  ولأنه ليس فى وسع الصين أن تسيطر على أمة كبرى كالأمة الهندية.

ومنها أن الصينيين يعتقدون بأن اليمينيين سيستولون على الحكم ، الأمر الذى سيؤدى حتما إلى ثورة شيوعية في الهند... أو بأن تتحول الهند إلى الغرب مما سيؤدى حتما إلى رد فعل شيوعى .

على أن نهرو كان متأكدا من شيء واحد وهو أن الهجوم لايستهدف خرق خط ماكماهون واحتلال أرض هندية إنما كان يهدف إلى تحطيم فكرة عدم الانحياز والاستيلاء على عقول الناس .

وجاء الهجوم الصينى بمثابة صدمة كبرى لنهرو فلم يستطع أن  يصدق أن أمة آسيوية عظمى- عضوة في جماعة مؤتمر باندونج- خليقة بأن تغزو دولة آسيوية أخرى .. وشعر بمرارة شديدة  وبأنه تعرض للإذلال... فقبل باندونج كان الصينيون قد اتهموه بأنه " عميل استعمارى " ولكنه شعر بعد ذلك بأنهم تجاوزوا هذه المرحلة وأصبحت علاقاتهم به صافية.

ولكن الأمر لم يكن كذلك .

فقد فاتح شوين لاى عبد الناصر، فى مؤتمر باندونج ، بشأن مشكلة الحدود مع الهند وشكا من أن الهنود يرجئون البحث فى موضوعها. ولكن لم يظهر لعبد عبد التاصر أن مشكلة الحدود ملحة ولم يخطر له إطلاقاً بأن الصين قد تهاجم الهند بشأنها .

------------------------

وهكذا ففد كان الهجوم الصينى صدمة له هو الآخر.... بينما كان بالنسبة إلى نهرو أكثر من صدمة... كان ضربة قاصمة مزعزعة لم يشف قط من آثارها...

فقد انقض عليه اليمينيون فوراً فى الهند فأصبح بين نارين : نار الجبهة والنار السياسية فى دلهى . وأصبح فى أمس الحاجة إلى العون . فإلى أين يتجه؟..

وخطر له فى إحدى المراحل أنه قد يضطر لأن ينشد العون من الولايات المتحدة ، ولكنه أحجم لأن ذلك كان معناه أن تسلط عليه فوراً شبهة  أنه " عميل للاستعمار " ولم يكن الاتحاد السوفييتى يستطيع أن يمده بالعون لأنه لم يكن في وسع الروس فى ذلك الحين أن يضعوا أنفسهم فى موضح دولة تساعد علنا دولة فى حرب فعلية مع الصين الشيوعية .

كان عليه والحالة هذه أن يعتمد على دول عدم الانحياز، لامن أجل العون العسكرى إنما من أجل ايجاد تسوية سلمية للنزاع  . ولكن العقبات كانت قائمة حتى على هذا الصعيد، ذلك أن تيتو- مثلا- كان شخصاً غير مرغوب فيه لدى الصينيين .

وهكذا كان عبد الناصر الشخص الوحيد الذى يسع نهرو أن يلجأ إليه، بكل الصفات التي  تجمعت فى شخصه : كرئيس دولة غير منحازة ، وبصفته أفريقيا- آسيويا ، وبصفته صديقا لشوين لاى . وفعلا لعب عبد الناصر- فى النهاية- أهم دور فى إقرار السلام .

وكان على عبد الناصر أن  يلعب دوره هذا بكثير من  المرونة واللباقة .

وعندما كتب إليه نهرو يمده بتقييم للموقف أجابه عبد الناصر بأنه لن يكون في وسعه أن يمنح الهند تأييده المطلق علنا ولن يكون في وسعه أن يهاجم الصين الشيوعية على عدوانها . ذلك لأنه على حد قوله " يجب أن أبقي مسالكى مفتوحة مع كل منكما إذاكان لى أن أحتفظ بقدرتى على التوسط " .

وفهم نهرو ووافق طوعا على المعالجة الهادئة الى اقترحها عبد الناصر. ولكن اليمينيين استخدموا ذلك كهراوة أخرى يضربون بها نهرو فكانوا يزمجرون فى وجهه ساخرين : " ماذا فعلت دول عدم الانحياز من أجلك؟ "

بل إنهم هاجموا مصر لأنها لم تدن الصين . " وأين هى صداقتك مع العرب وعبد الناصر؟.. أين هم الآن وأنت بحاجة إليهم؟ "..

كانت تلك عينة من الصيحات التى أطلقت ضد نهرو وعبد الناصر..

ولقد بذل نهرو جهده في الدفاع عن عبد الناصر بينما كان يحاول- فى الوقت ذاته- منع الأمريكيين من التدخل ويحاول تشجيع الروس على مزاولة الضغط على الصينيين .. وكان يتخبط فى مأزق لايحسد عليه.

واتصل عبد الناصر بنهرو وسأله : " ماذا تريدني أن أصنع؟ " ورد نهرو عليه :"  تستطيع أن تفعل أكثر من أى إنسان آخر " وأوضح نهرو الوضع  فيما يتعلق بالأمريكيين والروس ومشكلتى اليمينيين واليساريبن فى الهند وأعرب عن اعتقاده بأن عبد الناصر هو الزعيم العالمى الوحيد القادر على مساعدته..

على أن الحملات على عبد الناصر استمرت فى البرلمان الهندى  وعندما قال نهرو- فى تصريح برلماني- إن " صديقنا عبد الناصر يساعدنا " وقف أحد أعضاء البرلمان وقال : " أجل إنه يساعدنا بالتزامه الصمت".

وبعد تلك الواقعة قال نهرو للسفير المصرى : " قل للرئيس عبد الناصر أن لا يهتم بهذه الهجمات عليه... إني أستطيع أن أسيطر عليهم ..- " ولكن نهرو استدرك كعادته قائلا : " لمدة أسبوع " !

وكان عبد الناصر يرى أن مهلة الأسبوع هذه أقصر مما يجب من أجل إعادة إقرار السلام.. وقرر أن السياسة المثلى التي ينهجها هى أن لا يهاجم الصين على عدوانها وأن لايدافع عن حدود خط ماكماهون وإنما أن يدفع عن فكرة عدم الانحياز تهجمات وحملات الصين وجناحى اليمين واليسار فى الهند..

وظهرت فى الصحف الهندية غمزات ولمزات ضد عبد الناصر فكتب نهرو يوضح له أن الصحف الهندية بأسرها يملكها كبار رجال الأعمال واليمينيين وأشارعليه بأن لا يهتم بها قائلا " ليتنى كنت أستطيع أن أغلقها جميعا ".

وكان الكثيرون من أعضاء البرلمان الهندى " يقبضون " من كبار الأثرياء الهنود أمثال تاتا وكان هؤلاء المليونيرات يرسلون إليهم أشهى الأطعمة من أفضل المطاعم.. وطلب نهرو من السفير المصرى أن يضرب صفحا عن هذه الحملات  التى تستهدف عبد الناصر من أولثك الناس، لأنهم " لاينتظرون سوى وجبة غذاء شهية يرسلها إليهم تاتا " أ.

وطيلة هذا النزاع تبادل الزعيمان سيلا من الكتب والرسائل . فكتب عبد الناصر إلى نهرو فى 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1962 يحثه على التفاهم بأسلوب نهرو- ، ورد عليه نهرو بعرض مطول للموقف أنهاه بقوله: " اننى أشعر بامتنان صادق، في سياق الأحوال السائدة اليوم لرسالتك . على أنه من واجبنا الصريح أن نستمر فى المقاومة إلا إذا أصغى الصينيون إلى نصيحة أصدقاء مجردين مثلك وصححوا الوضع الذى خلقوه " .

واستمر نهرو يقول : " فإذا استمر العدوان الصينى، فإننا سنستمر فى المقاومة، ونأمل في أن نحظى بعطفكم ودعمكم وبعطف وتأييد جميع الدول المستقيمة الرأى في هذه المهمة المقدسة الهادفة إلى الحفاظ على شرف وطننا الأم وسلامته وتكامله " .

وكتب، بعد ذلك، يقول : " لقد تحدت الصين فكرة التعايش السلمى كلها التى تقوم عليها السياسة السوفييتية. وبينما تستهدف السياسة السوفييتية إلى تجنب الحرب ، وإزالة أسبابها والتركيز بشكل أكبر على المنافسة السلمية فقد أعلنت الصين عن اعتناقها لسياسة تقوم على العنف الثورى وعلى ما يوصف باسم " الحروب العادلة ". ويبدو أن الهدف الأساسى للصين يرمى إلى قطع مجرى سياسة عدم الانحياز التي اكتسبت تأييدا واسع النطاق ليس فقط بين الدول الأفريقية والآسيوية وإنما من الدول العظمى كذلك .

" وأعتقد أنه يجب أن ينظر إلى نزاعنا مع الصين فى ضوء هذه الخلفية. ولقد كتبت إليك فى الماضى بهذا الصدد، وسأكتفى اليوم بأن أردد أننا سنقاوم العدوان وسنتخذ كل التدابير اللازمة من أجل الدفاع عن بلادنا ولن يطرأ تغيير على سياستنا- القائلة بالسلم وعدم الانحياز. إن غايتنا ستظل تستهدف إيجاد تسوية سلمية تحفظ شرف بلادنا وكرامتها. ولهذا فقد رحبنا بمبادأة مؤتمر كولومبو وسوف نقبل بالمثل المقترحات الصادرة عنه وفق ما أوضحته لنا.. ولعلك تدرك أن الصين لم تفعل ذلك بعد. كما أن قبولها المزعوم هو موضع تحفظات تتنافر كليا مع المقترحات..

.... ولن أضيف إلى قولى سوى أن كلا من حكومتنا وشعبنا قد قدر عظيم التقدير معالجتكم للمشكلة ..."

" إننى أتطلع قدما إلى مزيد من التقوية للتعاون والتفاهم الوديين بيننا بما فيه مصلحة السلم..

وتقبلوا احتراماتى الصادقة "
                                                                                               
                                                                                      جواهر لال نهرو

--------------------------

ولكن على الرغم من التعبير عن الود والامتنان للتأييد والدعم قامت مناسبتان ، أثناء النزاع بين الهند والصين، وجد خلالهما عبد الناصر أنه بينما كان  نهرو يعتمد عليه فإن عناصر أخرى فى الهند قد اتجهت إلى الاسرائيليين .

وكان نهرو قد ألم أول الأمر بحقائق النزاع العربى مع الصهيونيين فى مؤتمر باندونج- الذى بذل الإسرائيلبون محاولات يائسة للاشتراك فيه- وكانوا قد ضمنوا إلى جانبهم الزعيم البورمى يونو وطلبوا من نهرو عونه وتأييده . ركان نهرو يميل- اعتمادا على نظرته الفلسفية والتاريخية التقليدية للأمور- إلى الموافقة على طلبهم بحضور المؤتمر.

فلم يكن مدركا لحقائق المشكلة الفلسطينية وكان يتحدث عن الإسهامات المشتركة للفلاسفة اليهود والعرب وعن الطريقة التى عاش بها اليهود  والعرب معا- دون تمييز- في ظل الاسلام . ولم يكن يعنى في نظره شيئا كبيراً أن يقال له إن هنالك مليون لاجىء من فلسطين ، ذلك أنه كان لديه- طبقا لما أوضحه- 16 مليون لاجىء إثرتقسيم الهند. ولم تكن تجزئة بلد ما تعني  شيئاً كبيراً له ، ذلك أن بلاده بالذات تعرضت إلى التجزئة. على أن ما كان يسوؤه في إسرائيل هو أنها دولة قائمة على الدين .. وكان ذلك مما يذكره بباكستان.

لذا كان يجب تعريفه بحقائق الموقف منذ البداية.. وعندما استوعب هذه الحقائق فهم الموقف جيداً ونهض فى اللجنة السياسية لمؤتمر باندونج وعرض وجهة النظر العربية بشأن قبول إسرائيل وفعل ذلك بوضوح وإشراق وتفهم وبشكل كان لايمكن لأى ناطق عربي أن يفعله .

وأوصد باب مؤتمر باندونج  في وجه إسرائيل وظل نهرو منذ ذلك الحين يمنح كل تأييده للقضية العربية.
ولكن عندما بدأت مصاعبه مع الصين اتصل الإسرائيليون بالمخابرات الهندية واقنعوا الهنود بأن أفضل وسيلة للدفاع عن مناطقهم الجبلبة ضدالتوغلات الصينية تكمن فى إنشاء مستوطنات زراعية شبه عسكرية من الطراز الصهيونى وبأن السبيل لتحقيق ذلك يحتاج- بالطبع- إلى خبراء إسرائيليين ليشرحوا لهم طريقة التنفيذ.

وكان هذا المشروع يسير قدما فى الوقت الذى كان فيه عبد الناصر يعمل لمصلحة الهند فاضطر إلى أن يلفت نظر نهرو إليه. فقام نهرو بوضع حد فورى له.


وجرت حادثة أخرى عندما عرض الإسرائيليون على الهنود المدفع الرشاش الإسرائيلى من طراز " عوزى " ورأى بعض العسكريين الهنود أنه مدفع رشاش صالح وأنه كسلاح خفيف من شأنه أن يعطى جنودهم قدرا أعظم من سهولة الحركة والمناورة فى الجبال .

ومرة أخرى وجدعبد الناصر نفسه مضطراً إلى لفت انتباه  نهرو إلى صلات ضباطه مع الإسرائيليين . فقطع نهرو هذه الصلات وكتب إلى عبد الناصريقول :

لقد أراد  أولئك الحمقى أن يدرسوا الأمر وفق التقديرات المجردة ولكنه أمر يعود تقريره إلى "

كان نهرو في حالة سيئة.. كانت المشكلات الهائلة تحاصره . فقد كان الأمريكيون يحاولون التدخل أيضا. وكانوا يريدون أن ينصبوا على الأرض الهندية شبكة من الهوائيات لتوجيه إذاعة ( صوت أمريكا) إلى الصين . فقد وافق بعض كبار وزراء نهرو على هذا المشروع واضطر نهرو- مرة أخرى- إلى التدخل ووضع حد له .

وبينما كان الصينيون يهاجمونه كان الباكستانيون مستعدين لاستغلال الوضع وغزو الهند.. وكان الأمريكيون- أيضا- يحاولون استغلال الوضع لتحقيق مكسب لهم على صعيد الحرب الباردة . أما الروس فكانوا محجمين عن تقديم المساعدة خوفا من أن يحدثوا انشقاقا فى الكتلة الشيوعية.. وبدأت بعض دول عدم الانحياز تشك فى عدم انحياز نهرو... فقد ظن البعض أنه يتطلع حقا إلى الغرب ناشدا العون ..

واضطر نهرو إلى إخراج كريشنا مينون من وزارة الدفاع  بعد أن تعرض لأشد الهجمات والحملات بسبب هزيمة القوات الهندية.. وهكذا كان كريشنا مينون كبش الفداء عن الهزيمة وكانت تلك ضربة محزنة بالنسبة لنهرو لأنه لم يكن يثق ابداً فى العسكريين الهنود فقد كان يجدهم أقرب إلى البريطانيبن منهم إلى الهنود في آرائهم ومظهرهم كما كان يجدهم معزولين عن الفكر الهندى .. بل كان يقول عنهم " بريطانيون أكثر من البريطانيين " وكان مينون كوزير للحربية ثقلا معاكسا لمواقفهم المتزمتة.

والواقع أن كل الذين كانوا يريدون مهاجمة نهرو هاجموا كريشنا مينون بدلا منه، ووجد نهرو نفسه فى موقف غاية فى الصعوبة فاضطر كارها إلى إخراج كريشنا مينون عن الوزارة ، وقد فعل نهرو ذلك ببالغ الضيق .

أما دبلوماسية عبد الناصر الهادئة العاملة فى مصلحة نهرو فقد توجت بعقد مؤتمر كولومبو واستطاعت المقترحات التى أقرها وأصدرها المؤتمر أن تحصر، فى النهاية المشكلة الهندية- الصينية، وأن تؤدي إلى إنهاء القتال .

وكان لعبد الناصر- على الرغم من الحملة الخبيثة التى استهدفته- مبرراته فى مسلكه لاسيما وأن الهجوم الصينى لم يؤد إلى انهيار عدم الانحياز فى الهند، وقد كان ذلك انتصاراً  لدول عدم الانحياز.

ولكن نهرو لم يحظ بأى انتصار.. فقد أصبح إنسانا معذبا تزعزعت روحه المعنوية.. وكان يخال لمن يراه بعد ذلك أنه هوى من سفوح الهيملايا ومنحدراتها وتحطم .. فقد كان يعتقد أنه قد رتب أمور عالمه وفجأة تزعزع هذا العالم وتقوض وتفتت إلى أشتات يستعصى جمعها من جديد عندما بدأ الجنود الصينيون يتدفقون عبر الممرات الجبلية.


ولم يعد في عالمه شىء على ما يرام .. فقد انهارت سياسته الصينية. وذهب مينون وكسب العسكريون المزيد من القوة.. واضطرب كل التخطيط الذى كان قد أرسى قواعده واختل ..

وبالتأكيد أحس نهرو بأنه فشل ، بل إننى أعتقد بأن هذا الشعور ساعد على قتله، لأنه كان يستحوذ عليه تماما حكم التاريخ عليه فكثيراً ما كان يردد:

" بماذا سيحكم التاريخ علينا وماذا سيقول عنا؟ "

وروى نهرو ذات مرة لعبد الناصر أنه عندما سئل غاندى عن سبب اختياره نهرو خلفا له- على الرغم من أنه تلقى تعليمه خارج الهند وعلى الرغم من أنه كان هناك من المرشحين من هم أحق بوراثة زعامته أكثر من نهرو- فأجاب غاندى : " لأن نهرو هو الوحيد القادر على ربط الهند بالقرن العشرين "

وكان نهرو على عادته دائم التشكك في النفس فكان يردد :

" لا أدرى إذا كنت سأرقى إلى مستوى تحقيق آمال غاندى "

أما بعدما حدث فقد يئس نهرو يأسا كاملا وكان عبد الناصر. يشعر بالألم كلما التقيا، فهاهو الرجل الذى كان عبد الناصر قد أعجب به بالغ الإعجاب . الرجل الذى كان يرمز إلى كل معانى الأبوة .. نجم باندونج قد فقد كل بارقة لأى أمل .

ومات نهرو بعد أن ماتت الأحلام فى قلبه .
 
عبد الناصر وشوين لاى ...
الشرق والغرب
 
كان عبد الناصر- مثل معظم الناس - يتحرك فى سلسلة من الدوائر المختلفة ، منها تلك التى تكاد تتقارب ومنها المتصلة في نقاط معينة ومنها المتداخلة بعضها في بعض . ولكن بينما لاتتعدى دوائر معظمنا الأعمال والرياضة والهوايات فإن دوائره كانت دوائر الزعامة السياسية والنضال الوطنى والثورة .


وقد تحرك عبد الناصر ضمن الدائرة الآفرو- آسيوية حيث عقد صداقته الكبرى وكان بين أصدقائه فيها كل من شوين لاى وسوكارنو. وتحرك في دائرة دول عدم الانحياز حيث كان أقرب الأصدقاء إليه تيتو ونهرو، وكانت هناك دائرته العربية حيث ترابطت أواصر الود بينه وبين بن بيللا وعبد السلام عارف ودائرته الأفريقية وكان بين نجومها نكروما وسيكوتورى .

وكانت كل دائرة مختلفة عن الأخرى . وكان لكل منها أوجه شبه مع الأخرى . كما كان لكل منها أصدقاؤها.

وكانت صداقة عبد الناصر مع شوين لاى  حميمة بشكل خاص . فقد كانا يستمتعان بصحبة كل منهما الآخر، ويجلسان الساعات الطوال متناولين في حديثهما الكثير من الأشياء . وكانا يرتاحان كلاهما إلى الآخر ومع الآخر . وكان عبد الناصر معجبا بشكل خاص بتصميم  شوين لاى وفكره المرتب  وبطريقته الكاملة التنظيم التى كان يعالج بها أى موضوع يطرقه أو يريد أن يفعله.

وأحسب أنهما أمضيا معا فعلاً أربعا وسبعين ساعة في الجلوس والحديث معا .

وذات مرة فى أثناء زيارة للقاهرة قام بها شوين لاى استغرقت 12 يوما، تقابلا 16 مرة للنقاش والحديث.

روى شوين لاى لعبد الناصر أن صلته الأولى بمصر ترجع إلى اليوم الذى مر فيه عبر قناة السويس فى طريق عودته من باريس للبدء فى عمله الثورى فى الصين . وكانت المرة الثانية في عام 1954 عندما كان فى طريق عودته إلى الصين من مؤتمر جنيف الخاص بالهند الصينية. كان عائدا إلى بلاده آنذاك عن طريق الهند، ووضعت الحكومة الهندية إحدى طائراتها تحت تصرفه، وذهب السفير الهندى لاستقباله في  مطار القاهرة حيث لم يكن في استقباله من الجانب المصرى- باستثناء سلطات المطار - -سوى أحد موظفي التشريفات فى الخارجية المصرية . كانت تلك بداية غريبة في ضوء الصداقة التى ربطته فيما بعد بعبد الناصر.

وفى تلك المناسبة بعث شوين لاى ، الذى كانت رحلته الأولى عبر القناة قد أثارت اهتمامه بمصر- ببرقية من الطائرة يقول فها إنه إذا كانت الطائرة  ستزود بالطعام ، فإنه يأمل أن يكون طعاماً مصرياً . وتسلم السفير الهندى البرقية وبعث من المطار يطلب شيئا من الكباب والطحينة لرئيس الوزراء الصينى .

وقد اجتمع عبد الناصر وشوين لاى للمرة الأولى فى رانجون عندما كانا فى طريقهما إلى باندونج لحضور مؤتمر دول عدم الانحياز. وكان الصينيون حريصين كل الحرص على إجراء هذا الاتصال مع عبد الناصر. فقد كانت  مصر- عبد الناصر بدأت تبرز كزعيمة للعالم العربي ، وكان الصينيون يرقبون عن كثب مسلك مصر لأن موقف مصر من الصين كان يعنى موقف منطقة بأسرها وليس موقفها هى وحدها.

وعندما توقف عبد الناصر فى نيودلهى لاصطحاب نهرو، طلب السفير الصينى في العاصمة الهندية مقابلته وسأله إذا كان يود أن يقابل شوين لاى . وقبل عبد الناصر بسرور، معتقدا أنهما سيجتمعان في باندونج، ولكن عندما هبط عبد الناصر ونهرو من طائرتهما في رانجون وجدا شوين لاى فى انتظارهما فى المطار.

وقام نهرو بمهمة التعريف قائلا: " هل أحتاج إلى أن أعرفكما ببعضكما أو إلى تقديم كل منكما إلى الآخر؟".

وكان يوما قاثظ الحر. ووقف الثلاثة بعض الوقت  يشربون عصير جوز الهند الطازج ، والناس يمطرونهم برذاذ الماء المعطر احتفالا بعيد" شاى جان " - مهرجان المياه البورمى- وقد خيل إلى الحاضرين آنذاك أن شوين لاى كان يتطلع إلى عبد الناصر ببعض الإعجاب . وفي مساء ذلك اليوم عقد الزعيمان المحادثة التاريخية الحاسمة التى أدت- في النهاية- بمصر إلى عقد صفقة الأسلحة الأولى مع الاتحاد السوفييتى . تلك الصفقة التى قدر لها أن تكون ذات آثار بعيدة ومتعددة بالنسبة إلى مصر نفسها والعالم العربى والعالم أجمع .

وفي خلال مؤتمر باندونج عقدا اجتماعين تناولا فيهما الكثير من المواضيع : التضامن الآفرو- آسيوى، الحاجة إلى مزيد من الاتصالات ، الجهد المشترك ضد الاستعمار. إلى آخر هذه الموضوعات .

ولكن كان هناك إحساس- يومها- بأن شوين لاى خلالهما أكثر اهتماما بالإصغاء منه بالتكلم .

وتناول الإثنان العشاء معا، وروى شوين لاى قصة وجبته في مطار القاهرة وقصة حساء " عش العصافير " الذى كان الجميع يتناولونه يومها. وسأله صلاح سالم الذى كان يحضر العشاء عن محتويات الحساء، فأجابه شوين لاى : " أعشاش عصافير " .

وسأله صلاح سالم : " أعشاش عصافير كما هى؟ "

ولما رد شو بالإيجاب وشرح المترجم لصلاح سالم طريقة صنع طبق الحساء ، شعر صلاح سالم بالغثيان وصاح محتجا، وهرول من ردهة الطعام ليفرغ مافى معدته .

-----------------------

وقد زار شوين لاى القاهرة لمدة أسبوع فى ديسمبر (كانون الأول) 1963 وكتكرار غريب لوصوله السابق إلى مطار القاهرة لم يكن عبد الناصر فى استقباله . وظنت بعض الدوائر- وقتثذ- أن الأمر مقصود للتقليل من شأن شوين لاى .

ولكن الحقيقة أن عبد الناصر كان قد اضطر إلى الذهاب إلى تونس لفترة أربع وعشرين ساعة لحضور الاحتفال بجلاء الفرنسيين عن بنزرت . وكان عبد الناصر يحاول أن يمهد الطريق لعلاقات أفضل مع تونس، كما أنه كان متحمساً للجلاء الأجنبى عن قاعدة بنزرت ورأى أن ذلك كله أكئر أهمية من قيامه بمجرد شكليات استقبال شوين لاى في المطار.

واعتبر بعضهم الأمر إساءة لكن عبد الناصر كان قد ترك لشوين لاى رسالة يشرح له فيها الوضع وقد فهم شوين لاى الحقيقة تماما .

وقد أصر شوين لاى على أن يكون ذلك الأسبوع من المحادثات بعيدا عن الجو الرسمى . وقد قام خلاله بزيارة المتحف المصرى وأعجب أشد الإعجاب بما شاهده حيث بدا أنه استوحى من هذه الزيارة موضوع المقابلة الثانية مع عبد الناصر. فقد تحدث عن حضارات الشرق العريقة القديمة وعن نضال دول الشرق من أجل المستقبل . وكان مملوءا بالمرارة إزاء التعالى الذى يبديه الغرب تجاه دول الشرق . قال :

" برغم كل ما تحتضنه بلادنا من حضارات عريقة وبرغم ما ساهمنا به لمصلحة الجنس البشرى، فإننا لانلقى من الغرب سوى الإذلال " .

وكان موضوع حديثه طوال ذلك اليوم ينطوى على النقاط الآتية:

1- يجب أن نحصل على الاستقلال .

2- المعنى الوحيد لاستقلالنا هو أن نكون أسياد أنفسنا.

3- إذا استطعنا أن نكون أسياد أنفسنا فإن في استطاعتنـا أن نكون متناقسين مع الغرب .

4- إذا استطعنا أن نتساوى ، ففي استطاعتنا أن نتخطى " .

وكان شوين لاى يقول : عندما نحقق ذلك ونسبق الغرب ونتخطاه  فإننا سنحول مركز الثقل فى العالم ونعيده إلى الشرق " .

وراح يستطرد على هذا النحو لمدة ساعة واستشهد بقضية قناة السويس  كمثال على ذلك وقال :

" ما هو الدرس الذى يمكن استخلاصه من تأميمكم القناة ؟ إنه يعنى أننا- نحن أهل الشرق- نستطيع أن ندير المشروعات كالغرب تماماً .

وظل يؤكد  نظريته فى تكافؤ الشرق والغرب قائلا : " لقد حاول الغربيون دائما أن يحثونا بالعقد وأن يقنعونا بأننا لسنا على نفس مستوى الكفاية مثلهم وبأننا من مادة فقيرة أقل درجة منهم . إن إدارتكم لقناة السويس ليست مهمة من الناحية المالية إنما هى مهمة فقط من حيث أنها تقيم الدليل على أنه فى وسعنا أن نفعل ما يستطيعون فعله " .

كانت المساواة في جميع الأشياء مع الغرب هى الموضوع المفضل عنده . وكانت مصر قد وقعت لتوها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لكن شوين لاى قال لعبد الناصر إن الصين لن توقع المعاهدة لأنه " إما أن يقوم نزع تسلح ذرى شامل تام وأن يجرى تدمير جميع الأسلحة، أو أن الصين ستجد نفسها مضطرة إلى إنتاج أسلحتها النووية لأنه ليس فى وسعها أن تترك الدول الكبرى تحتكر السلاح النووى "

وبعد تلك الزيارة عاد شوين لاى إلى القاهرة فى أبريل ( نيسان) 1965 ليمضى يوما طويلا من المحادثات. ثم مر بالقاهرة في مناسبات عدة أخرى وفى كل مرة ، كانت الصداقة تنمو بينه وبين عبد الناصر. وفى يونيو (حزيران ) من تلك السنة وصل إلى مصر لقضاء اثنى عشر يوما مع الرئيس وكانت زيارته تلك من أهم الزيارات . فقد كانت أحداث كثيرة هامة تجرى يومها، ذلك أن خروشوف كان قد نحى . وكانت الصين قد فجرت قنبلثها الذرية الأولى . وكان شوين لاى قد ذهب الى موسكو فى محاولة أخيرة لتسوية نزاعات الصين  مع  روسيا .

وكان عبد الناصر يساوره القلق من الخصام الصيني- الروسى لأنه كان يعتقد أنه يعرقل جميع حركات التحرر ويعود علي شعوب آسيا وأفريقيا بالضرر والواقع أن عبد الناصر بعث برسالة الى شوين لاى، عندما كان هذا فى موسكو فى 1964 وحمل الرسالة اليه المشير عبد الحكيم عامر الذى كان يزور موسكو. وقد استهلها عبد الناصر بتهنئة شوين لاى على  الإنجاز الذى حققته الصين بإنتاج أسلحتها الذرية. وكان عبد الناصر متحمسا للنجاح الذرى الذى أدركته الصين واعتبره انتصاراً للشرق . ومضى بعد ذلك- فى رسالته- يناشد شوين لاى أن يسوى خلافاته مع الاتحاد السوفييتي  لتلافى الضرر الذى يلحقه نزاعهما بحركات التحرر.

واستقبل شوين لاى عبد الحكيم عامر وحمله رداً  يشكر فيه عبد الناصر على تهنئته ويقول إن الصين لن تكون كالآخرين ولن تحاول احتكار انجازاتها العلمية ، بل انها على العكس سوف تضع معرفتها فى متناول الجميع.

ورد على مناشدة عبد الناصر له أن يتفاهم مع الروس بقوله إنه سيحاول ذلك ، وإنه من أجل هذا السبب ذهب إلى موسكو. وان خروشوف هو الذى فرض النزاع ، أما الآن وقد ذهب فإنه يحاول التوصل إلى اتفاق مع الزعماء الجدد، على أنه استدرك بأنه لايرى أنه سينجح فى ذلك " لأن الروس أوروبيون وكل الأوروبيين والبيض سواء وهم يعتبروننا أدنى منهم " !

وقد كان شوين لاى مصيبا فى تشاؤمه ذلك أن زيارته لم تصل إلى مصالحة. وعندما عاد إلى القاهرة لزيارة أخرى فى يونيو ( حزيران) 1965 كان نزاع الصين مع روسيا واحدا من الموضوعين الرئيسيين في محادثاته مع عبد الناصر.

أما الموضوع الرئيسى الآخر فكان فيتنام . ذلك أن التورط الأمريكى فى فيتنام كان يتزايد في عهد جونسون، وكانت أخطار الموقف تقلق بال العالم بأسره . ولعبت دول عدم الانحياز دوراً كبيراً فى الإعراب عن هذا القلق العالمى . وقام كل من عبد الناصر ونهرو وتيتو بلفت الانتباه إلى حماقة جونسون وتحدثوا طويلا وتكرارا عن الخطر الذي  يتعرض له العالم . وكان عبد الناصر يرغب من الأمريكيين أن ينسحبوا وأن يتركوا شعب فيتنام يقرر مصيره بنفسه.

لكنه عندما تناول العشاء مع شوين لاى في الاسكندرية مساء23 يونيو (حزيران) قال شو إنه لا يريد من جونسون أن يسحب أى جندي أمريكى بل إنه- على العكس من ذلك- يرغب فى أن ترسل الولايات المتحدة المزيد والمزيد من شبابها إلى فيتنام ":

و استطرد :

" إننا نخشى أن يضغط بعض العسكريين الأمريكيين من أجل شن هجوم نووى على الصين ونعتقد أن التورط الأمريكى في الهند الصينية هو بوليصة تأمين ضد مثل هذا الهجوم ، لأن تورطهم سوف يجعل لحمهم فى متناول أظافرنا .

وهكذا، فإنه كلما أرسلوا مزيدا من قواتهم إلى فيتنام، كلما زادت ضماناتنا، لأننا نشعر أنهم سيكونون فى متناولنا ، و بالتالى نستطيع أن نستنزف دماءهم . فعليك إذا أردت مساعدة الفيتناميين أن تشجع الأمريكيين على إرسال المزيد من قواتهم إلى فيتنام .

" إننا نريدهم هناك . فسوف يكونون على مقربة من الصين . وسيكونون  فى قبضتنا. سيكونون من القرب منا بما يجعلهم رهائننا " .

وكان من أبرز ما قاله شو تلك الليلة- حينما كان يتحدث عن انحطاط معنويات الجنود الأمريكيين- إن بعض هؤلاء الجنود يجرب الأفيون وإن الصينيين يساعدونهم على ذلك... ثم قال :

" إننا نساعدهم . إننا نزرع أفضل أنواع الأفيون خصيصا للجنود الأمريكيين في فيتنام " .

وتطلع إليه عبد الناصر ببعض القلق لكن شو استأنف حديثه قائلا : " هل تذكر حينما فرض الغرب الأفيون علينا؟ لقد حاربونا بالأفيون .... وسنحاربهم بسلاحهم . سنستخدم وسائلهم ضدهم . نريد أن يكون لهم جيش ضخم فى فيتنام ليكون رهينة لنا ونريد إضعاف معنوياتهم ، إن الأثر الذى سيحدثه إضعاف هذه المعنويات في الولايات المتحدة بالذات سيكون أعظم مما يتصوره  أي إنسان " .

وشعر عبد الناصر بأن شو ربما كان يبالغ بعض الشىء . ولكن الخطة كانت واضحة في ذهن شو. ولم يترك مجالا للشك في أنه ينوى أن يفعل بالضبط كل ما قاله بالحرف الواحد . بل إن تطورات الحوادث تثبت أنه فعله بأكثر مما كان يمكن أن يخطر على بال أحد .

---------------------

وفي نهاية 1965 قرر جونسون وقف الغارات على فيتنام الشمالية . وأرسل مبعوثين إلى مختلف دول العالم  لإبلاغ زعماء تلك الدول ما يرجو أن يحققه من وقف الغارات الجوية . وقد جاء أفريل هاريمان إلى مصركجزء من تلك المهمة وقابل عبد الناصر في 4 يناير (كانون الثاني) 1966.

ورافقت فترة وقف الغارات على فيتنام الشمالية حملة دعاية كبرى من الجانب الأمريكى، فتوقع عبد الناصر أن يسمع شيئا مهما عندما زاره هار يمان .

واستهل هاريمان حديثه بسؤال الرئيس عن رأيه فى فيتنام . ورد عبد الناصر بأن فيتنام مشكلة يريد أن يرى لها نهاية، لأن استمرارها ليس فى مصلحة أحد. وهنا سأله هاريمان عن مقترحاته بشأنها فأعطاه عبد الناصر إجابته ، لكن الحديث كله كان على مستوى ثانوى فاستمر الاجتماع  ساعتين دون أن يتمخض عن شيء إيجابي . ذلك أن هاريمان لم يأت بأى جديد ولم تكن لديه أية مقترحات. وتخلت حديثهما فترات من الصمت استمر بعضها بضع دقائق .

وأحس عبد الناصر فى قرارة نفسه وقال ذلك  بصراحة فيما بعد : مهمة هاريمان كانت من قبيل الاستعراض والتظاهر، وأنه أوفد حتى يكون في  وسع جونسون أن يقول إنه بحث في جميع أنحاء العالم عن سبيل إلى السلم فى فيتنام ".

وفي نهاية المحادثة قال عبد الناصر لهاريمان : " هل تعتقدون حقا أنكم ستهزمونهم ؟ إنكم ستنفذون رغبة عدوكم إذا زدتم من قواتكم فى فيتنام . والغريب أننى سمعت من شوبن لاى شيئا في هذا الصدد وأرى أنكم تنفذون المخطط الصيني بدقة .

ومضى ينبىء هاريمان بما قاله شوين لاى  حول رغبة الصين في إيفاد المزيد من الجنود الأمريكيين إلى فيتنام لكنه لم يخبر هاريمان بخطة شو لمحاربة الجيش الأمريكى بالأفيون .

وكانت تلك هى المرة الوحيدة خلال المحادثات التى أظهر فيها هاريمان اهتماماً حقيقياً بالحديث .

وبعد ذلك شعر عبد الناصر بأنه ربما لم يكن عليه أن يخبر هاريمان بخطط شوين لاى  فبعث برسالة إلى كل من شوين لاي وهوشى مينه ضمنهما ما دار فى الاجتماع .

والواقع أن شوكان قد أبرق في هذه الأثناء إلى عبد الناصر يسأله أن لا يقابل هاريمان لأن مهمته ليست سوى مناورة، لكن برقية شو وصلت بعد فوات الأوان ولم يكن عبد الناصر ليرفض- على أى حال- استقبال المبعوث الأمريكى .

وأطلع عبد الناصر شوين لاى على تفاصيل المقابلة وأوضح أنها لم تحمل جديداً ، ثم استدرك قائلا: " ولكننى يجب أن أعترف لك بأننى فعلت شيئا أرجو أن لا تعتبره خطأ.. فلقد أخبرته بما سمعته منك عن القوات الأمريكية في فيتنام وعن أن هذه القوات تضع نفسها في فخكم بنفسها " .

ورد شوين لاى قائلا : إنه كان يعرف أن زيارة هاريمان ليست سوى مناورة دعائية. ولكنه لايمانع إذا كان قد أطلع الأمريكيين على وجهته لأنهم " لن يتعلموا شيئاً . فقد صمموا على انتهاج طريق معين ولن يدفعهم شيئاً على الإطلاق أن يحيدوا عنه ".

----------------------

وفى أثناء محادثات عبد الناصر- شوين لاى  في يونيو (حزيران) 1965 مر فى القاهرة كل من الرئيس أيوب خان والرئيس سوكارنو. واجتمع الأربعة ذات ليلة وناقشوا الشئون الدولية. وكان أيوب خان أول من غادر مقر الاجتماع  وعندئذ قال سوكارنو :

" كفى  سياسة... انني سأغادركم ".

وتطلع إلى عبد الناصر وقال :

" يا أخى ناصر إننى أعرف أن عندكم- كما فى أى بلد- رجال مخابرات أكفاء وأعرف أنهم سيتتبعوننى ليعرفوا ما أنا فاعل . سأذهب لمشاهدة إحدى الراقصات، فلا حاجة لهم بملاحقتى وكتابة تقارير عن ذلك غدا ".

قال ذلك وسأل شوين لاى إذا كان يرغب في مصاحبته لمشاهدة الراقصة، لكن شوين لاى أجابه ضاحكاً :

" كلا .. إن تقارير المخابرات غدا ستفيد أننى: إما أمضيت الليل مع الرئيس عبد الناصر أو أمضيته في العمل ".

والواقع أنه لم يكن في زيارة شوين لاى أى وقت يقضيه فيما يدخل في عداد الترويح عن النفس . فقد كان يحس بمرارة بالغة تجاه الروس . ولما قال له عبد الناصر إن الاتحاد السوفييتي يساعد مصر، أجابه شوين لاى ملحا : " إنهم لن يساعد ونكم . إنهم لايهتمون إلا بمساعدة أنفسهم ".

وراح شوين لاي يروي الحكاية تلو الأخرى عن الطريقة التى سحب بها الروس فنييهم من الصين وحجبوا عنها مساعداتهم وعن المصانع التى لم تتم  وعن المشروعات الصناعية التى تخلى عنها الروس وكيف حاولوا شل تقدم الصين فى الميدان الذرى باستدعاء علمائهم وسحبهم منها وقال :

"  ومع ذلك ، فقد حققنا ما نريد وصنعنا القنبلة الذرية بأنفسنا ".

وكان شعوره بالمرارة بغير حدود. وقد كانت هذه المرارة هى التى أدت إلى أول سوء تفاهم بين عبد الناصر وشوين لاى .

--------------------

وفي نهاية 1965. عدما كانت الاستعدادات تتخذ لعقد المؤتمر الأفريقي – الآسيوي  الثاني . طلب الاتحاد السوفييتي الاشتراك فى المؤتمر باعتباره دولة آسيوية . لكن الصينيين عارضوا بشدة اشتراك الروس أعتقادا منهم، بأن الروس  سيحاولون تزعم الحركة الآفرو- آسيوية وهو مركز كان شوين لاى  يرى أنه من حق الصين وحدها . 

ولذا كتب إليه عبد الناصر مشيرا إلى أن الاتحاد السوفييتي  يضم مناطق شاسعة فى آسيا وأن الدول الافريقية- الآسيوية قد تفيد من وجود الروس فى المؤتمر.
ولكن شوين لاى كانت له وجهة نظر مخالفة تماما . فقد اعترض قبل كل شىء بأن أراضي روسيا الآسيوية انتزعت كلها من الصين ،  وثانيا بان الروس سوف يقحمون أحد معسكرى الحرب الباردة إلى المؤتمر.

وبلغت معارضة الصينيين لاشتراك الروس في المؤتمر حدا جعلهم  ينسفونه ... فقد أرجى أول الأمر ثم ألغى قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لافتتاحه في مدينة الجزائر، حيث أقيم مبنى خاص في غابة الصنوبر ليكون مقراً للمؤتمر ،  ومن ثم لم ينعقد بعد ذلك . ونامت الحركة الأفرو- آسيوية .

ووجه شوين لاى إلى عبد الناصركتابا لم يترك فيه مجالا للشك في حقيقة موقف الصين . فقد جاء فيه: " إذا كان لابد من عقد المؤتمر فى موعده المقرر - خرقا لمبدأ الاجماع المبنى على المشاورات ، وبرغم معارضة الصين ومعارضة مملكة كمبوديا وغيرهما من الدول- فإن الحكومة الصينية ستجد نفسها مضطرة إلى الامتناع عن حضور مؤتمر كهذا، مما سيؤدى إلى الانقسام والفرقة " .

----------------------------

وكان قد حدث سوء فهم سابق بين شوين لاى  وعبد الناصر فى 1959 عندما دعى خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعى السوري - الذى كان قد هرب من سوريا بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة- إلى حضور الاحتفال بالذكرى العاشرة للانتصار الشيوعى في الصين حيث أتيح له أن يهاجم الجمهورية العربية المتحدة فى اجتماع جماهيرى فى بكين وحيث قام شوين لاي بتقديمه إلى الجماهير بنفسه.

وردا على ذلك سحب عبد الناصر-  فى اليوم التالى- القائم بأعمال الجمهورية العربية في بكين وأغلق القنصلية الصينية في دمشق ،  ورد الصينيون بضرب الحصار على السفارة المصرية في بكين .

وكتب شوين لاى إلى عبد الناصر يسأله عما يمكن  عمله لرأب الصدع  فأجابه عبد الناصر بأنه لم يستطع أن يفهم كيف سمحت لخالد بكداش بأن يقف في اجتماع عام  ويهاجم الجمهورية العربية المتحدة وكيف أن شوين لاى بالذات هو الذى تولى تقديمه.

وكان رد فعل شوين لاى على ذلك لاسابقة لها. فقد اعتذرت الصين  للجمهورية العربية المتحدة  وبعد ذلك روى شوين لاى لعبد الناصر أن هذه هى المرة الأولى التى سمحت فيها الصين لنفسها أن تعتذر لأى فرد.
وتمت تسوية هذا الخلاف تسوية مثلى ، ولكن النزاع الصيني- الروسى  ترك آثاره  وندوبه على كل من تورط فيه.

-------------------

ففى ذات مرة ألقى الرئيس عبد الناصر خطابا تحدث فيه عن الثورة الثقافية فى الصين وقال :

" لابد لنا ذات يوم من ثورة ثقافية تنفض الصدأ عن  تنظيمنا وفكرنا السياسى " .

وفى أثناء زيارة قام بها الرئيس إلى موسكو بعد ذلك بقليل ، أشار أحد الزعماء الروس بذلك الخطاب قائلا:

" لقد لاحظت أنك تصادق شوين لاى . ولكن لماذا تكن مئل هذا الإعجاب للصينيين ؟ ".

ورد الرئيس : " إنه لإنجاز عظيم أن تقوم حركة ما بتغيير بلد في حجم الصين وأن تنتج أسلحتها الذرية بنفسها. وهو إنجاز عظيم بالنسبة إلى دولة آسيوية أن تكون تلك الحركة قد خلصت الصين من المجاعة وحركتها من جمودها وجعلتها من الدول العظمى وسارت بها إلى العصر الذرى . وأعتقد أن الذين حققوا ذلك- وخصوصا ماوتسى تونج- لابد أن يكونوا عظماء ".

وانتفض الزعيم الروسي عند سماعه مهاجما على الفور بقوله :

" لا... إن ماوتسى تونج ليس سوى رجل انتهازى . لقد أفاد من الظروف والأحداث لكنه لم يخلقها قط . ففى الحرب ضد اليابانيين  ترك عبء القتال كله على تشيانج كاى شيك أما هو فإنه لم يحارب . لقد ترك الحرب لتشيانج كاى شيك وفرإلى مقاطعة يينان . وعندما انسحب اليابانيون أمام ضغط قوات الماريشال مالينوفسكي الذى قام بتطويق نصف مليون جندى ياباني فإن الطريق إلى بكين أصبح مفتوحاً . وعندئذ بعث ماوتسى تونج إلى ستالين يسأل الإذن بالزحف على بكين فأذن له. وعند ذلك فقط  خرج ماوتسى تونج من مخبئه ".

واستطرد ذلك الزعيم الروسى قائلا لعبد الناصر :

" هل تعرف أن ابنيه كانا يعيشان فى الاتحاد السوفييتى وأن أحدهما يحمل اسما روسيا هو " يوري " لكنه لم يكن يعبأ بأمرهما ،  ومع أننا وفرنا لهما تعليما جيدا، فإن ماو كان من الجحود إلى درجة  أنه عندما عاد إلى الصين، بعد دخوله بكين استدعاهما إلى مكتبه وسألهما عما تعلماه .. ولما أجاباه ، قال إن كل ما تعلماه هو سخف وهراء ، وأنهما لم يتعلما شيئا . ثم أرسلهما إلى أحد الكميونات وكانت تلك إهانة موجهة إلى الاتحاد السوفييتى لأننا بذلنا أفضل جهدنا من أجل تعليم ابنيه "*

ورد عبد الناصر :

" وحتى لو فرضنا أن هذا هو الذي حدث ، وحتى لو جعلتم احتلال بكين سهلا عليه، فإنه سار قدما وحكم الصين وحقق إنجازات عظمى ".

وكان رد الروس على ذلك هو أنه كان يستند إلى تأييد حزب شيوعى قوي للغاية جعل الأشياء يسيرة بالنسبة إليه. ورد عبد الناصر بقوله إن ماو حارب حتى حزبه نفسه ،  فى أثناء الثورة الثقافية .

وهنا قال الروس :

" نعم... لكنه استخدم الجيش ضد الحزب ".

لم يكن المخرج من هذا النقاش سهلا. فقد كان المرء لايسمع من الصينيين سوى أسوأ الأوصاف عن الاتحاد السوفييتى ومن الروس إلا أسوأ الأوصاف عن الصينيين . وكان موقفا مستحيلا بالنسبة إلى من كان صديقا للطرفين .

وفي عام 1967 اتخذ الصينيون موقفا بالغ التشدد حيال قبول مصر لوقف إطلاق النار مع إسرائيل ، وكتب كل من ماو تسى تونج وشوين لاى إلى الرئيس عبد الناصر يحثانه على عدم القبول والمضى في القتال .

ورد عبد الناصر عليهما موضحا أن مصر فقدت جيشها وأن عدم قبولها بوقف إطلاق النار هو بمثابة إتاحة الفرصة للإسرائيليين لتدمير مصر بأسرها " بالتقسيط "  قطعة قطعة بينما تقف مصر عاجزة تماما حيال ذلك.

وهنا أرسل ماوتسى تونج إلى عبد الناصر خطة عسكرية تقوم على أساس تجزئة الجيش إلى ألوية مستقلة ، وأن تتغلغل هذه فى صفوف السكان على طريقة العصابات بحيث تعتمد في معيشتها على السكان المدنيين وتندفع  لتضرب الإسرائيليين حينما وحيثما تستطيع إلى ذلك سبيلا

واضطر عبد الناصر إلى أن يرد عليه بوصف كامل لطبيعة صحراء سيناء :
" إنها صحراء... ولا نستطيع أن نقود حرب تحرير شعبية في سيناه لأنها غير مأهولة بالسكان ". وقال للزعيم الصينى إن سيناء بأسرها ليس بها أكثر من ثلاثين ألف نسمة وأنها منبسطة وجرداء تماما ، بحيث يستطيع المرء أن يرى إلى مسافة ثلاثين أو أربعين ميلا. ولذا فإنه لن يكون للألوية المستقلة أى أمل أو فرصة هناك.

وفي ذلك الحين أخذ الإسرائيليون يهددون بأنهم قد يطورون أسلحة ذرية وأنهم سيستخدمونها إذا لم تنفذ الدول العربية مشيئتهم ". فكتب الرئيس عبد الناصر إلى شوين لاى- ذات يوم- مذكرا إياه بوعده بمشاطرة الصين لمصر معلوماتها النووية وأرسل وفدا من هيئة الطاقة الذرية المصرية إلى الصين لطلب المساعدة التى تمكن مصر من التقدم فى الوسائل وفنون الأسلحة النووية.

واستقبل شوين لاى أعضاء الوفد بكل مودة . وقال لهم إن النصيحة التى يوجهها إليهم والتى يطلب منهم نقلها إلى الرئيس عبد الناصر هى نصيحة بسيطة : وهى الاعتماد على النفس . فما من أحد يعطى أحدا شيئا هبة. وإذا كان المصريون راغبين في اقتحام الميدان الذرى فإن عليهم أن يفعلوا ذلك بالاعتماد على أنفسهم. فقد كان هذا هو السبيل الذى اتبعته الصين وكان أفضل السبل و أمثلها.

وهكذا عاد الوفد المصرى خاوى اليدين . وبالرغم من أنه لم تكن هناك أية ضغينة ضد الصينيين بسبب ذلك، فقد كانت هناك قطعا خيبة أمل في أنهم لم يساعدوا مصر على تطوير معلوماتها النووية .

----------------------

وقد كانت الخلافات بين زعماء الصين وعبد الناصر- حول وقف إطلاق النار، والمعلومات النووية- من نوع الخلافات بين الأصدقاء . فقد ظل هناك تفاهم أساسى مشترك بين الطرفين لموقف كل منهما . على أنه ما لبثت أن قامت بين مصر وا لصين أزمة أخفق كل من عبد الناصر وشوين لاى كليا فى تفهم موقف الآخر فيها.

ففى أثناء اجتماع للتضامن الأفرو- آسيوى في بكين، كان بين أعضاء اللجنة التى ألفت لاستقبال الوفود القادمة شاب صينى اسمه كوان يوشين ، وكانت مهمته تسهيل إقامة أعضاء الوفود ورحيلهم .

وتصادف أن سلم عضو في الوفد الياباني كان يريد مغادرة الصين جواز سفره إلى كوان لاستكمال بعض الإجراءات المتعلقة به. وكان الجواز قد ختم بتأشيرة الخروج ومرفقة بداخله تذاكر سفر صاحبه .

ونزع كوان صورة العضو الياباني عن الجواز وألصق مكانها صورته وركب الطائرة الوحيدة التى غادرت بكين ذلك اليوم . وتشاء الظروف أن تصل الطائرة إلى القاهرة حيث نزل منها كوان وطلب اللجوء السياسى !

وثارت ثائرة الدنيا كلها دفعة واحدة . وقفزت فى أتون المشكلة كل الأطراف الممكنة. وأرسل شوين لاى كتابا شخصيا إلى عبد الناصر يطلب فيه وضع الشاب الصيني الهارب فى أول طائرة عائدة إلى بكين بينما ادعى الأمريكيون أن كوان اتصل بإحدى ا السفارات الغربية وطلب اللجوء إلى الولايات المتحدة ،  وكان الأمريكيون يريدونه. وزعم الروس أنه اتصل بالسفارة الروسية وطلب تسفيره إلى موسكو ، وهكذا- وبكل براءة- وجدت مصرنفسها في خضم شجار عالمى كبير.

وازداد الأمر تعقيدا بالنظر إلى أن تقاليد اللجوء السياسي قوية للغاية في مصر، و ترجع هذه التقاليد إلى ما بعد غزو نابليون لمصر حينما أصبحت مستقلة عمليا عن الإمبراطورية العثمانية. وأخذ يؤمها الكثيرون من اللاجئين السياسيين من الشرق العربي .

كان معظمهم من المفكرين الذين اضطرتهم السلطات العثمانية إلى مغادرة بلادهم وقد منحهم خديوى مصر حق اللجوء تدليلا على استقلاله.

وكان أولثك المفكرون اللاجئون هم الذين نشروا مع نظائرهم فى مصر فكرة الوحدة العربية والذين أحيوا في العالم العربي النهضة الفكرية العربية في أواخر القرن الماضى .


من هنا فإن فكرة اللجوء السياسى عميقة الجذور وجزءا من سنة الحياة المصرية بحيث أن الدساتير المصرية كلها منذ ذلك الحين نصت صراحة في مادة منها  على حظر تسليم اللاجئين السياسيين .

وهكذا فقد وضع طلب شوين لاى أسترداد كوان يوشين عبد الناصر في مأزق رهيب . فلم يكن راغبا فى الإساءة إلى شو إلا أنه لم يكن في  وسعه أن يخرق تقليدا مقدسا كتقليد اللجوء السياسى ..

وادعى الصينيون أن كوان يوشين لم يكن لاجئا سياسيا بالمعنى الصحيح ، فقد غادر الصين يحمل بعض أسرار الدولة وبالتالى لم يكن جديرا بالحصول على حق اللجوء السياسى . وكان- فى نظرهم-  مجرما وجاسوسا.

ولكن لم يكن في وسع عبد الناصر حتى على هذه الأسس أن يخرق سنة التقاليد ذلك أنه حتى بعضاً من أعدائه الألداء كان قد منح  اللجوء السياسى إلى مصر.

وأصبح الموقف متفجرا.

وكتب عبد الناصر إلى شو لإيضاح وجهة نظره لكن الزعيم الصينى لم يتفهمها،

وفي تلك الأثناء طلب كوان يوشين مغادرة مصر.

كان الروس وراءه . والأمريكيون وراءه . فغضب الصينيون غضبا شديدا. فماذا يفعل عبد الناصر ؟

كان الحل الذى قام به هو أنه زج كوان فى السجن إلى أجل غير مسمى . لكن ذلك لم يرض الصينيين أيضا. فقد كانوا يريدون استرداده .

وبقى كوان فى السجن زهاء سنة ونصف سنة قبل أن يفرج عنه.

وأفاد آخر خبر مؤكد عنه أنه غادر القاهرة على متن طائرة اسكندينافية متوجهة إلى بروكسل .

----------------

وجاء سوء فهم آخر بسبب النصائح التى يمكن أن تقدم للمقاومة الفلسطينية... كان الصينيون يضعون أمامهم نموذج فيتنام وكان عبد الناصر يرى أن المقاومة الفلسطينية تستطيع أن تستلهم نموذج فيتنام ولكن لاتستطيع تقليده لاخئلاف الظروف.

فأولا: ليس في الشرق الأوسط مكان تصل فيه درجة كثافة السكان إلى الحد الذى يتيح لرجال حرب العصابات التغلغل والتستر بينهم .

وقال لهم إنه كان في الجزائر عشرة ملايين جزائرى فى مقابل نصف مايون جندي محتل . وفي فيتنام يبلغ تعداد السكان 40 مليونا بينما لا يتجاوز عدد القوات الأجنبية نصف المليون وبالتالى فإنه ليس فى مناطق نشاط الفداثيين في الشرق الأوسط مثل تلك النسبة ببن عدد السكان وقوات الاحتلال .


وثانيا : فقد قال لهم عبد الناصر إنهم يفتقرون إلى الملاجىء المنيعة الحقيقية، خلافاً للوضع في فيتنام والجزائر حيث تمتد مناطق منيعة بعيدة عن متناول العدو يستطيع الثوار أن يلجأوا إليها ليلعقوا جراحهم ويستريحوا ويتدربوا ويخططوا قبل أن يخرجوا منها لاستئناف القتال في الوقت والمكان اللذين يختارونهما. أما فى إسرائيل فليس ثمة مثل هذه المواقع . وكل مكان تقريبا فى متناول العدو.

وكان ذلك كله يتناقض كليا مع آراء الصين ..

وزاد عبد الناصر من ضيق الصينيين عندما اصطحب ياسر عرفات إلى موسكو حيث قام بتعريف زعيم فتح إلى كوسيجين وبريجنيف وبودجورني الذين كانت لهم تحفظاتهم تجاه حركة الفدائيين ولكنهم بدأوا بعد ذلك يقيمون الصلات معها .

أزعج ذلك الصينيين لأتهم كانوا يرغبون فى احتكار مساعدة حركات التحرير.

وسمع عبد الناصر أن الصينيين يقولون للفدائيين إن عبد الناصر يبيعهم للاتحاد السوفييتى . فتضايق هو الآخر بدوره-

وهكذا طلب من ياسر عرفات عندما زاره قبل توجهه إلى الصين أن ينبئ شوين لاى بأنه لا يبيع أحدا للاتحاد السوفييتي وأنه يفعل ما يراه الأفضل للمصلحة العربية العامة.

وحمل ياسر عرفات رسالة من شوين لاى يقول فيها إنه شديد الأسف لسوء التفاهم الذى قام بينه وبين الرئيس عبد الناصر وإنه يعتبر عبد الناصر قائد حركة التحرير الوطنية في العالم العربي وإنه كان خائفا عليه لأن الاتحاد السوفييتى لن يساعده ولأن الروس يتاجرون بالقضية العربية كجزء من صفقة عامة يعقدونها مع الولايات المتحدة .

وقال شو إنه- برغم سوء التفاهم- يحب الرئيس عبد الناصر ويحترمه، والدليل على ذلك أنه لم يستبق فى أثناء  الثورة الحقافية أى سفير صينى فى الخارج سوى سفير الصين فى القاهرة .

وانتهز عبد الناصر لهجة هذه الرسالة الودية وكتب يرد عليها فى محاولة لإعادة بناء الجسور مع الصين. كان ذلك فى الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1970 ركان الستار يوشك أن ينزل على المشهد الأخير فى حياة عبد الناصر وهو مشهد ألقى شوين لاى جزءاً من مسئوليته على السوفييت !
  
عبد الناصر وإيرهارد
صدام في الظلام
 
دفع الرئيس جمال عبد الناصر ولودفيج إيرهارد، مستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية دفعا إلى خصام لم يكن يقصده أحد منهما أو يريده .


وقد فوجى كل منهما بما حدث ولكن عبد الناصر واجه المشكلة كلها بشكل حاسم ... فقد كان غاضبا لأنه شعر بأنه قد خدع . أما إيرهارد فقد اندفع إلى الخصام  مترددا بعض الشئ ، ذلك أن الخصام لم يكن من صنع يديه... وكما قال أحد وزراء ايرهارد للسفير المصرى فى بون جمال منصور فقد " هدت الجدران من حول إيرهارد فجأة فانكشف أمام الناس عارياً وهو في الحمام ".

زاد الأمر سوءاً أنه لم تكن هناك حاجة لأى نزاع بين البلدين ، فقد ربطت بينهما تقليديا ، وشائج وعلاقات طيبة، ربما لم تكن حميمة ولكنها كانت من القرب بحيث خلقت بين البلدين إحساسا بأنهما تربطهما صداقة مريحة.

وكان العالم العربي معجباً بألمانيا وكان هذا الإعجاب ينبثق من عدد من الاعتبارات : فقد كان أول من عزل فيروس البلهارسيا عالما ألمانيا أطلق اسمه على الفيروس .. وكان هذا المرض لعنة محيقة بمصر. وكان أول من اكتشف معابد " أبي سمبل " عالم آثار ألماني . ثم كانت هناك تلك الثقة- التى تتمتع بها- الآلات الألمانية بشكل أسطورى .. وكان العرب معجبين بألمانيا - بشكل خاص- بسبب انضباطها وقوتها والطربقة التى بنت بها كيان وحدتها من مجموعة من الدويلات ذات لغة مشتركة وتراث مشترك ولكنها كانت عديمة القوة إلى أن التحمت أواصرها وانصهرت فى بوتقة الوحدة " الجرمانية ". وعندما  كان العرب يتدارسون طريقة تحقيق  وحدتهم كان بعضهم يتطلع أحيانا إلى القدوة الألمانية والنموذج الالماني .

وقد تصادف أنه في أثناء اننفاضتين وطنيتين في مصر- أى في غمرة الأحداث التى أدت إلى ثورة 1919 ثم في غمرة الغليان الذى بدأ سنة 1939- كانت ألمانيا تحارب نفس العدو الذى يحاربه المصريون .. فقد كان المصريون والألمان يحاربون البريطانيين .

وقد اتهمت مصر يوما بأنها موالية لهتلر... ولكن هذه التهمة ليست صحيحة بالمرة . فالواقع أن مصر وألمانيا وجدتا نفسيهما تحاربان عدوا واحدا الأمر الذى خلق بالطبع رابطة ما بينهما .
بل إن حتى الضباط المصريين الذى كانت لهم اتصالات مع ألمانيا كالرئيس أنور السادات ، لم يكونوا موالين للنازية. إنما كانوا- ببساطة- مناهضين للبريطانيين لا أكئر ولا أقل .

لا بل إن الضباط المصريين الذين كانوا يعملون لتحرير بلادهم لم يكونوا جميعا راغبين فى العون الألماني .

فقد كان رجال من أمثال الرئيس جمال عبد الناصر يخشون أنهم بالحماس لهتلر لن يفعلوا أكئر من أن يستبدلوا المحتل الألمانى بالمحتل البريطاني .


وهكذا بينما اعتقل الرئيس السادات بسبب اتصالاته مع الألمان ، فقد كان عبد الناصر يحرس المؤخرة البريطانية ضد الألمان في العلمين .

ولم يكن السادات الوحيد الذى فتح باب العلاقات مع الألمان ، فقد سبق للملك فاروق أن بعث بأحد أقربائه موفداً خاصا إلى هتلر. وقد قام هذا القريب ، - الذى كان ضابطا بالجيش- بالتوجه إلى سويسرا حيث اجتمع بمبعوثين ألمانيين أخذوه لمقابلة هتلر الذى حمله رسالة إلى فاروق .

وأجرى الملك فاروق اتصالا ثانيا بالألمان بواسطة حميه يوسف ذو الفقار باشا الذى ذهب لمقابلة الهر إيتل السفير الألماني فى طهران .

وكان فاروق يهدف من هذه الاتصالات لأن يحصل على وعد من هتلر بأن يمنح الألمان مصر الاستقلال إذا انتصروا في الحرب .

وقد جرت سلسلة من الوقائع فى مطلع 1942 عملت على المزيد من  التباعد بين المصريين و البريطانيين بيما زادت من التقارب بينهم والألمان . فقد أحس البريطانيون أن الألمان يعملون من خلال قنصلية فيشي الفرنسية فى القاهرة  فأمروا الحكومة المصرية بإغلاقها. وكان الملك فاروق فى رحلة صيد في البحر الأحمر فلم يعرف بالأمر إلا بعد عودته إلى القاهرة .

وغضب فاروق وأمر وزير خارجيته بالاستقالة، فقدم رئيس الوزراء استقالة وزارته كلها وخرجت إلى الشوارع  تظاهرات عارمة هتف خلالها طلبة الأزهر :

" تقدم يارومل .. إلى الأمام يارومل "

وكانت هذه المظاهرات- إلى جانب ارتياب البريطانيين فى نشاط  بعض الرعايا الإيطاليين الذى كانوا في مناصب حساسة بالقصر الملكى- بين دعاوى اللورد كيلرن الى تطويق قصر عابدين بالدبابات يوم 4 فبراير (شباط) المشهور وإلى إجبار فاروق على قبول مصطفى النحاس باشا رئيسا للوزراء .

ولكن حتى بعد مجئ النحاس إلى الحكم كانت ثمة أوضاع انحاز فيها المصريون إلى الألمان .

فقد كان من جملة الخطط التى أعدها  البريطانيون " من أجل الدفاع عن مصر" خطة كان البريطانيون بموجبها يعدون العدة لجعل منطقة الدلتا مستعصية على عبور الدبابات وذلك بواسطة فتح القناطر الخيرية وإغراق الأراضي الزراعية كلها .

وربما كان من شأن هذه الخطة أن تفلح فى وقف دبابات رومل ولكنها كانت ستؤدى- بالتأكيد إلى دمار الزراعة المصرية. ومن هنا فقد وجهت الوزارة المصرية رسالة  رسمية إلى محافظ الإسكندرية- عبد الخالق حسونة باشا- تأمره فيها بأن يتوجه  ويسلم مفاتيح الإسكندرية إلى رومل إذا زحف عليها وذلك تفاديا للقتال وإغراق منطقة الدلتا.

ولكن ألمانيا انهزمت وصدمت مصر لما حل من دمار بالأمة التى كانت مصدرا لقسط كبير من إعجابها. وقد هال المصريون الذين ذهبوا إلى برلين بعد الحرب مدى ما كان يمكن المرء أن يشتريه مقابل سيجارة.. فقد كانت السيجارة تشترى أى  شيء !!

ومن ثم فقد تضاعف الإعجاب بألمانيا فى مصر عندما بدأت تراقب معجزة الانتعاش الاقتصادى الألماني.

----------------------

وقد كانت هذه هى الخلفية من العلاقات الطيبة التقليدية ومن وحدة النضال ضد العدو الواحد ومن الإعجاب المتجدد التى وجد الرئيس عبد الناصر نفسه يواجه إزاءها أولى مشكلاته السياسية الكبرى بعد الثورة .

وكانت ألمانيا الغربية قد وقعت فى ديسمبر (كانون الأول) 1952 اتفاق  تسوية التعويضات مع إسرائيل الذى وافقت بموجبه أن تدفع للإسرائيليين مبلغ ثلاثة مليارات دولار فى مدى 12 عاما.

وكانت الحجة فى تبرير ذلك الاتفاق : التعويض عن الجرائم النازية . ولكن العالم العربي اهتز وصدم صدمة بالغة من جرائها . ذلك أن الأثر المترتب عليها سيتمثل فى تقوية عسكرية واقتصادية لإسرائيل التى لم يكن النازيون قد مسوها بسوء لأنها لم تكن قد قامت إلى الوجود عندما كانوا يحكمون ألمانيا . وقد أوضح عبد الناصر فيما بعد للدكتور إيرهارد  وجهة النظر العربية بقوله : " ما الذى يحتم أن  ترث إسرائيل الضحايا اليهود الذين لقوا حتفهم على يد النازيين؟ إننا نفهم أن تكون ثمة تعويضات شخصية لأفراد وعائلات منفردة من اليهود ولكن ما هو المبرر فى إعطاء أموال التعويضات لإسرانيل؟ ثم إنه ليس هناك من دليل على أن اليهود الناجين من ألمانيا النازية ذهبوا إلى إسرائيل . ذلك أن معظمهم هاجر إلى أمريكا وأوروبا الغربية " .

لقد رأى الرئيس عبد الناصر فى التعويضات حقنة تقوية كبرى لإسرائيل ولكن لم يكن هناك ما يستطيع أن يفعله بشأنها . فقد كان منهمكاً بأشياء أخرى كما أن ألمانيا كانت في ذلك الحين تنتهز كل فرصة  ممكنة لعقد وشائج الصداقة مع مصر .

وهكذا فبالرغم من أن جامعة الدول العربية كانت تحس بمرارة شديدة تجاه التعويضات الألمانية لإسرائيل فإنه لم يكن هناك شيء يمكن عمله.

غير أن عبد الناصر دهش للغاية عندما أثار القضية مع السفير الألمانى عندما قال له :

" يجب أن تدرك ،  يا سيادة الرئيس ، أن هذه ليست بالإرادة الألمانية... فألمانيا تصرفت وفق الأوامر التى أملاها عليها الحلفاء، وأمريكا بصفة خاصة وبجب أن لاتنسى أن ألمانيا محتلة " .

ولكن لم يكن فى وسع عبد الناصر أن يجد أى مبرر لخضوع ألمانيا لإسرائيل .

وفى سنة 1960 جاء إيرهارد- صاحب المعجزة الاقتصادية الألمانية الى القاهرة وكان لم يزل بعد نائب المستشار الألماني ( أديناور) وقد أثارت شروح إيرهارد عن كيفية تحقيق تلك المعجزة خيال عبد الناصر. وقد خلص عبد الناصر بعد أن ناقشها مع إيرهارد إلى أنها معجزة لايمكن أن تتكرر لأنها وليدة مهارة شعب معين... وإلى أن ما جعل ألمانيا تنهض من الأنقاض وتزدهر من جديد لا يكمن في صيغة أو معادلة سحرية، إنما يكن فى العنصر الإنسانى، وتصميم الشعب على النجاح وتحقيق المعجزة .



وقد تحدث إيرهارد كذلك عن رغبة ألمانيا فى توطيد علاقاتها الطيبة مع العالم العربي ، ورد عبد الناصرعليه بأنه هو أيضا مهتم بإقامة علاقات طيبة مع الألمان " ذلك أن علاقاتنا مع البريطانبين ليست طيبة وكذلك علاقاتنا مع الفرنسيين غير طببة أما علاقلاتنا مع الأمريكيين فسيئة جداً ... إلا أننا- على كل حال- نحاول أن نبنى جسرين منفتحين على الغرب وهما :  ايطاليا وألمانيا... ونحن نعتقد أنه فى وسع ألمانيا أن تساعدنا على الحفاظ على علاقاتنا مع الغرب لأن هناك معينا مشتركا من حسن النوايا بيننا ".

ومضى عبد الناصر يتناول قضية الأسلحة الألمانية إلى اسرائيل وأبلغ إيرهارد بأن مصر تتلقى تقارير تفيد بأن الألمان يمدون الاسرائيليين بالاساحة وأنه لايصدق هذه التقارير رغم أنه هناك أشياء- وملابسات غريبة تجرى- تستحق التأمل .

وروى لإيرهارد أنه تلقى فى نهاية 1957 تقريرا من اسرائيل يفيد بأن  بن جوريون قد تحدث عن احتمال الحصول على أسلحة من ألمانيا . وقد استقال وزيران إسرائيليان في ذلك الحين من الوزارة وقيل إنهما قد أجبرا على الأستقالة لأنهما أفشيا أسرار وزارية ولكن المعلومات التى تلقاها عبد الناصر تفيد بأنهما قد استقالا لأسباب معنوية وأدبية على أساس أن وجهة نظرهم كانت أنه لم يكن ينبغى على إسرائيل أن تقبل الأسلحة التى سبق أن استخدمت فى قتل اليهود...

ورد بن جوريون على حججهما بأن قضية الحصول على السلاح ليست بالقضية الأخلاقية أو الأدبية.

-------------------

وكان الرئيس عبد الناصر قد فاتح همرشولد فى هذا الشأن أثناء أحد اجتماعاتهما.

وفى يناير (كانون الثانى) 1958 أبلغ همرشولد عددا من السفراء فى الأمم المتحدة- ومنهم السفير السوفييتى والسفير المصرى- بأنه قلق من التلميحات التى  تشير إلى أن إسرائيل تحصل على السلاح من ألمانيا لأن من شأن ذلك أن يزيد من تعقيد قضية معقدة لاتحتاج إلى مزيد من التعقيد .

وإثر ذلك أصدرت الحكومة الألمانية بيانا قالت فيه : " إن حكومة ألمانيا الاتحادية لاتنوى- الآن أو فى المستقبل- أن تبيع أى أسلحة لإسرائيل " ذلك أنه من شأن هذا التصرف أن يكون عملا يخالف تماما سياسة الحكومة الألمانية التى تقضى بعدم إرسال أسلحة إلى أى بقعة في العالم تعاني من التوتر .. "

وجاء فى البيان : " أن حكومة ألمانيا الاتحادية تنظر بدهشة إلى البيانات المعزوة إلى رئيس وزراء إسرائيل بن جوريون وغيره ، والقائلة إن إسرائيل ترغب فى الحصول على غواصات وغير ذلك من الأسلحة من ألمانيا. إن حكومة ألمانيا الاتحادية مقتنعة بأنها لآتستطيع - شرعيا ودستوريا وسياسيا- أن تصدر السلاح إلى الشرق الأوسط ".

ومضى البيان إلى الإشارة إلى أن اتفاق التعويضات يستبعد نصا وبالتحديد كل إشارة إلى الأسلحة فى المواد التى تدفع بها ألمانيا التعويضات .

وقد كان التكذيب قاطعا إلى حد حمل الجميع على تصديقه. ولذا فإن عبد الناصر لم يدخل فى تفاصبل الموضوع عندما فاتح به إيرهارد ولم يركز عليه تركيزا كبيرا . فقد كان التكذيب الألماني فى منتهى الوضوح ، كذلك استبعد إيرهارد الموضوع  كله وتقرر إسقاطه من الحساب .

---------------------

وبعد شهرين فقط من اجتماع عبد الناصر مع إيرهارد قابل المستشار كونراد أديناور بن جوريون فى نيويورك حيث قام غلاة اليهود بمظاهرات جامحة ضد أديناور إلى حد أن بن جوريون اضطر إلى التسلل من الباب الخلفى ليقابل الزعيم الألمانى .

ولم تعلم مصر بثفاصيل ما دار فى ذلك الاجتماع إلا بعد زمن طويل عندما بدأ الألمان يفسرون مسلكهم للرئيس عبد الناصر فقد قال الألمان : إن بن جوريون أبلغ أديناور أن فرنسا- التى كانت تمد إسرائيل بالأسلحة- بدأت تغير من سياستها فى عهد ديجول وكانت بريطانيا تلعب دور المرائي ، بينما لاتزال الولايات المتحدة تتردد فى تزويد إسرائيل بالأسلحة .

وهكذا- على حد ما قاله بن جوريون لأديناور آنذاك- فإن على ألمانيا إذا أرادت حقا أن تعوض اليهود عما حل بهم فى معسكرات الاعتقال ، أن تمد اليهود- الذين حاول الالمان إبادتهم- بوسائل الدفاع عن أنفسهم ضد محاولة أخرى يحسون بالخطر أمامها.

ولم يلتزم أديناور بأى شىء فوراً ولكنه قال إنه سيفكر فى الأمر ويبحثه مع زملائه . وطرح الموضوع بالفعل أمام الوزارة الألمانية ولكن هذا الاقتراح لم يرض أعضاء مجلس الوزراء الألماني .

وعندما قابل بن جوريون الرئيس أيزنهاور وطلب منه أن يؤيد إسرائيل في موضوع الحصول على السلاح من ألمانيا قال له الرئيس الأمريكى بأن القضية تستلزم بحثا مترويا دقيقا بسبب ما تنطوى عليه من مضاعفات محتملة.

وواصل الإسرائيلون الضغط على الألمان وظل أديناور يقاوم ويصد ضغطهم إلى أن قابل الرئيس كنيدى في نوفمبر ( تشرين الثاني) 1961.

وكان أديناور ينوى- قبل ذلك اللقاء- أن يثير مشكلة تزويد إسرائيل بالأسلحة نظراً إلى الضغط الساحق الذى كان قد بدأ يتعرض له من الإسرائيليين ولكن قبل أن يفتح أديناور الموضوع قاطعة الرئيس كنيدى وقال له إنه يعرف أن الإسرائيليين قد طلبوا منه السلاح وقال إنه بود الولايات المتحدة أن تعطيهم ما يريدون ولكنها لا تستطيع ذلك في الوقت الحاضر بسبب محاولته للتقرب من الرئيس عبد الناصر وروابط الولايات المتحدة مع الدول العربية الأخرى . وأضاف كنيدى بأنه سيكون شاكراً اذا عقد الألمان صفقة تزويد إسرائيل بالسلاح وجنبوا إدخال الولايات المتحدة فى الموضوع .

وبدأ أديناور يثير بعض الاعتراضات الضعيفة بقوله إنه يدرك مشكلة الإسرائيليين ولكن الألمان لهم أيضا روابطهم مع العالم العربي .

وعلم عبد الناصر بكل هذه التفاصيل فيما بعد عندما سمع بها جيرستنماير الذى أوفده- إيرهارد الى الرئيس عبد الناصر. وكان ماير- وقتذاك- رئيس البرلمان الألماني .

وروى ماير لعبد الناصر أن كنيدى أصدر عمليا الأمر لأديناور بأن يمد اسرائيل بالأسلحة.

وهكذا رتبت الصفقة وتقرر بموجبها أن تحصل اسرائيل على اعتماد بستين مليون دولار تستطيع بواسطته الشراء من أى مكان .

وكان من ببن الأسلحة الى اشترتها إسرائيل بذلك الاعتماد غواصتان بريطانيتان و 400 دبابة من طراز باتون و 200 حاملة جنود مصفحة و 72 مدفعا من عيار 105 ملم و 6 قوارب طوربيد وعدد من الطائرات الأمريكية المقاتلة النفاثة من طراز ف- 84 وعدد من الطائرات الإيطالية المقاتلة النفاثة من طراز ج 91 بالإضافة إلى طائرات نقل فرنسية من طراز "  نور اطلس " و 15 طائرة هليكوبتر.
واشترى الإسرائيليون كذلك 200 مدفع سريع الطلقات من عيار 40 ملم ( وهى مدافع يوجه الرادار بطارياتها).. بل إنهم حاولوا شراء دبابات من طراز ليوبارد (الفهد) وهى دبابات من طراز جديد كان الألمان قد بدأوا في  تطويره .

---------------------

وعلى كل حال- وبرغم احتياطات كنيدى وضماناته- فإن قصة هذه الصفقة بدأت تتسرب... و بدت فى الأفق دلاثل علاقة من نوع خاص بدأت تقوم ببن إسرائيل وألمانيا . فقد تعاقدت ألمانيا مع إسرائيل على شراء مدافع " أوزى " الرشاشة الإسرائيلية وعلى شراء ملابس للجيش الألمانى من إسرائيل .

وقد أثارت رشاشات أوزى الإسرائيلية فضيحة كبرى في اجتماع لمنظمة الوحدة الأفريقية حيث عرض بعض هذه الرشاشات رئيس حركة تحرير أنجولا...

وتبين أن هذه الرشاشات بيعت أولا إلى الألمان الذين قاموا ببيعها إلى البرتغاليين الذين استخدموها ضد حركة التحرير فى أنجولا...

وفي فضيحة أخرى تتعلق بأسلحة " أوزى " كذلك تعاقدت الحكومة السودانية مع الألمان على شراء رشاشات ألمانية وعندما وصلت شحنة الرشاشات الألمانية إلى الخرطوم تبين أنها رشاشات أوزى الإسرائيلية.

وهكذا بدا واضحا أن هناك شيئا ما يجرى .. وأن هناك علاقة مشبوهة بين ألمانيا و اسرائيل . وفى مستهل 1964 بدأ الملحق العسكرى المصرى فى بون يبعث بتقارير عن مدى التعاون بين ألمانيا وإسرائيل .

أما ذلك الملحق العسكرى فلم يكن سوى الفريق أول محمد أحمد صادق - نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية الحالى- وقد اكتشف معظم تفصيلات الصفقة السرية بين إسرائيل وألمانيا .

وقرأ الرئيس عبد الناصر تقاريره ، ولكنه كان متعجباً من أن الصفقة فى مثل الضخامة التى تتحدث عنها تقارير صادق .

ولكن الحقيقة فى الواقع كانت حتى أضخم من ذلك... لأن الأسلحة اشتريت بتزيلات هاثلة في الأسعار. فمثلا باع الأمريكيون دبابات " الباتون " بسعر بخس للغاية بحيث أن اعتماد الستين مليون دولار الذى فتحته ألمانيا لإسرائيل اشترى للإسرائيليين من الأسلحة ما يبلغ ضعنى أو ثلاثة أضعاف ما كان يمكن أن تشتريه بالأسعار العادية.



وبدأت الصفقة تصل إلى أسماع السفارات العربية الأخرى  فى بون وبدأت هـذه السفارات تبلغ حكوماتها بالأمر كما وصلت قصة الصفقة إلى مكتب الجامعة العربية فى بون وهكذا تقرر أن يعقد مجلس الجامعة العربية اجتماعا لبحث هذه التقارير.

ومع كل ذلك ظل عبد الناصرمترددا فى أن يأخذ هذه التقارير بحرفيتها، وكان يتصرف كما لو كان يكاد لا يريد أن يتصور إمكانية دقة هذه التقارير.

وربما كان هذا التردد هو السبب الذى جعل رد فعله بهذا العنف عندما أدرك فى النهاية حقيقة ما حدث وكان يشعر بشكل ما أنه أحسن الظن بأكز مما ينبغى ، ومن ثم فإن رد فعله إزاء تكشف الحقانق كاملة كان عنيفاً .

--------------------

بدأ الوضع يتدهور بسرعة مقلقة في نهاية 1964. فقد كانت الأسلحة تتدفق على إسرائيل نتيجة الصفقة المعقوة مع ألمانيا وبدأت الاحتجاجات العربية تتصاعد وتتعالى . وهكذا سارع إيرهارد- الذى كان قد خلف أديناور كمستشار لألمانيا الغربية- إلى إيفاد جيرستنماير لإيضاح الوضع لعبد الناصر .

ولكن الرئيس كان منهمكا في شئون أخرى . فقد كان خروشوف قد سقط وبدأ عبد الناصر يعيد دراسة سياسة مصر الخارجية بأسرها.

وعندما وصل ماير، لم يكن عبد الناصر قد قرأ بعد الملف الكامل لقضية الأسلحة الألمانية ولم يكن يدرك المدى الحقيقى الذى وصلت إليه الأسلحة وبالتالي فإنه لم يشدد على ماير إنما تحدث عن أخطار إمداد الإسرائيليين بالأسلحة وعن الإشاعات التى تناهت وتتناهى إليه، وعن اعتصامه بالتحفظ رغم ذلك .

وكان هناك عاملان يتحكمان فى موقفه : فقد كان عازفا عن إثارة أزمة مع ألمانيا فى وقت كان يعيد فيه تقييم سياسة مصر الخارجية، وكان يخشى أن بعض المعلومات التى كانت تصل إلى الجامعة العربية عن الأسلحة مبالغاً فيها..

وأقر ماير للرئيس بأن هناك صفقة أسلحة وصفها بأنها خطيئة... وقال إنها فرضت على ألمانيا، وأنها تجابه معارضة ضدها في ألمانيا.

وسأله عبد الناصر:

- ما الذى يدفعكم لقبول الابتزاز الإسرائيلى وتهديدهم لكم؟ "

وكنت قد اجتمعت إلى ماير قبل مقابلته للرئيس وحنرته من أنه سيواجه وقتا عصيبا ولذا كان مستعدا لرؤية الرئيس غاضبا كل الغضب على ألمانيا...

ولكنه بعد المقابلة وفى حفلة غذاء فى بيت السفير الألماني حضرها الرئيس السادات- وكان وقتذاك رئيس مجلس الأمة- وحضرتها أنا ، كان انطباع ماير أنه تلقى من التوبيخ أقل مما يتوقع وهكذا عاد إلى بون وهو يشعر بأنه يمكن حصر القضية كلها.

إلا أنه سرعان ما خاب ظنه. ذلك أن الرئيس عبد الناصر كان قد طلب الملف الكامل لصفقة الأسلحة الألمانية ولم يتسع له الوقت لمطالعته قبل وصول ماير فلما اتسع وقته لدراسته، بعد يومين أو ثلائة حتى عودة ماير إلى بون، انفجر المرجل... فاستدعى الرئيس السفير والملحق العسكرى المصرى من بون واستمع بضيق متصاعد إلى روايتهما له عن القوة العسكرية التى تحقن بها ألمانيا الغربية إسرائيل . وفى تلك اللحظة بالضبط  دخل إلى القصة عنصر جديد كليا كورقة جوكر ألقيت على ماثدة القمار...

فقد كتب الهر فالتر أولبريشت- زعيم ألمانيا الشرقية- يبلغ عبد الناصر  فى رسالة ودية جداً أنه مريض وأن أطباءه قد أشاروا عليه بالذهاب الى بلد دافىء للاستشفاء وأن بعض أطبائه ذكر أسوان باعتبارها أكثر ما يلائمه مناخا.

وتساءل أولبريشت إذا كان بوسعه أن يأتى إلى مصر ويقضى بضعة أيام فى اسوان ؟

فى ذلك الحين كانت العلاقات بين مصر وألمانيا على المستوى القنصلى فلم تكن مصر قد اعترفت بعد بألمانيا الشرقية كدولة مستقلة وكان ذلك لأن عبد الناصر كان يرغب في أن برى ألمانيا تتحد من جديد، وكان يعتقد أن مثل هذا الاعتراف ليس من شأنه أن يساعد على ذلك بل إنه قد يؤكد بذلك وجود دولتين ألمانيتبن .

وبغض النظر عن ذلك كله، فكيف كان يسعه أن يرفض طلب صديق يريد قضاء عطلة لبضعة أيام في شمس مصر الدافئة ؟

وهكذا كتب إلى أولبريشت موافقا على زيارته.

وقد قيل دائما فى ألمانيا الغربية إن دعوة عبد الناصر لأولبريشت إلى مصر كانت بمثابة تأنيب متعمد لألمانيا الغربية كما كانت ردا محسوبا بدقة على صفقة الأسلحة التى عقدتها بون مع إسرائيل .

ولكن الأمر لم يكن كذلك إطلاقا.. فقد كانت المبادأة من طرف أولبريشت وحده وكانت الغاية منها محض طبية ولم تكن سياسية.

وعلى كل حال فقد كتب لتلك البداية البريئة أن تتمخض عن أزمة كبرى .

فقد كتب أولبريشت رداً قال فيه انه يود أن يأتى إلى مصر فى فبراير (شباط) إذا كان ذلك يوافق الرئيس. ووافق الرئيس ، ووضعت ترتيبات الزيارة ، ومن ثم نشر في صحف ألمانيا الشرقية خبر صغير مفاده أن أولبريشت سيقضى عطلة في مصر.. وهنا قامت قيامة الألمان الغربيين .

فقد اتهموا عبد الناصر بأنه لم يدع أولبريشت إلا بسبب استيائه من صفقة الأسلحة..

وكالعادة رد عبد الناصر.

ورد الضربة للألمان الغرببين بتغييره زيارة أولبريشت من زيارة غير رسمية للاستشفاء إلى زيارة رسمية.

------------------------

واتسمت سلسلة الأحداث التى تلت ذلك بلمسة قدرية حتمية لافرار منها.

فقد كتب أولبريشت إلى عبد الناصر فى 27 يناير (كانون الثاني) يشكره على دعوته التى كان خبرها قد نشر الآن رسميا.

وفى اليوم التالى استدعى إيرهارد مجلس وزرائه إلى اجتماع خاص أصدر فيه بيانا بإبداء الأسف على الزيارة واستنكارها وعقدت فى مختلف أرجاء ألمانيا الغربية اجتماعات سياسية لمناقشة هذه الزيارة  فقد كانت هذه أولى زيارة يقوم بها أولبريشت خارج الكتلة الشرقية . وكانت تستهدف الشرق الأوسط الذى كان يشهد الكثير من الأحداث . ومن ثم فقد ساد الاعتقاد بأن هذه الزيارة ستكون لها عواقب خطيرة للغاية.

وبدأ إيرهارد يبعث برسائل شفهية إلى عبد الناصر يبلغه فيها أنه كان مجبرا على إثارة الضجيج بشأن القضية. كما أنه أبلغ الرئيس المصرى في رسالة أخرى أنه قال للرئيس جونسون بعد عودة جيرستنماير من القاهرة إنه يريد وقف صفقة الأسلحة مع إسرائيل ولكن جونسون أجبره على الاستمرار فيها قائلا أن إسراثيل ستواجه أخطارأ شديدة إذا توقفت ألمانيا في منتصف طريق ولم تنه الصفقة .

وكان السفير الألماني في القاهرة  قد استدعى إلى بون لإجراء مشاورات مع حكومته- حتى أنه اشترك فى أحد الاجتماعات الوزارية. ووزع تقريره على جميع زعماء أحزاب الائتلاف الذى يشكل الوزارة- وقد قال السفير للرئيس عبد الناصر:

" يا سيادة الرئيس.. نحن لسنا مثلكم .. أنتم أمة مستقلة أما ألمانيا فليست مستقلة " ورفض عبد الناصر أن يسمع هذا الكلام وقال :

" مع كل طاقتكم الاقتصادية تأتون إلينا نحن الأمة النامية وتقولون إنكم غير مستقلين؟ إننا نحاول أن نقترض الأموال منكم ونحاول الحصول على المهارات الفنية من عندكم  ثم تأتي مع ذلك وتبلغنى أنكم غير مستقلين؟... هذه حجة لن أقبل ولن أسلم بها " . وكان هذا الغضب من جانبه جزءاً من رد فعله بسبب تأخره في الانفعال بالتقارير التي تتحدث عن مساعدات ألمانيا الغربية لإسرائيل فقد شعر بأنه قد خدع . وقال مبررا انفعاله: إنه من ناحية المنطق  فلم يكن هناك أى سبب على الإطلاق يدعو الألمان إلى مساعدة الإسرائيليين وإن تأخره  فى رد الفعل هو مثال تقليدى على خطأ الاعتماد على المنطق فى السياسة ".

وعندما بلغت الأمور هذه المرحلة من التأزم أخذ الألمان يتطلعون تواقين إلى مخرج من الأزمة التى تردت فى دركها علاقاتهم مع العالم العربي .

وكانت أزمة ذات رأسين : الأسلحة وأولبريشت. فالمصريون كانوا يكرهون أن يروا الأسلحة الألمانية فى إسرائيل ، والألمان كانوا يكرهون أن يروا أولبريشت فى مصر..

وبالرغم أنه من الصعب أن يوصف ألمانى بأنه كان ، " يهرول " فإنه يمكن القول فعلا إن الديبلوماسيين الألمان كانوا يهرولون حيرى فى مختلف أرجاء العالم باحثين عن مخرج من مأزقهم مع مصر .

وكان إيرهارد يبحث عن وسيط فوجد الجنرال فرانكو.. وكان ذلك لأن فرانكو لم يعترف قط بإسرائيل .

ووافق فرانكو على القيام بالوساطة وأوفد  رسولا إلى عبد الناصر يحمل خطة لتسوية النزاع .

وبموجب تلك التسوية قال الألمان إنهم مستعدون لأن يصرحوا علنا بأن الصفقة قد انتهت . ولكن لما كان قد بقي من الاعتماد المفتوح لإسرائيل مبلغ من المال فقد اقترحوا أن يسلموه إلى الإسرائيليين ليفعلوا به ما يشاءون .

----------------

ولما أصدر عبد الناصر أوامره بإعلان شروط هذه التسوية فى مجلس الأمة جاء دور الإسرائيليين ليستشيطوا غضبا.

وهكذا اتهموا إيرهارد بأنه زحف على ركبتيه أمام عبد الناصر. أما إيرهارد الذى كان يرغب  فى أن يجسم أمام أنظار العالم العربى أنه أوقف صفقة السلاح ، فقد استدعى رئيس لجنة الشراء الإسرائيلية في بون لمقابلته وأبلغه النبأ شخصياً .

واجتمعت الحكومة الإسرائيلية وأعلنت أنها تعتبر أنها قد دخلت فى تعاقد ملزم مع ألمانيا وبالتالى فيتحتم على ألمانيا أن تطبقه وتنفذه كله..

ولكن بعد يوم واحد من إعلان التسوية عاد الرسول الأسباني لمقابلة عبد الناصر وقال له إن إبرهارد يريد إلغاء زيارة أولبريشت لمصر.

ورد عبد الناصر:

" كيف يمكننى ذلك؟.. يريدوننى أن ألغى زيارة أولبريشت لأنها تسيؤهم ولكنهم في الوقت ذاته يمدون الإسرائيليين بالأسلحة التى سيستخدمونها لقتلنا ... إننى أريد أن أضايقهم ولكن المقارنة غير واردة  بين ما فعلوه بنا وما فعلناه بهم ردا عليهم ... ليس هذا من الإنصاف فى شىء... أنأ أضايقهم فقط وهم يقتلوننا...".

على أن إيرهارد ظل يلح على عبد الناصر لإلغاء الزيارة وارتكب بذلك خطأ جسيما... و دعا عبد الناصر إلى زيارة بون وقال السفير الألماني للرئيس عندما كان يوجه إليه الدعوة أن بون تتوقع زيارة الملكة اليزابيث فى الربيع وأنه مما يسر ألمانيا كل السرور أن تفرش البساط الأحمر لعبد الناصر قبل أن تفرشه للملكة اليزابيث.

ولكن هذا التملق كان كريها على قلب عبد الناصر فأجاب:

" اننى لا يساورني أى اهتمام بالسير على البساط الأحمر قبل الملكة اليزاييت فأنا لا أتنافس معها ".
ورفض عبد الناصر أن يزور بون وقال إنه من الخطأ أن تعطى ألمانيا بقية المبلغ الذى لم ينفق على السلاح، كما رفض إلغاء زيارة أولبريشت.

وفى أثناء ذلك كان أولبريشت قد بدأ يجنى بعض الثمار السياسية من الوضع . فوقف فى برلمان ألمانيا الشرقية وقال ان دعوته إلى القاهرة هى شرف كبير له بل إنها أكبر تكريم لقيه في حياته. وناشد في بيانه ايرهارد بأن يحافظ على كرامة الشعب الألمانى ويوقف الصفقة الألمانية المعقودة مع إسرائيل ..



عند ذلك دب الرعب فى قلب إيرهارد من أن تؤدى زيارة أولبريشت إلى اعتراف مصر بألمانيا الشرقية وإلى اقتداء بقية دول العالم العربي بمصر فى ذلك . وهكذا حاول أن يفعل شيئين : أولا: العمل على إلغاء الزيارة  وثانيا : عزل مصر عن بقية العالم العربي .

وفي سياق ذلك أرسل ايرهارد خطابا إلى بن بيللا يقول فيه إنه يرجو منه أن لايقتدى بالقاهرة إذا قرر عبد الناصر الاعتراف بألمانيا الشرقية. وقال ان المانيا الغربية تمد القاهرة بالمساعدة وأنه سيأمر بوقف هذه المساعدة وتحويلها إلى الجزائر فى حالة ما إذا أقدم عبد الناصر على الاعتراف بألمانيا الشرقية .

ورد بن بيللا قائلا للسفير الألماني إنه يعتبر ذلك رشوة لا يمكنه قبولها .

ثم أرسل برقية إلى عبد الناصر ينبئه فيها بعرض إيرهارد .

كان عبد الناصر فى أسوان عندما تلقى البرقية فنهض على قدميه وتلاها فى  خطبة علنية معلقا عليها بقوله: " هذه رشوة رخيصة ".

وبدأ إيرهارد المسكين يتعثر، وكان كل شيء ينفجر فى وجهه كلما تحرك كأنما كان يسير عبر حقل مزروع بالألغام .فقد أغضب الجميع . أغضب المصريين والجزائريين وأغضب الإسرائيليين .

أما أولبريشت فقد استثمر الوضع استثمارا كليا وأبحر الى الإسكندرية على ظهر باخرة تدعى " الصداقة بين الأمم " .

وقد تلقيت ذات يوم برقية من السفينة تسألنى اذا كانت " الاهرام " مهتمة بعقد حديث صحفي مع أولبريشت فأبرقت موافقا قائلا إننا سنكون مستعدين  لذلك عندما يصل .  ولكنني فى أصيل ذلك اليوم بالذات تلقيت من السفينة برقية تحتوى على زهاء عشرين سؤالا طرحها أولبريشت على نفسه وأجاب عليها .

وبالطبع هاجم بون فى أجوبته.

وأصبت بشىء من الحيرة بصدد حديث أولبريشت ذلك أننا لم نكن نحن الذين طرحنا الاسئلة فاتصلت بالرئيس عبد الناصر وأبلغته بأننى تلقيت هدية لم أنتظرها وإن كانت هدية مقبولة بكل ترحيب.. فقال لى الرئيس : " إمض في طريقك وانشر الحديث ".

وبدأ الهياج يعترى إيرهارد فطلب إلى الرئيس جونسون أن يقوم بتهدئة الإسرائيليين ، فأوفد جونسون أفريل هاريمان فى هذه المهمة، بينما بعث ايرهارد بموفدين إلى الأردن وبغداد والجزائر .

وبدأ الوقت يخرج من يد الجميع فعلا ويصبح صعب السيطرة عليه.

وحتى يوم وصول الباخرة " الصداقة بين الأمم " إلى الإسكندرية كان إيرهارد لا يزال يناشد عبد الناصر بأن يلغى زيارة أولبريشت .

وكان التركيز فى هذه الرسالة الأخيرة ينطوى على التهديد بأن الحكومة الألمانية ستقطع العلاقات الديبلوماسية مع مصر فى اللحظة التى يطأ فيها أولبريشت الأرض المصرية.. ولكن حتى هذا التهديد لم يردع عبد الناصر. وقد رد قائل ا: إنه بات من المقرر أن يستقبل أولبريشت فى محطة القاهرة فى صباح  اليوم التالى وهكذا " كيف يسعنى أن ألغى الزيارة ؟ "

وتم اللقاء بين أولبريشت وعبد الناصر في 24 فبراير (شباط) 1965 وقبل أولبريشت عبد الناصر وقال له: " جئت إلى بلادكم كرفيق سلاح "

وفي تلك الليلة وقف أولبريشت فى حفلة عشاء رسمية وقال إنه يتحدث باسم " كل الصداقة التقليدية بين العالم العربى والشعب الألماني " .

---------------------

على أن عبد الناصر ظل مع ذلك تواقا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه فى صعيد العلاقات المتردية مع إيرهارد. فحاول أن يكون حذرا وقال فى خطابه : " إن سياستنا تقوم على أن لا نفعل مامن شأنه تعميق تجزئة ألمانيا وتهديد احتمالات - وسوانح- إعادة توحيدها ".

وكان ذلك تأكيدا جديدا وواضحا لموقف مصر حيال ألمانيا.

كانت جعبة الألمان الشرقيين مليئة بالوعود والنوايا الطيبة. فوعدوا بجميع أنواع المساعدة .. على طريقة أطلب تجب... وحدة طبية هنا... مصنع هناك... عقود للجميع .. كانوا فى حالة سخاء بالغ .

واجتمع مجلس وزراء ألمانيا الغربية مرتين ليقرر إذا كان سيقطع العلاقات الديبلوماسية مع مصر.. عندئذ وقع الانقسام بين وزير الخارجية الألماني شرويدر والمستشار ايرهارد ولم يستطع مجلس الوزراء أن يتخذ- فى اليوم الأول – قراراً حاسماً ... فقد كان ايرهارد متردداً وكان في مأزق حرج ... ثم خرج من تردده واعلن إثر الاجتماع الوزاري الثاني أن ألمانيا لن تقطع علاقاتها الديبلوماسية مع مصر ولكنها ستجعل نمط علاقاتها مع اسرائيل طبيعيا عاديا . 

وهكذا بدأت تتكشف نواجذ أزمة جديدة...  ويبدو أن تلك الأزمات كانت من النوع الذى يتوالد فكانت الأزمة تتمخض عن أزمة... وكانت كل أزمة جديدة أسوأ من سابقتها.

ومع ذلك كان من اليسير- وقف تيارات الأزمات.. صحيح أن أولبريشت قد وصل ولكن عبد الناصر أعاد من جديد تأكيد سياسته بدعم هدف اعادة توحيد ألمانيا- الهدف العزيز على قلوب الألمان الغرببين - . كما أن إيرهارد قرر عدم قطع العلاقات الديبلوماسية مع مصر.

وكان من الممكن وقف الأزمة عند ذلك الحد .

ولكن إيرهارد كان من الحرص على صيانة ماء وجهه بحيث قرر أن يعاقب مصر بالاعتراف بإسرائيل .. وهكذا داس على لغم آخر.

دعيت الجامعة العربية للرد على إجراء إيرهارد فأوصى ممثلو ملوك ورؤساء جمهوريات الدول العربية بالإجراءات الثلاثة التالية :

1-  سحب جميع السفراء العرب من بون .

2- قطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا الغربية.

3- مؤازرة مصر اقتصاديا إذا نقض إيرهارد عقود المساعدات المعقودة معها .

أما الرئيس عبد الناصر فقد أضاف على ذلك قوله إن مصر لن تراعى توصيات الجامعة العربية إذا مضت بون فى خطتها بالاعتراف بإسرائيل فحسب وإنما سوف تعترف كذلك بألمانيا الشرقية وتصادر جميع المدارس ورءوس الأموال الالمانية في مصر وتضعها تحت الحراسة القضائية .

أما الإسرائيليون فإنهم- بدافع من خشيتهم من أن يتراجع - إيرهارد فى وجه التصميم العربي - ردوا في اليوم نفسه معلنين أنهم لن يقبلوا بإقامة علاقات " عادية " مع ألمانيا الغربية ما لم :

1-  تفعل ألمانيا كل ما فى طاقتها لسحب جميع العلماء الألمان العاملين فى مصر.

2- يتخذ السفير الألماني - القدس- وليس تل أبيب- مقرا لسفارته .

3- يتم تمديد موعد انتهاء محاكمة النازيين الذى كان يقترب من نهايته.

والواقع أن العلماء الألمان العاملين فى مصر لم يكونوا على مثل تلك الأهمية التي صورهم بها الإسرائيليون .. بل كانوا قد بدأوا يغادرون مصر تحت وطأة التهديد بالاغتيال بواسطة الطرود المتفجرة الإسرائيلية وبالتالى فإن الضجة التى زعمت بأن النازيين يعملون لمصلحة مصركانت من قبيل السخف والهراء .. ذلك أنه لم يكن هناك سوى ضابط سابق ألمانى من فرقة الصاعقة النازية كان يعمل فى مصروكان يدعي ولفجانج لوتز وقد تبين أنه جاسوس إسرائيلى يعمل تحت ستار أنه تاجر خيول فاعتقل وسجن ولما تبادلت مصر و اسرائيل الأسرى بعد سنة 1967 كان اسم لوتز يتصدر القائمة الإسرائيلية بأسماء المطلوب تبادلهم...

وكثر الأخذ والرد بين بون وإسرائيل بعد أن تقدم الإسرائيليون بمطالبهم ولكن طبيعة عملية المفاوضات بين الطرفين لم تتضح أطلاقا ثم ما لبث الإسرائيليون أن أعلنوا في 14 مارس ( آذار) عن أنهم يقبلون عرض إيرهارد بإقامة علاقات عادية " بعد تلقيهم الإيضاحات اللازمة " .

واعتبر هذا البيان فى القاهرة وغيرها من العواصم العربية بمثابة استسلام الماني لاسرائيل .

وهكذا فإن وزراء خارجية الدول العربية قبلوا في اليوم ذاته  بتوصيات ممثلى الرؤساء العرب ، وقد أقرت عشر دول عربية تلك التوصيات كليا بينما تحفظت ثلاث دول هى تونس وليبيا والمغرب وقررت عدم قطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا .

------------------

في 20 مارس (آذار) أعد جمال منصور- السفير المصرى فى بون- ثقريراً للرئيس عبد الناصرعن كل ما دار. قال فيه إنه كان معروفا- بما لايقبل الشك فى أكتوبر ( تشرين الأول) الماضى- أن صفقة أسلحة قد عقدت بين ألمانيا وإسرائيل وأنه عندما أثار الموضوع قيل له إنها صفقة عقدت بين أديناور وبن جوريون فى نيويورك سنة 1960 دون معرفة " البوندستاج " ( مجلس النواب) وأن الحكومة الألمانية أوقفت تنفيذ الصفقة ألى أن أقرها الرئيس كنيدى ودعمها فى سنة 1961.

وقال جمال منصور:

" قال لى وزير الخارجية شرويدر إنه حاول عند استلام مهام منصبه أن يقنع الوزارة بضرورة وقف الصفقة. ولكنه- لسوء الحظ . أخفق فى إقناعها، وكان السبب الرئيسى فى ذلك يرجع إلى أن واشنطن كانت تلح على المضى فى تنفيذ الصفقة.

" وبعد ذك أنبأني جيرستنماير أن الرأى السائد فى البوندستاج ضد تصدير الأسلحة إلى مناطق التوتر وأنه يعارض- شخصيا- عمليات تصدير كهذه.." 

وكان ماير قد عاد إلى بون- بعد زيارة قام بها إلى الرئيس عبد الناصر- وكان يعتقد إنه من الممكن حصر الأزمة.. واندفع مفعما بالحماسة يقابل شرويدر ويحاول استصدار قانون  بحظر تصدير الأسلحة إلى مناطق التوتر..

ولكنه أخفق .

" وكانت وجهة نظر الوزارة الألمانية أنها ستنفذ هذه الصفقة بسبب من الضغط من واشنطن ولكها لن تعقد صفقة أخرى .. "

وأتى منصور فى تقريره على ذكر دعوة أولبريشت والانقسام الذى طرأ على الحكومة الألمانية بسببها وقال: " كانت هنالك ثلاثة اتجاهات ، الأول يمثله شرويدر وفون هاسل ويقوم على ضرورة عدم تسرع ألمانيا الغربية فى اتخاذ تدابير اقتصادية أو ديبلوماسية ضد مصر، انما يجب أن تحاول وقف المساعدة العسكرية لإسرائيل ويجب أن تحاول التوصل إلى تفاهم مع الدول العربية. ذلك أن أية تدابير شديدة ضد مصر من شأنها أن تؤدى إلى حلول ألمانيا الشرقية مكان ألمانيا الغربية فى الدول العربية.

" أما الاتجاه الثانى فينتمى إليه فريق شتراوس بالإضافة إلى الموالين لأ ديناور فينادى بقطع كل المساعدة الاقتصادية عن الجمهورية العربية المتحدة فى اللحظة التي يطأ فيها أولبريشت الأرض المصرية.

كانت حجتهم فى ذلك أن هذا الإجراء لن يكون بمثابة إنذار إلى الدول العربية فحسب إنما كذلك إلى الدول الإفريقية والآسيوبة التى قد تحاول إقامة علاقات مع ألمانيا الشرقية.

" ويطالب أصحاب هذا الاتجاه كذلك بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الجمهورية العربية المتحدة بدعوى أن زيارة أولبريشت تؤلف خرقا لمبدأ هالشتاين .

" أما الاتجاه الثالث الذى يستمد أسسه من خارج الوزارة- فيدعمه شتراوس وأديناور- المتورطان شخصيا فى صفقة الاسلحة "- وينادى أصحاب هذا الاتجاه بالمضى فى صفقة الأسلحة وإنشاء علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل وإمداد الإسرائيليين بعون عسكرى واقتصادى بغير حدود...

وعندما وجه إيرهارد إنذاره إلى الجمهورية العربية المتحدة بشأن زيارة أولبريشت اتصل أديناور تليفونيا بايرهارد وانتقد المسلك الذى اتبعه طوال الأزمة وقال له إنه ليس له أن يهدد بقطع العلاقات الديبلوماسية فى اللحظة التى يطأ فيها أولبريشت أرض مصر إنما كان عليه أن يعترف بإسرائيل ويعلن بأنه سيمد الاسرائيليين بالأسلحة والعون الاقتصادى " .

وطبقا لرواية الوزير الألماني ، الذى أنبأ جمال منصور بقصة مكالمة أديناور التليفونية، فإن إيرهارد تضايق من أديناور لأنه ظن أنه وقع في شباك حاكها له أديناور شخصيا. وقال أحد الوزراء الألمان لجمال منصور:

" هل تعرف..؟ إننا نجابه مشكلة هنا. فالعلاقات بين أديناور وإيرهارد تشبه تماما العلاقة بين تشرشل- وإيدن بكل تعقيداتها " ..

-------------------

في التاسع من مايو ( آيار) وجه إيرهارد رسالة الى عبد الناصر أوضح فيها أن القطيعة بين ألمانيا والعالم العربى باتت محتومة لا يمكن تفاديها.

وكتب يقول : " يؤسفنى- عميق الأسف- أن تكون العلاقات الودية العريقة بين بلدينا قد تردت مؤخرا. على أننى لا أريد الخوض فى سبب هذا التدهور الآن فأنا أخط هذه الرسالة موجها نظرى إلى المستقبل مدفوعا بنية مخلصة للحيلولة- برغم كل ما حدث- دون وقوع قطيعة لا يمكن تلافى آثارها..
" فى غضون أسابيع قليلة سيتم تبادل السفراء بين جمهورية ألمانيا الائحادية وإسرائيل . ذلك بالاستناد إلى قرار اتخذته الحكومة الألمانية بعد دراسة مستفيضة أن 78 دولة من دول العالم الغربى والعالم الشرقى وعالم عدم الانحياز تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل ، ومنها دول عدة تمتعت دائما بعلاقات ودية مع الدول العربية. إن الرأى العام في بلادى وفى كثير من الدول الأخرى قد تساءل مرارا وتكرارا عن السبب الذي يدعو جمهورية ألمانيا الاتحادية إلى الإحجام عن إقامة علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل . وقد طرح هذا السؤال بإلحاح شديد لأن الألمان- كما تعلمون- قد أوقعوا- فى الماضى- باليهود الكثيروالشديد من البلاء .

" إن إقامة العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل تمكننا من تسيير سياستنا فى الشرق الأوسط فى مجراها الطبيعى . وهى ليست بأى حال موجهة ضد أى دولة عربية. وإننا على اقتناع  متين بأن الشروط المتفق عليها في هذا الصدد لا تؤلف بأى شكل انتهاكا للمصالح العربية.

" أما الالتزامات السابقة بشأن تزويد إسرائيل بالأسلحة فلن تنفذ بعد الآن . وستستبدل هذه الالتزامات بالتزامات تعويضية ولن تنص الاتفاقات الجديدة الى ستعقد مع إسرائيل على تزويدها بأي  سلاح .

" ويؤسفنى أن يكون عدد من الدول العربية قد قرر اتخاذ تدابير ضد ألمانيا بسبب من إقامة علاقات ديبلوماسية بين جمهورية ألمانيا الأتحادية وإسرائيل . ولا أستطيع التسليم بأن هذا القرار له ما يبرره ذلك أن ألمانيا- بتبادلها السفراء مع إسرائيل- تتخذ خطوة سبق أن اتخذتها دول عديدة أخرى دون أن تتخذ الدول العربية شيئا بصددها.

" ومهما كان من شأن ما ستقررون فعله بشأن العلاقات بين بلدينا فإننى يجب أن ألفت اهتمامكم إلى النقطة التالية وهى : إذا أقامت الجمهورية العربية المتحدة علاقات ديبلوماسية مع ما تسمى بجمهورية ألمانيا الديموقراطية فإننى لا أستطيع أن أرى سبيلا تستطيع به أنت ، أو أستطيع أنا، الحيلولة دون أن تنقطع إلى أجل غير مسمى روابط الصداقة بين الشعب الألمانى وشعب الجمهورية العربية المتحدة  التى يتحمل عنها كل منا مسئوليتها التاريخية.

" وأود أن تتقبل أقوالى هذه باعتبارها كلام رجل مسه ما حدث مسا عميقا ولكنه مع ذلك لن يكف- ما دام ذلك ممكنا- عن العمل فى سبيل الصداقة العربية الألمانية .

" وتفضل يا سيادة الرئيس بقبول أسمى تقديرى. "

كان إيرهارد يريد أن يضرب عصفورين بحجر واحد.. كان يريد الأعتراف بإسرائيل ولكنه ما كان يريد أن يتم الاعتراف بألمانيا الشرقية.

ورد الرئيس عبد الناصر على هذا الكتاب فى 23 مايو ( آيار) مشيرأ إلى الصداقة التقليدية بين ألمانيا والعرب قائلا إنه يعتقد أن الشعب الألمانى كان ضحية التعذيب النازى وليس خالقه . ومضى يقول : " إذا كان الشعب الألماني يشعر بمسئوليته عما حدث لليهود فى العهد النازى ، ففى اعتقادى أنه على الشعب الألمانى أن يشعر بأزمة ضمير تجاه الشعوب العربية لأن العنصرية الصهيونية استغلت نكبة اليهود في عهد ألمانيا الهتلرية من أجل أن تنفذ مؤامرة ضد الأمة العربية باقتطاعها شطرا من أراضيها لإقامة وطن قومي لليهود عليه.

" ويبدو لى أننا- والحالة هذه- ندفع ضريبة الدم لألمانيا حتى نغسل لها ضميرها ..

" لقد كانت التعويضات التى دفعها الشعب الألمانى إلى إسرائيل عونا كبيرا للصهيونيين  فى عدوانهم ولست فى حاجة إلى تذكيرك بما فعلوا بواسطة القوة الى اكتسبوها من هذه التعويضات .

" لقد أصيبت الأمة العربية بصدمة رهيبة حينما علمت بأمر صفقة السلاح السرية بين ألمانيا وإسرائيل. وكانت حقيقة أن ألمانيا قد قررت التعويض على إسرائيل بالأسلحة الهجومية العدوانية صدمة عميقة ومضنية لنا. ولا أجد من الكلمات ما يكفى لأصف لك ما شعرت به وما شعر به كل إنسان عندما أدركنا أبعاد هذه العملية..

" بل لقد أصبحنا أكئر انزعاجا عندما سمعنا بأن هذه الصفقة هى جزء من علاقة خاصة بين بون وتل أبيب " .

ومضى الرئيس يقول : " لقد حاولنا أن نجعلكم تفهمون ولكننا جوبهنا بأنباء لم نفهمها، وعندما حاولنا تلطيف الأزمة كنا نفعل ذلك بدافع الرغبة فى الإبقاء  على صداقتنا التقليدية مع الشعب الألماني .. وكان من الممكن وقف تدهور الوضع لو أن حكومة ألمانيا الغربية أعلنت فقط عن أنها مستعدة لوقف هبات الأسلحة للإسرائيليين . أما ما حدث بعد ذلك، فهو فى رأيى انهيار فى أجهزة اتخاذ القرار لم نستطيع له فهما.

" إنه لمن  المؤسف أن تكون جمهورية ألمانيا الاتحادية قد قررت في ذلك الحين- وفى ذلك الجو المتوتر- أن تنشيء علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل . فقد كان قرارها هذا يعنى أنه جزء من عملية كبرى لتحدى الأمة العربية.

" وبصدد علاقاتنا مع ألمانيا الشرقية دعنى أنبثك، أخيرا- أن الجمهورية العربية المتحدة تقدم مبادئها على كل شئ آخر ولا تقبل بأى ضغط .. "

لم يترك هذا التبادل من مجال للمناورة . ففى اليوم الذى رد فيه عبد الناصرعلى إيرهارد بدأت الدول العربية- الواحدة تلو الأخرى- باستدعاء سفرائها من بون وبقطع علاقاتها الديبلوماسية مع ألمانيا الغربية.

ومرة أخرى شهد الشرق الأوسط هجرة ورحيل ممثلى دولة غربية من الأقطار العربية... فعاد إلى بون عشرة سفراء ألمان مع موظفيهم وقد أنهيت مهماتهم وأغلقت سفاراتهم...

وفى بادئ الأمر وعندما بحثت الجامعة العربية في أمر ما ستتخذه من تدابير إزاء ألمانيا الغربية اقترح عبد الناصر على الدول العربية أن لاتقطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا الغربية إنما أن ترد عليها بالاعتراف بألمانيا الشرقية وهكذا تجبر الألمان الغربيين على تنفيذ مبدأ هالشتاين وقطع العلاقات مع الدول العربية. وكان رأيه هو أن الدول العربية من الكثرة بحيث أن مثل هذا الإجراء سيخلق تحديا جديا وخطيرا لإيرهارد ولمبدأ هالشتاين..

غير أن السعوديين قالوا إنه لن يكون في وسعهم- لأسباب تقليدية- أن يعترفوا بحكومة شيوعية.

وعندئذ تبنت دول عربية أخرى وجوب قطع العلاقات الديبلوماسبة مع ألمانيا الغربية ولم يتقرر اعتماد هذا الإجراء إلا لأن السعوديين وقفوا فى طريق اقتراح عبد الناصر.

وبعد ذلك أرجأ الرئيس عبد الناصر الاعتراف بألمانيا الشرقية لأنه أراد الحفاظ  على وحدة العمل بين الدول العربية العشرة. ولم يشأ أن يفسد هذه الوحدة بالتصرف انفراديا وهكذا أجل قرار الاعتراف بالمانيا الشرقية زمنا طويلا من أجل وحدة العمل العربي .

وأعتقد أن ما قضى فى النهاية على إيرهارد وأنهى حياته السياسية- كمستشارلألمانيا الغربية-كان يكمن في التردد الذى بدا عنه فى هذه الأزمة، وفى طريقة اتخاذ القرارات التى كان يقوم بها ويسحبها على طريقة الكر والفر، وفى عجزه عن معالجة الموقف .. فقد ووجه بتحد كبير وأثبت أنه عاجز تماما عن معالجة ذلك التحدى .

أما هذه الأزمة، بل هذه المواجهة التى لم تكن ألمانيا أو مصر راغبة فيها ، والتى تمتد جذورها إلى التزام الرئيس كنيدى بتسلح إسرائيل، فقد كان لها إثر بعيد المدى .

ذلك أن أسرائيل اضطرت- بعد أن أوصد في وجهها باب  ألمانيا كصدر للسلاح- أن تتحول إلى  الولايات  المتحدة التى أصبحت في عهد جونسون : المصدر العلني لقوة إسرائيل العسكرية.

واضطرت الولايات المتحدة فى النهاية إلى الكشف عن وجهها الحقيقي . !
 
عبد الناصر وجيفارا
الحلم... والثورة ..
 
عندما دخل فيدل كاسترو على رأس رجاله الظافرين هافانا، وقد امتشقوا بنادقهم وأحزمة رصاصهم مطلقين لحاهم الكثيفة مال الرئيس عبد الناصر إلى اعتبارهم. جماعة من المغامرين على الطريقة السينمائية التي كان يقوم بأدوارها إيرول فلين وأمثاله من أبطال أفلام المغامرات المثيرة ، ولينس ثوارا حقيقيين وربما ساعد على هذا الانطباع أن الممثل ايرول فلين نفسه كان مع الموكب الغريب الذي  دخل كاسترو به إلى هافانا.


ولم يول- عبد الناصر حركة كاسترو الكثير من الاهتمام لأن الزعيم الكوبي كان يلقى كثيرا من التأييد الأمريكى في ذلك الحين . ومع أن عبد الناصر كان يرى أن أمريكا اللاتينية كانت ناضجة للثورة، فلم يكن يعتقد أنه يمكن أن ينجح أى تغيير هناك دون موافقة أمريكا . فقد كان شديد الإحساس واليقظة للطريقة التى قلبت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نظام الرئيس أربينيز فى جواتيمالا، وكان إحساسه هذا من العمق بحيث لم يكن يساوره أى شك في حقيقة بطش الولايات المتحدة وسلطانها على تلك المنطقة.

وقد كان شكه في تأييد أمريكا لحركة كاسترو، وارتيابه فى نزعة كاسترو المسرحية- فضلا عن انهماكه فى أحداث الشرق الأوسط- هو الذى دفع عبد الناصر إلى العزوف عن التورط مع كاسترو وأتباعه أصحاب الذقون الطويلة والأحذية الثقيلة.

ولم يكن هناك أى اتصال حقيقى بين الحركتين حتى يونيو ( حزيران) 1959 عندما وصل تشى جيفارا إلى القاهرة في زيارة لمدة خمسة عشر يوما لدراسة تجربة الإصلاح الزراعى في مصر .

وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها عبد الناصر وتشى جيفارا.

في هذا اللقاء الأول، روى تشى لعبد الناصر إنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب  والنكسات-وهو يقود حرب العصابات في قمم التلال الكوبية في سنة 1956 -- كان يستمد كثيرا من الشجاعة من الطريقة التى صمدت بها مصر للعدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسى- الإسرائيلى .  وقال إن عبد الناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله.

على أنه عندما بدأ الرجلان يتطرقان إلى موضوع الإصلاح الزراعى، بدا الاختلاف بينهما واضحا على الفور . إذ كان أول سؤال وجهه تشى جيفارا هو:

" كم من اللاجئين المصريين أجبروا على مغادرة البلاد؟ "

وعندما رد عليه عبد الناصر بأن عددهم لم يكن كبيرا وأنهم كانوا في معظمهم من " المصريين البيض " أى من فثة أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين تمصروا بحكم إقامتهم في مصر، لم يسعد هذا الجواب جيفارا، فقال معلقا:


" هذا يعنى أنه لم يحدث شيء كثير فى ثورتكم . إننى أقيس عمق التحول الاجتماعى بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم بحيث يبدأون في الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد. "

وهنا شرح له عبد الناصر أن ما يفعله هو، تصفية امتيازات طبقة معينة وليس تصفية أفراد تلك الطبقة". وأضاف أنه يريد أن يفتت سلطة الإقطاعيين لكنه لا يريد أن يحرم أفراد هذه الطبقة الإقطاعية من أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع الجديد إذا شاءوا .

ولكن جيفارا أصر على وجهة نظره ولم تتمخض زيارته للقاهرة عن شئ يذكر. فقد كان الرئيس عبد الناصر حتى ذلك الوقت لا يولى الكوبيين وسياساتهم الكثير من الاهتمام .

----------------------

وفى السنة التالية استقبل عبد الناصر ضيفا كوبيا آخر هو راءول كاسترو- شقيق فيدل- الذى جاء على رأس وفد كوبي للاشتراك في احتفالات ذكرى الثورة . وقد أعد خطابا لهذه المناسبة يلقيه فى الاسكندرية بمناسبة ذكرى خلع الملك فاروق عن العرش . وكان الخطاب بالغ العنف في هجومه على الولايات المتحدة، ذلك أن العلاقات بين كوبا الجديدة كانت قد ساءت وأخذت الولايات المتحدة تهييء مقدمات الغزو في معركة خليج الخنازير التى وقعت فيما بعد.

واستفسر أحد رجال التشريفات من كاسترو عما سيقوله في خطابه ولما أطلعه كاسترو على الخطاب هاله ما فيه من عنف في العداء لأمريكا فرجاه أن يخفف شيئا من لهجته.

وانفرد كاسترو بنفسه فى المدرج وحاول أن يحذف أعنف مقاطع الخطاب وشعر باكتئاب شديد من ذلك. لكنه ازداد انزعاجا عندما قال له رئيس التشريفات إن النصف المنقح لا يزال بالغ العنف !

وفى النهاية حذف راءول كاسترو ما يقرب من ثلثى الخطاب وشعر برغبة فى الامتناع تماما عن الكلام في الاحتفال غير أنه كان وعد بالكلام واتخذت كل الترتيبات لذلك فأحس بأنه لابد وأن يمضى في الأمر إلى نهايته. ولكنه شعر بالخيبة و بأن خطابه كان فاترا بلا نبض ولا روح ولا حيوية .

ثم ألقى الرئيس عبد الناصر خطبة حمل فيها على الولايات المتحدة حملة أكثر عنفا بكثير مما كان كاسترو ينويه في النص الأول لخطابه. من هنا فقد أسقط في يد الزائر الكوبي وكان من الطبيعى أن يشعر بالحيرة والغضب معا !

وعندما خرج عبد الناصر وكاسترو في  سيارة واحدة من مدرج الاحتفال لتناول العشاء، لزم كاسترو الصمت طوال الطريق برغم حماسة الجماهير الى كانت تهتف لهما وتحييهما. وعندما وصلا إلى بيت الرئيس قال كاسترو : " إننى آسف فربما ليس لى أن أثير الموضوع أصلا . لكننى لا أفهم شيئا على الإطلاق إليك خطابى...

كان الخطاب مكتوبا بالأسبانية، ولاحظ الرئيس فورا أن نصفه مشطوب. واستأنف كاسترو قائلا:

" إن ما يحيرني هو أنك كنت فى حملتك على الأمريكيين أقسى وأشد مما كنت أنويه عشرات المرات..."

ودهش الرئيس وسأل كاسترو عمن قام بدور الرقيب على خطابه، وبدأ يتحرى فورا عن الأمر بالتليفون، حتى اهتدى إلى المسئول الذى راقب خطاب كاسترو، وقد قال ذلك الرجل-  سيء الحظ- إنه شعر بأن عليه أن يسأل كاسترو تخفيف لهجة خطابه لأنه كان مقرراً أن يحضر السفير الأمريكى الاحتفال ..!

وهنا التفت عبد الناصر إلى كاسترو قائلا : " هكذا يعاني الثوريون من البيروقراطيين " .

ورد كاسترو قائلا إنه لو لم يهاجم الرئيس الأمريكيين فى خطابه ولو لم يسأل عن سبب مراقبة خطابه لكان قد عاد ليخبر أخاه أن المصريين ليسوا ثوريين .

-------------------

التقى عبد الناصر بفيدل كاسترو للمرة الأولى فى نيويورك بعد ذلك بثلائة أشهر عندما حضر الإثنان " دورة خروشوف " فى الأمم المتحدة . وفى ذلك اللقاء كرر فيدل كاسترو ما كان قاله جيفارا عن الشجاعة التي استمدوها فى 1956 من الطريقة التي صمدت بها مصر في وجه بريطانيا وفرنسا وإ سرائيل في معركة السويس . وكيف خرجت ورأسها مرفوعة في عنان السماء. وطلب من الرئيس عبد الناصر أن يلخص له التجربة المصرية وقت السويس وأبدى إعجابا صادقا به.

وقد أعطى الرئيس عبد الناصر تأييده لكاسترو في نيويورك حيث دبر الأمريكيون حملة ضده تستهدف إجباره على مغادرة الولايات المتحدة. وكان قد حجز لنفسه ولأعضاء وفده في فندق شلبورن حيث تعمدت إدارة الفندق إهانته إذ طلبت من الكوبيين تقديم بعض الضمانات المالية ثم امتلأت الصحف الأمريكية بالقصص الفاضحة التي تزعم أن غرف المندوبين الكوبيين امتلأت بريش الدواجن التى زعموا أن هؤلاء كانوا يذبحونها فى غرفهم ويلتهمونها !

وانتقل كاسترو إلى الإقامة في هارلم- حى الزنوج- وذهب عبد الناصر لزيارته فى ذلك الحى الزنجي المعزول لإبلاغه رغبته فى أن يقترح نقل الأمم المتحدة إلى بلد آخر إذا جعل الأمريكيون من المستحيل على كاسترو أن يشترك فى دورة الجمعية العمومية تلك

وحمل كاسترو لعبد الناصر هدية كانت عبارة عن صندوق خشبى موشى بجلد التمساح. وعندما فتحه عبد الناصرقال : " ظننت أنه صند وق سيجار "، فاعتنر كاسترو قائلا : ".لم أكن أعرف أنك تدخن السيجار، لكننى سأتحقق من أن تصلك كمية من السيجار، ولربما أخطأت في إهدائك صندوقا موشى بجلد التمساح لأن النيل عندكم يعج بالتماسيح ".

أجابه عبد الناصر: " نعم... عندنا" وتطلع إلى سقف الغرفة قبل أن يضيف " أربعة منها بالضبط ! "
وتطلع إليه كاسترو مشدوها : " كيف تيسر لك أن تحصيها "؟ فأجابه الرئيس لأنها جميعا في حديقة الحيوان " !

وسأله كاسترو إذا كان سيستمع إلى خطابه الرئيسي الذى ينوى أن يلقيه فى جلسة بعد الظهر فى الأمم المتحدة، فرد عبد الناصر بأنه على قدر ما كان يود ذلك ، فلن يكون في وسعه أن يحضره لأن موعده مع الرئيس أيزنهاور كان قد حدد فى نفس الموعد المقرر الذى كان كاسترو يتحدث فيه.

واكتأب كاسترو للغاية واعتقد بأن الأمريكيين تعمدوا تحديد الموعد بهذه الطريقة حتى يعرقلوا أى تقارب بينه وبين عبد الناصر. ولكن حتى إذا كان ذلك صحيحا فالواقع أن الأمريكيين لم ينجحوا فى غرضهم إذ قام بين الرجلين إعجاب متبادل تزايد على مر الأيام .

وحث الرئيس عبد الناصر كاسترو- فى اجتماعاتهما في نيويورك- على أمرين :

أولهما : أن لايعلق اهتماما أكثر مما يجب على القاعدة البحرية الأمريكية فى " جوانتانامو " في كوبا، وأن لايسمح لنفسه بأن يساق إلى نزاع عسكرى بسبب تلك القاعدة .

وثانيهما: أهمية وجود قاعدة للثورة . كالوحدة العربية مثلا بالنسبة للثورة المصرية.
وأوضح الرئيس لكاسترو كيف أن فكرة الوحدة العربية قد أعطت النضال المصرى عمقا عظيما وأمدت الثورة بالعمق الاستراتيجى والادبي والسياسي .

وسأل كاسترو إذا كانت ثمة قاعدة أو أسس للوحدة فى أمريكا اللاتينية.

ورد كاسترو بأن هناك بعض الأسس : الدين، واللغة - باستثناء البرازيل بلغتها البرتغالية- والاضطهاد الذى يؤلف القاسم المشترك الأعظم بين جميع دول أمريكا اللاتينية. ولكن لم يقم بعد أى عامل توحيدى فى قوة فكرة الوحدة العربية.

---------------------

عاد جيفارا إلى القاهرة فى فبراير (شباط) 1965 ومكث فى المنطقة العربية حتى نهاية مارس (آذار). وفى ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماما شكوكه الأولية فى الكوبيين وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم فى تأييد مصر وقت السويس وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم .

وكان عبد الناصر يرى فى كفاحهم ضد الولايات المتحدة فى معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، صراع سمك السردين مع الحوت . وكان اعجابه كله لسمك السردين .

استقبل عبد الناصرجيفارا فى اليوم الثاني من زيارته وشعر على الفور بأن جيفارا يعاني الحزن من ضيق شخصى وكرب عميق .  وحاول عبد الناصر أن يحثه على الكلام : كيف تسير الأحوال فى كوبا ؟ هل كل شيء على ما يرام بينه وبين كاسترو؟ "

لكن جيفارا  ظل منطويا على نفسه ، ولم يفتح قلبه أو " يفضفض " بالكلام عن مشكلته.

وفى ذلك الاجتماع أبلغ عبد الناصر أنه ذاهب إلى تانزانيا حيث ألفت لجنة لمساعدة حركات  التحرير الأفريقية فى دار السلام، ولكن عبد الناصر شعر  بأن جيفارا لا يتجه إلى تانزانيا بكل قلبه ...

وعاد جيفارا بعد عشرة أيام قضى بعضها فى الكونجو وقال للرئيس : إن ماشاهده هناك أحزنه وحز في قلبه. وقال إنه قام بزيارة كتيبتين من الزنوج الكوبيين ألفتا وأرسلتا من  كوبا للقتال من أجل أنطوان  جيزنجا الرجل الذى حاول أن يرث زعامة لومومبا . ومضى يبلغ الرئيس " إنه يفكر في  الانضمام إلى الكفاح وفى تولى قيادة الكتيبتين .


ودهش عبد الناصر مما سمع... بينما استطرد جيفارا- الذى كان يرافقه فى المقابلة السفير الكوبي فى تانزانيا السنيور ريفالتا الزعيم السابق لنقابة عمال السيجار في كوبا-  يقول : " لقد أمضيت ليلتى كلها أذرع أرض غرفتى في فندق شبرد محاولا أن أقرر إذا كان يجب أن أقابلك وأخبرك بذلك بينما أمضى صديقي ريفالتا وقته يلف سيجارين لك ".

وكان ريفالتا يحمل دائما أوراق التبغ الكوبي معه ليلف السيجار حيثما أتيح له. وهكذا لف فى ليلة تردد جيفارا سيجارين بالغى الطول للرئيس بينما كان جيفارا يحاول أن يقرر ما إذا كان له أن ينبىء الرئيس عبد الناصر بأنه ينوى أن يقاتل فى الكونجو .

وما لبث جيفارا أن بدأ يتكلم ليوضح موقفه للرئيس :

إننى أرى أنه يجب أن نفعل المزيد من أجل الثورة فى العالم . وقد فكرت فى أنه يتعين على أن أتوجه إلى أفريقيا لأفعل شيئا ما. إن لى خبرتي وتجربتى فى النشاطات الثورية وفي التنظيم الثورى وأعتقد أن الأسباب مهيأة فى أفريقيا.

" وأعتقد أننى سأتوجه إلى الكونجو لأنها أكئر بقاع العالم تفجرا ، وأخال أننا نستطيع- بمساعدة الأفريقيين عبر لجنة تانزانيا وبواسطة الكتيبتين الكوبيتين- أن نؤذى الاستعماريين فى قلب مصالحهم في كاتانجا " .

ورد عليه عبد الناصر قائلا : " إنك تدهشني ماذا حدث لكل ما كنت تفعله في كوبا ؟ هل تخاصمت مع كاسترو؟ لا أريد أن أتدخل لكنك إذا كنت تريد أن تصبح " طرزانا " ثانيا ، رجلا أبيض يقحم نفسه بين الزنوج ليقودهم ويحميهم ، فإن ذلك لن يفلح .

وضحك جيفارا من فكرة تحوله إلى " طرزان " . وانتهى الاجتماع الذى كان فى الوقت نفسه بداية سلسلة من الحديث والحوار بين عبد الناصر وجيفارا . حوار بين مناضلين ثوريين كان رأيهما واجتهادهما في طريقة تحقيق الثورة تختلف بشكل جوهرى في معظم الأحيان .

--------------------

كان عبد الناصر يحب جيفارا. وكان يشعر بميل عاطفى خاص نحو هذا الزعيم الكوبي ، وفي أثناء الحديث، بدأت تتجلى أسباب حزن جيفارا. فقد قال يبسط الوضع ، إنه يكن احتراما شديدا لكاسترو ويعتبره أخا ومعلما، ولكن قامت بينهما أشياء لم تكن كلها سوية . أولها أنه جعل راءول كاسترو  يعتنق الشيوعية بينما كان في المكسيك ولم يخبرفيدل بذلك . ثم أدخل راءول في عضوية الحزب الشيوعى وقرر معه أن يخفيا الأمر على فيدل. ولما عرف فيدل كاسترو بالأمر استشاط غضبا : غضب لما حدث كما غضب لأنه أخفى عنه.

كذلك عكر العلاقات بينهما أنه كانت له أحيانا- برغم أنه لا يشك مطلقا في الإخلاص الثورى لكاسترو- بعض التحفظات إزاء معتقدات كاسترو الاجتماعية أئناء كفاحهما المسلح فى الجبال .

وعلى كل حال، فقد كان غضب كاسترو وشكوك جيفارا قد مضيا ، ومنح كاسترو رفيقه فرصته فى أن يزاول حقه الثورى كاملا، فقد أعطاه- وهو الأرجنتينى- الجنسية الكوبية وجعله وزيرا للصناعة .


ولكن مصاعب ذلك المنصب كانت هائلة ووجد جيفارا أن الكثيرين أخذوا يهاجمونه بسبب افتقاره إلى النجاح بشكل جعله يشعر بأنه يفتح المجال لمهاجمة فيدل كاسترو شخصيا.

وقال جيفارا إنه يشعر بأنه يتخبط فى أزمة . فقد كانت لديه أسئلة عديدة لا يستطيع أن يجد لها جوابا. وقال إن كوبا تواجه مشكلات هائلة. وليست هناك حلول سريعة. واعترف قائلا : " لقد تخبطنا- وربما كنت أنا المسئول عن هذه الأخطاء- فقد أممنا 98 فى المائة من كل ما وجدناه ، أممنا حتى دكاكين الحلاقة، وبعد ذلك وجدنا أنه كان علينا أن نترك بعض الناس خارج نطاق التأميم " .

ومضى جيفارا يقول :

لقد تعودت أن أتحدث كثيرا عن التحول الاجتماعى . ومن ثم كلفت مهمة الإشراف على ذلك التحول ، وكان المشكل الأول الذى واجهته هو إيجاد الأشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة ثم وجدناهم وظننا أنهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا أنهم لا ينتمون إلى الحزب الثورى  إنما إلى الحزب الإدارى .

فقد نسوا حماسهم الثورى فى أحضان السكرتيرات الفاتنات وعلى مقاعد سياراتهم الفخمة وفى أجواء امتيازاتهم ومكاتبهم وبيوتهم المكيفة الهواء ، وأخذوا يغلقون أبواب مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلا من أن يفتحوها لاستقبال العمال .

لقد شعرت بأننا نعطى الانتهازية فرصتها. وقد وجدنا رجلا يحتفظ فى مكتبه  بسبعة عشر جهاز تلفزيون .

أحسست بأنه ليس لدينا حزب، إننى شيوعى وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية وأصبحت معذبا مشتتا ببن الثورة والدولة. "

وكان جيفارا يتكلم بملء اندفاعه. كانت خيبة أمله واضحة وضوح حزنه وكربه وكان صدره مليئا بأسثلة تفتقرإلى جواب .

" من هو الشيوعى؟ ماهو دور الحزب؟ هل الشيوعى مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعى أن يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم إن على الشيوعى أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ . لكننى تبينت أن ما قلت هو وصف لعامل جيد وليس وصفا لشيوعى جيد.

من يسن القوانين؟ ما هى العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة الناس؟ حتى يومنا هذا ظلت هذه العلاقات تدار بانتقال الأفكار واستقرائها تلقائيا . لكن هذه الطريقة لم تعد كافية.

إننا شديدو التعاسة من كثير من الأشياء الى نراها حولنا ، إننا لسنا راضين عن الستالينية لكننا لا نقبل رد الفعل ضد الستالينية...

ثم إن هناك تناقضا فى الشيوعية. فعندما كنت أفاوض الاتحاد السوفييتى أحيانا، وجدت أن الروس يريدون أن يشتروا موادنا الخام بسعر السوق السائد الذى يحدده الاستعماريون . على أننى لا أستطيع أن أقبل ذلك من دولة اشتراكية. ولقد ناقشت هذه الناحية مع الروس .. فقالوا إنهم مضطرون إلى أن يبيعوا في سوق تنافسية. وعند ذلك سألهم عن الفرق بينهم وبين الاستعماريين الذين يحددون الأسعار، فقالوا إنهم يفهمون جيدا وجهة نظرى وأنهم يدركون أن المواد الخام تجمع من عذاب واحتضار شعوب الدول المتخلفة ولكن ليس لديهم- على حد قولهم- من بديل . " إننا مضطرون إلى البيع فى سوق تنافسية "

وبعد ذلك سألتهم عن السلع والمنتجات الجاهزة التى يبيعونها لنا وقلت لهم : إنكم تعتمدون فى الإنتاج على  آلات التسميد الذاتي وبالتالى لا تدفعون أجورا مرتفعة فى مقابل الإنتاج، أى أنكم تنتجون تلك السلع بتكلفة رخيصة  ومع ذلك تبيعون إياها بنفس أسعار السوق العالمبة أى أننا نواجه الانسحاق في كل حالة ، ولا نجد أملا لنا حتى معكم ! "

ومضى بعد ذلك يناقش دور كوبا  فى أمريكا اللاتينية وقال إن الحركة الوحيدة التى قامت قبل الثورة الكوبية وكانت تستحق الاهتمام هى حركة بيرون في الأرجنتين وقال إن بيرون حقق بعض الأشياء المهمة في ميدان التصنيع لكنه أخفق كليا فى فهم دور البروليتاريا وقد أخفقت حركته وفشلت بسبب افتقارها إلى عنصر النضال الشعبى .

واستطرد يقول : " وقد أخفقت كذلك لأن بيرون كان جبانا فلم يستطع أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الموت وعندما حان وقت إظهار الشجاعة آثر الهرب " .

وقال جيفارا: " إن نقطة التحول في حياة كل إنسان تحل فى اللحظة التى يقرر فيها أن يواجه الموت . فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق . إن فى وسع الإنسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت فإنه لن يكون أكئر من مجرد رجل سياسي "

تلك كانت العقيدة التى عاشها جيفارا ومات من أجلها.

------------------

واستمرت المناقشات ليال عدة فى بيت الرئيس وكان من الأشياء التى رواها جيفارا للرئيس عبد الناصر أنهم كانوا قرروا البدء بالثورة فى كوبا مع أن الأسباب لم تكن ملائمة لها، لأنهم شعروا بأن قرار إشعال الثورة نفسه يشكل عاملا ثوريا يجب أن يحسب حسابه.

وناقشه عبد الناصر في حججه تلك قائلا إنه يدرك أن قرار إشعال الثورة يمكن أن يكون في حد ذاته عاملا حتى لو كانت الشروط الموضوعية غير مكتملة بعد ، ولكن هناك متطلبات أساسية لا يمكن تجاهلها فإذا ما أهملت فإن القيام بالثورة يمكن أن يكون عملا يائسا.

وقال عبد الناصر لجيفارا:

" عليك- قبل كل شيء- أن تنسى كليا فكرة الذهاب إلى الكونجو هذه . انها لن تنجح وسوف يكتشف أمرك بسهولة لأنك رجل أبيض . وإذا رافقك آخرون من البيض فإنك ستعطى الاستعماريين فرصة أن يقولوا إنه ليس هناك فارق بينكم وبين الجنود المرتزقة .

إننى أعتقد بأن الثورة ظاهرة عالمية النطاق لا تفرق بين مختلف الألوان والأجناس ولكن هناك أشياء معينة يجب أن تدخل فى الاعتبار، أن ما ينبغى علينا عمله هو أن نساعد الإفريقيين . ولنحاول فى هذا أن نعطى كل شعب الحق في أن يفعل ما يعتبره صائبا .


لكنك إذا ذهبت إلى الكونجو مع الكتيبتين الكوبيتين وإذا أرسلت معك فيلقا مصريا فإن عملنا سيوصم بأنه تدخل أجنبى وسيؤذى أكثر مما يفيد " .

ومضى عبد الناصر يناقش مسألة القواعد اللازمة للثورة الناجحة ، قال : ربما كنت أختلف مع  وجهة النظر الماركسية الجامدة التى تقول إن الثورة لا يمكن أن تنشب الا حيث تكون هناك بروليتاريا متطورة- ولقد أثبت كل من لينين وماوتسى تونج عدم صحة هذه النظرية- لكننى أرى أنه لابد من أن تكون هناك على الأقل نواة من البورجوازية الصغيرة والعمال .

كما أن الأمر يتطلب توافر المقومات الأساسية لمرافق المواصلات. فالأفكار تحتاج إلى المواصلات مثلما يحتاج إليها الاقتصاد. وإذا كان الاقتصاد في حاجة إلى طرق ومطارات فإن الأفكار كذلك تحتاج إلى وسائل الانتقال وبالتالى لا يمكن أن تكون هناك ثورة جماهيرية عامة دون أن تتوفر المقومات الأساسية لمرافق الخدمات العامة .

لقد عانيت ذلك فى اليمن واختبرته. فعندما بدأت الثورة هناك، وجدتنى أهب لمساعدتها. ومع أننى تلقيت من التقارير ما يفيد أن الو!قع هناك غير صالح للثورة فقد قلت مئلك إن مجرد أن الثورة قامت فإن ذلك يؤلف عنصرا وضعيا في حد ذاته وبالتالي تجب مساعدتها .

على أننى ما لبثت أن اكتشفت أولا أنه لا يمكن مساعدة الثورة من الخارج ، وثانيا أن ذلك سيقتضى وقتا طويلا وكثيرا من العذاب. ووجدت أننا بينما نستطيع أن نسارع في العملية التاريخية للثورة فإننا لا نستطيع أن نقفز متخطين العملية الطبيعية العضوية التى تخلق قوى الثورة .

-----------------------

في ذلك الحين كان الرئيس عبد الناصر يخوض حملة لتجديد فترة رئاسته للجمهورية العربية المتحدة ، فكان يجول فى المدن والأرياف ملقيا الخطب ومجتمعا إلى الجماهير .  وهكذا أبلغ جيفارا بعد جلسة مناقشة طويلة بينهما أنه لن يسعه أن يقابله فى اليوم التالى لأنه سيكون خارج القاهرة  لافتتاح  العمل فى أحد المصانع .

وحول هذا الأعتذار دفة الحديث من جديد إلى الصناعة فقال جيفارا إن بناء المصنع وإدارته يؤلفان عبئا عسيرا. وأعرب عن رأيه في أن أكثر ناحية مجزية من الثورة تكمن فى النشاط السياسي وسط الجماهير، وأن تصريف شئون المصانع هو عمل يبعث على الملل والقنوط .

ورد عبد الناصر بأن عملية الحماسة المطلقة تأتي في المرحلة الرومانسية من الثورة وأن يوم إندلاع الثورة هو يوم تحقيق أهداف الرومانسية - إنه ليلة الزفاف . ولكن عليك بعد الزفاف  أن تجعل الزواج ناجحا . عليك  أن تكسب مالا وأن تبنى بيتا وتنجب أطفالا. وهذ هو المقصود بالثورة . وهذا ما تعنيه الثورة. إنها تعنى معاناة العبء العسير الكامن في بناء المصانع واستصلاح الأراضي وتحويل الحماسة المطلقة إلى حماسة لخطة محددة وهدف بذاته.

قال جيفارا وهو يفتر عن ابتسامة : " لقد حطمت أنا زواجين ... "

وراح الرئيس عبد الناصر يشدد عليه مرة أخرى بشأن نظريته فى استكمال أسباب نجاح الثورة فقال :

إننا إذا اكتفينا برومانسية الثورة دون أن تتوافر لدينا التطورات اللازمة لها. فإن ذلك سيكون كارثة ولن تكون هناك ثورة ما لم نقم بكل تلك المهمات المملة والتى تبعث على العجز كما تقول ".

واستطرد يخاطب جيفارا : " أعرف أنك كنت طبيبا... إذن فشأنك في ذلك شأن جراح مدد مريضا على مائدة العمليات وبنجه وشق بطنه ثم رفض أن يمضى قدما في إجراء العملية. لا يجوز بل ولا يمكن أن ثفعل ذلك " .

ورد جيفارا وقد بدت عليه كل علامات الأسى وخيبة الأمل :

" ولكن ليس الثوريون هم الذين يقومون بمهمة تصريف الأعمال بعد الثورة . إنما هم الفنيون والبيروقراطيون الذين هم ضد الثورة .

أتعرف أننى أعتقد بأن هناك قانونا أساسيا وحيدا في الاشتراكية لم يكتشفه أحد بعد . لقد درست ماركس ولينين وتابعت جميع تجاربهما وأنا مقتنع بأن ما من أحد قد عثر بعد على ذلك القانون الأساسى . في برهة من الزمن ظنت أنه التخطيط لأن الانسان استطاع للمرة الأولى من خلال التخطيط أن يصب مستقبله في قالب جديد وأن يعيد تشكيل ذلك المستقبل، لكننى ما لبثت أن وجدت أننا عندما نصل إلى التخطيط فإننا نجابه الفنيين والييروقراطيين وهؤلاء يعملون ضد الثورة ويناهضونها " .

وهنا سأله الرئيس إذا كان يود أن يرافقه إلى افتتاح المصنع الجديد حيث سيكون فى وسعهما أن يشاهدا بعض النتائج العملية للئورة المصرية. ورد جيفارا بالإيجاب وانطلقا معاً فى اليوم التالى .

------------------

لقى عبد الناصر استقبالا عارما فقد اندفعت قرى بأسرها بقضها وقضيضها لتحية موكبه وحاول الناس إيقاف سيارته بإلقاء أنفسهم أمامها. وفى ذلك المصنع تجمعت الألوف المؤلفة تهتف لعبد الناصر.

ودب الانفعال الشديد فى جيفارا فقال : هذا ما أريده . هذا هو الغليان الثورى ".

وقال عبد الناصر:

" حسنا... لكنك لا تستطيع أن تحصل على هذا... " وأشار إلى الجمهور " دون ذاك " ثم أشار إلى المصنع. وقال: " لن تستطيع إدراك النجاح ما لم تنشىء ذلك المصنع " .

استولى ذلك كله على لب جيفارا حتى أنه وقف فى أحد الاجتماعات وقال بأعلى صوته مخاطبا الرئيس :

" حبذا لو أستطيع أن أصوت لك " .

وقام الضيف الكوبي كذلك بزيارة للسد العالى وأعجب كل الإعجاب بما شاهده- شأنه في ذلك شأن كل من توجه إلى زيارة السد- وقد اتخذ الرئيس عبد الناصر من السد العالى مثلا يدعم به حجته حول الحاجة إلى بناء الثورة وقال فى هذا الصدد: " لقد خضنا معركة من أجل السد العالى . كانت هناك رومانسية الثورة بأسرها والرومانسية الكاملة لمعركة كبرى ضد ثلاث دول . لقد تعرضت السويس للغزو بسبب السد العالى. ولكن كان علينا- بعد انتهاء القتال- أن نعكف على المهمة الحقيقية. وقد اعتاد دالاس أن يقول لنا إننا سنلعن اليوم، الذى فكرنا فيه فى بناء السد بسبب التضحيات التى سيفرضها على الشعب المصرى . ولكن هذه هى الثورة. إن هذه التضحيات هى الثورة . الثورة هى العمل يوما بعد يوم لحفر الأسس الصخرية وبناء الأنفاق وتركيب الآلات فهذا ما يغير المجتمع . إن قمة الفاعلية الثورية هى تجنيد الناس للقبول بالتضحيات اللازمة للبناء على الدوام .

و في المرة التالية التى التقيا فيها قال جيفارا لعبد الناصر :

" لعلنا نستطيع أن نجد سبيلا. ربما استطعنا تسييس البيروقراطيين و الفنيين . وقد تصبح الثورة في مأمن إذا  استطعنا ذلك ".

وظل يعود طوال حواره مع عبد الناصر إلى موضوعه الشخصى ... مشكلة توافر الأسئلة وانعدام الأجوبة والحلول . وظل عبد الناصر بدوره يحاول حمله على الإفصاح عن مشكلاته على أمل أن تنبثق- فى النقاش- بعض الإجابات والحلول .

و سأله عبد الناصر ذات يوم : " ماذا يشغلك؟ " فهز جيفارا رأسه وأجاب : " فى الحقيقة أشعر بأننى لست أهلا للقيام بما أقوم به وأنا أبحث عن مكان آخر أذهب إليه . لقد فكرت فى الذهاب إلى الكونجو لكننى بعد أن رأيت ما يجرى هناك وجدتنى أميل إلى التسليم بوجهة نظرك بأن ذهابي إلى الكونجو قد يكون ضارا .
لقد فكرت في الذهاب إلى فيتنام . فأنا أكثر إعجابا وتأثرا بما يجرى هناك منى بما يجرى في أى مكان آخر. ذلك أنه إنجاز خارق أن يكون هؤلاء الناس قد استطاعوا أن يحاربوا اليابانيين والفرنسيين والأمريكيين بشكل متواصل. إن ما فعلوه بالأمريكيين بسيط وخارق الذكاء. فقد أجبروهم على القتال في أمكنة وظروف تخالف أسلوبهم فى الحياة ... " .

وقال جيفارا إنه كان راغبا أشد الرغبة في الذهاب إلى فيتنام . لكنه لم يفعل لأن وجوده هناك قد يسبب لكوبا قدرا كبيرا من المصاعب. واستدرك قائلا : ولكن ربما يكون فى وسعنا أن نخلق فيتنام أخرى ... " ما أشد حاجتنا إلى عدد من تلك الفيتنامات ! " .

والواقع أن جيفارا كثيراً ما عاد إلى ترديد موضوع خلق فيتنامات أخريات. وكان يقول : " أريد أن أفعل شيئا يهز النظام العالمى لأننى لا أعتبر ما لدينا الآن سلاما . إنه ليس بسلام وليس علينا أن ندافع عنه ونصونه.. إن ما لدينا هو سلام بأى ثمن . سلام رتبته الحلول الوسط بين الدول الكبرى . وإذا ما قبلنا بالسلام بأى ثمن فإننا نكون قد قبلنا فى الحقيقة حربا مستمرة، حتى ولو كانت هذه الحرب خفية ".

-----------------------

وسأل جيفارا الرئيس عبد الناصر عن ظاهرة الانقلابات العسكرية فى أفريقيا وعما إذا كان من شأن مثل تلك الانقلابات أن تجهض العملية الثورية. وأجابه عبد الناصر بأنه يجرى- وفق تحليله- إجهاض العملية الثورية فى أفريقيا على يد الاستعمار الجديد في غمرة من تحول الإمبرياليين من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد، مصطنعين في ذلك القلائل ، مدبرين الانقلابات ، سالبين شعارات الثورة ، خادعين الناس، مضلليهم على طول الخط .

وفي أخر اجتماع  بينهما أبلغ جيفارا الرئيس عبد الناصر أنه لايظن أنه سيبقى في كوبا . وقال إنه لم يقرر بعد أين سيذهب لكن الشيء الوحيد الذى ينتظره هو أن يقرر " أين يعثر على مكان يكافح فيه من أجل الثورة العالمية ويقبل تحدى الموت ".

وسأله عبد الناصر: " لماذا تتحدث دائماً عن الموت ؟ إنك شاب. إن علينا أن نموت من أجل الثورة إذا كان ذلك ضروريا، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها "

لكن جيفارا كان أدرى بقدره .

ذلك أنه كان قد بلغ من خيبة الأمل  في حياته ومن خيبة الأمل فى أحلامه ما جعل أمنية الموت تستبد به. لم يكن راغبا فى إدارة المصانع والتعامل مع الفنيين والبيروقراطيين . كان يريد أن يقاتل ، كان يريد أن يواجه الموت في شجاعة وأن يقف وجهاً لوجه مع الموت ويحدق في نظره !

وقد تأثر عبد الناصر تأثرأ بالغاً بالرسالة التى وجهها جيفارا إلى كاسترو عندما ذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فقد كانت تحتوى على الكثير مما تحدثنا عنه فى حوارهما الطويل. وفي تلك الرسالة قال جيفارا:

" إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. أما الآن فقد أصبح كل شيء أقل دراماتيكية، إننى أشعربأننى أنجزت ذلك الجزء من عملى الذى كان يربطنى بالثورة الكوبية.

إن بلادا أخرى في هذا العالم تحتاج إلى جهودى . وبعد فإني أستطيع القيام بما لاتستطيعه أنت بسب مسئولياتك فى قيادة كوبا. أجل لقد حان وقت الرحيل والاقتراق . وأريدك أن تعرف أننى أرحل بمزيج من الغبطة والألم . فإذا جاءت ساعتي تحت سماء أخرى فإنك والشعب الكوبي ستكونان في خاطري قبل أن ألفظ نفسي الأخير . النصر أو الثورة أو الموت ... "

وهكذا انطلق جيفارا يحمل الثورة إلى بوليفيا . لكنه وجد هناك ما كان عبد الناصر قد حذره منه. لم تكن هناك قاعدة ثورية. لقد جاء بالشرارة ولكن  البارود لم يكن جاهزا للتفجير بعد . وأخفق جيفارا . ثم تعرض للخيانة... ثم التقى بالموت ... وكان شجاعاً فى لقائه مع الموت ... ولم يهرب وإنما ذهب !  

عبد الناصرو كنيدى
الآفاق الضائعة
 
[ كان كيندي يحب أن يطلق على عصره دائما عهد " الآفاق الجديدة " وكان ذلك حلما أو وهماً عصفت به التجارب والوقائع ] 

 
امضى الرئيس عبد الناصر يوما حافلا فى نيويورك فى 26 سبتمبر (أيلول) 1960. كان ذلك زمن القضايا الكبرى .

 
وكان ضجيج " دورة خروشوف " يدوى فى الأمم المتحدة وأزمة الترويكا ( الاقتراح الروسى بجعل السكرتارية العامة للأمم المتحدة هيئة ثلاثية) وأزمة الكونجو في أوجها .. وكانت انتخابات الرئاسة الأمريكية تزداد حدة .

 
فى الحادية عشرة من ذلك اليوم قابل عبد الناصر همرشولد. وكان السكرتير العام ينتظره على باب الجمعية العامة فأخذه إلى مكتبه الصغير وراء القاعة الكبرى للجمعية. وتحدثا في المشاكل التي يعاني منها همرشولد مدة ساعة ، وفاتهما تقريبا كل خطاب نوفوتنى رئيس تشيكوسلوفاكيا آنذاك .

 
وكان قد سبق للسير أليك دوجلاس هيوم أن قابل الدكتور محمود فوزى من قبل واتفق وزيرا الخارجية على أنه يجب- بشكل ما- ترتيب لقاء بين عبد الناصر وهارولد ماكميلان . واشترط  فوزى أن يذهب ماكميلان إلى الوفد المصري ليقابل الرئيس . لأنه ليس فى وسع الرئيس - بعد- حملة السويس- أن يقوم بالخطوة الأولى ويزور البريطانيين .

 
ووافق دوجلاس هيوم على ذلك لكنه قال إنه يجب أن يتعارف الرجلان لكى يستطيع ماكيلان زيارة عبد الناصر .

 
ونظراً إلى أن ترتيب الوفود فى الجمعية العامة كان يجرى على أساس ابجدى ، فقد جلس ممثلو الجمهورية العربية المتحدة والمملكة المتحدة ( بريطانيا ) جنبا إلى جنب لا يفصل بينهما سوى ممر ضيق. وهكذا اتفق فوزي ودوجلاس هيوم على إجراء التعارف بين رئيسيهما حالما ينتهى نوفوتنى من خطابه.


ودخل همرشلد وعبد الناصر القاعة معا . وتوجه السكرتير العام إلى منصته بينما توجه الرئيس إلى كرسيه الخالى الذى كان البريطانيون يتطلعون إليه ببعض القلق على الترتيب المعد للقاء بين ماكميلان وعبد الناصر. وعبر دوجلاس هيوم إلى مكان جلوس الوفد المصري  وهمس شيئا في أذن فوزي الذى هز رأسه موافقا . ولما انتهى نوفوتنى- آخر خطباء جلسة الصباح-  نهض الجميع .
 
 وتواجه ماكميلان وعبد الناصر.. وسار ماكميلان في اتجاه عبد الناصر وقال:

 
" صباح الخير.. أنا هارولد ماكميلان ".

 
فرد عليه عبد الناصر بأنه مسرور بمقابلته..

 
هكذا بدأ زعيما مصر و بريطانيا التحدث فيما بينهما للمرة الأولى بعد- حملة السويس .

 
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم قام عبد الناصر بزيارة الرئيس أيزنهاور في فندق والدورف استوريا. كان ذلك لقاؤهما الأول والأخير.

 
كان عبد الناصر مهتما بدراسة التاريخ العسكرى وقد أعجب دائما بأيزنهاور كإدارى عسكرى . وكان معجبا بآلان بروك كاستراتيجي وبمونتجومرى كقائد تقليدى وبرومل و باتون كقائدين ذوى خيال متقد كل على الأرض التى قاتل فيها .

 
وبدأ الحديث بين الزعيمين الأمريكى والمصرى عندما أشار عبد الناصر إلى أنه يشترك مع أيزنهاور في أن كلا منهما نشأ نشأة عسكرية لكنه انتقل بعد ذلك إلى الميدان السياسى . ورد أيزنهاور بأنه " استدعى " للخدمة في الميدان السياسي فقال عبد الناصر : إنه شخصيا " تطوع " من أجل ذلك.

 
وانتقلا إلى الحديث عن انتخابات الرئاسة. وكان عبد الناصر قد أمضى معظم أمسياته في نيويورك، في البيت الذى شغله في لونج ايلند، وهو يشاهد على شاشة التلفزيون تطورات الحملة الانتخابية. وكان قد فرض على نفسه هذه العزلة لأنه أصر على اعتبار نفسه زائراً للأمم المتحدة وليس زائراً للولايات المتحدة.

 
وسأل الرئيس عبد الناصر الرئيس أيزنهاور عمن يعتقد أنه سيخلفه في الرئاسة فقال أيزنهاور إنه يفضل أن لا يخوض في الموضوع وإن كان يشعر بأنه يمكن استنتاج اسم المرشح الذى يميل إليه.

 
وقال عبد الناصر إنه سوف يجد صعوبة فى الاختيار إذا فرض وأن طلب إليه أن يدلى بصوته في الانتخابات الأمريكية. فقد كان يشعر بأن كنيدى أكثر فتوة وأكثر تحررا ومع ذلك فإنه (على ما قاله ايزنهاور) يفضل أن يعطى صوته لنيكسون لأنه كان نائب الرئيس أيزنهاور أثناء السويس ولأن مصر لايمكن أن تشعر إلا بعرفان الجميل حيال الموقف الأمريكى من أزمة السويس عام 1956.

 
والواقع أنه عندما زار نيكسون مصر عام 1963- وكان خارج الحكم- يحمل رسالة تعريف من الرجل الذى هزمه وهو الرئيس كنيدى ، عومل بكل مراسم التشريف والتكريم المخصصة لنواب رؤساء الجمهوريات، وكأنه نائب لرئيس الجمهورية برغم أنه كان سياسيا عاديا بل خارج الميدان السياسى عمليا.

 
وقد زار نيكسون في أثناء إقامته في مصر السد العالى وعندما قابل الرئيس عبد الناصر بعد ذلك قال له:

 
" لقد رأيت اليوم أفدح خطأ ارتكبته امريكا. فقد اعتصر قلبى عندما رأيت السوفييت يعملون جنباً إلى جنب معكم فوق موقع السد العالى ، ولولا دالاس لكان هناك أمريكيون بدلا من السوفييت ".

 
وغادر عبد الناصر فندق والدورف استوريا عائدا إلى مقر الوفد المصرى حيث زاره نهرو في الساعة السادسة ليبحث معه الأزمات المطروحة في الأمم المتحدة . وفي الثامنة جاء تيتو في اثر نهرو وللغاية ذاتها.

 
وبعد أن انتهت الاجتماعات سارع عبد الناصر عائدا إلى بيته في لونج أيلند ليقابل . جون . ف. كنيدي .... على شاشة التلفزيون .

 
فقد كانت تلك ليلة المناظرة الكبرى الأولى فى التلفزيون بين نيكسون وكنيدى حيث عرض كل منهما قضاياه أمام ملايين المشاهدين.

 
والجدير- بالذكر أن خروشوف كان مقتنعا بأن نيكسون سيفوز بهذه المناظرة . بما يذكره عنه في " مناظرة المطبخ " المشهورة التي جرت بينه وبين نيكسون فى قسم الأدوات المنزلية من المعرض الأمريكى فى موسكو قبل عام حيث أثبت نيكسون أنه مثل خروشوف خصم عنيد لا ينثنى في النقاش. وكان خروشوف مقتنعا أيضا بأن العالم سيزج في فترة طويلة من الحرب الباردة إذا ظفر نيكسون في الانتخابات .

 
لكن خروشوف كان مخطئا. ذلك أن " مكياج " نيكسون كان سيئا ولا يلائم التلفزيون، ولم يجانبه التوفيق في المناظرة ، بينما استخدم كنيدى الشاشة التلفزيونية بذكاء بالغ  واستطاع أن " يعرض " نفسه عرضا جذابا للناخبين .

 
-------------------------

 
وبرغم ما قاله أيزنهاور عصر ذلك اليوم في لقائه مع الرئيس في فندق والدورف استوريا، اقتنع عبد الناصر- نتيجة المناظرة- بأن كنيدي هو المرشح الأفضل . ولم يكن وحده فى ذلك وربما كانت هذه المناظرة الأولى هى التى رجحت كفة الميزان الانتخابي لمصلحة كنيدى ضد نيكسون.

 
وقد انتصر كنيدى بأغلبية ضئيلة جدا لكنها كانت كافية وأصبح الرجل الذى كان على مصر أن تتعامل معه.

 
دخل كنيدى المسرح خلال المرحلة الثالثة من المراحل الأربع التى يمكن أن يقسم إليها تاريخ العلاقات الأمريكية مع الثورة المصرية.

 
فقد استمرت المرحلة الأولى منها من ليلة الثورة إلى اليوم الذى عرف فيه دالاس بأمر صفقة السلاح مع الاتحاد السوفييتى، وكانت تلك فترة الغواية.

 
وفى سنوات هذه المرحلة- الثلاث- حاولت أمريكا إغواء عبد الناصر ولكن الغواية لم يكتب لها أن تكتمل.

 
وقد أسر دالاس لهمرشولد عام 1956 أنه يعتقد بأن عبد الناصر كان منطقيا في كثير من الموضوعات التى أثيرت عندما اجتمعا عام 1953 إلا أنه " لم يحب عبد الناصر نفسه ". وأبلغ همرشولد محمود فوزى هذه القصة ورواها فوزى بدوره لعبد الناصر .

 
وبعد مرحلة الغواية جاءت مرحلة العقاب. وهى مرحلة استمرت من صفقة الأسلحة السوفييتية إلى خصام عبد الناصر مع خروشوف عام 1958. وبرغم تأييد أيزنهاور لمصر في قضية السويس فإن عبد الناصر كان يرى أن " مشروع أيزنهاور " للشرق الأوسط يهدف إلى عزل مصر ويخلق بالتالى أهداف العدوان على السويس ذاتها، ولكن بوسانل سلمية.

 
وأبلغ دالاس الملك سعود عام 1957 أن " الوضع في الشرق الأوسط متفجر جدا وأن فتيل التفجير في القنبلة هو عبد الناصر ولذا فإن من أهم الأشياء : التحرك بسرعة وهدوء وإزاحته من وسط الشحنة المتفجرة " .

 
وعرف عبد الناصر كل شيء عن محادثات دالاس مع الملك سعود لأن نسخا عن محاضر الجلسات وصلت إليه عن طريق أحد المؤمنين بالقومية العربية. وكان من بين مسائل العقاب التى انتهجها دالاس وسيلة غير إنسانية وغير أخلاقية ولا تليق بدولة كبرى .

 
ففى 1957 كائت مصرفي حاجة إلى الأدوية والمضادات الحيوية لمعالجة جرحى العدوان على السويس . وكانت أرصدة مصر الاسترلينية فى الولايات المتحدة قد جمدت كليا إثر تأميم قناة السويس. فطلبت مصر من الحكومة الأمريكية الإفراج عما يكفى من الأرصدة لشراء الأدوية الحيوية . لكن دالاس رفض ولم يغفر له عبد الناصر إطلاقا هذا الإجراء الانتقامي .

 
وجاءت مرحلة الاحتواء إثر مرحلة العقاب . فعندما تخاصم عبد الناصر وخروشوف بشأن الوحدة العربية ودور الشيوعيين فى الدول العربية ، رأى الأمريكيون في ذلك فرصتهم السانحة لاسترداد المواقع التى فقدوها.

 
كانوا قد انسحبوا من لبنان ، كما أن البريطانيين انسحبوا من الأردن ، في خريف 1958، أى قبيل اندلاع مشاكل مصر مع الاتحاد السوفييتى بسبب محاولات الشيوعيين الاستيلاء على الحكم في العراق. وكان هذا يعنى أنه لم يعد ثمة مشكلات كبرى قائمة بين أمريكا ومصر.

 
وراقب الأمريكيون الموقف بعيونهم وآذانهم، وآثروا أن يلزموا الصمت شهورا ثم بدأوا يسألون الحكومة المصرية همسا إن كان ثمة شئ يمكنهم أن يفعلوه لمساعدة مصر، واستصدروا القانون العام رقم 480 الذي مكنهم من إرسال القمح إلى مصر ثم قدموا بهدوء غير ذلك من المساعدات بطرق أخرى .

 
واستمر الوضع كذلك طوال 1959 و 1960 حيث ظلت الولايات المتحدة تمد مصر بالمساعدات بشكل هادئ وبلا ضجيج كبير. وبدا كما لو كان البلدان يتمتعان بنسمة لالتقاط الأنفاس .

وكان هذا هو الوضع الذى تسلم فيه شاب جديد اسمه جون . ف. كنيدى حكم أقوى دول العالم من أيزنهاور الجنرال السابق العجوز.

 
وقد أعجب عبد الناصر بالخطاب الذى ألقاه كنيدى فى حفل تنصيبه، فقد أعجبته إشارة الرئيس كنيدى إلى الجيل الذى ولد في القرن العشرين وقدرته على فهم القرن العشرين . كذلك أعجبته العبارة التى قال فيها كنيدى : " لا تسألوا عما تستطيع بلادكم أن تقدمه لكم وإنما اسألوا أنفسكم عما تستطيعون أنتم تقديمه لبلادكم ".

 
وكان عبد الناصر مهتماً بتجربة كنيدى في الاستعانة بعدد من المفكرين السياسيين للعمل كمستشارين له. وكان أحدهم- وهو والت روستو- قد كتب كتاباً قرأه جمال عبد الناصر وهو" مراحل النمو " وكنت قد قدمت له نسخة منه ليقرأها وكان عبد الناصر يرى أن الكثير مما جاء في هذا الكتاب يستحق المناقشة الجدية وهكذا أمر بترجمته وتوزيعه على أعضاء الحكومة كلهم .

 
على أن عبد الناصر بدأ يتلقى تقارير عن فرح الاسرائيليين البالغ بانتصار كنيدى وعن أن كنيدى كان قد قطع لهم تعهدات سرية بتزويدهم بالأسلحة.

 
وكان الأمريكيون فى السنوات الأخيرة من ولاية أيزنهاور قد التزموا الحذر الشديد وراقبوا وتابعوا خصام مصرمع روسيا وقدموا القمح وغير ذلك من أشكال المساعدة . وكانوا يدركون ما تنطوى عليه القومية العربية من قوة. وبسبب ذلك كله لم يكن الإسرائيليون يحصلون على كثير من المساعدة العسكرية من الأمريكيين . وكان المرء يشعر بأن أيزنهاور لم يكن يصدق كل الذرائع التى كانوا يقدمونها آو " يبلعها " كالآخرين .

 
وفي الوقت ذاته ،  كان الجنرال ديجول- الذى كان حريصا على أن يحصل على مساعدة مصر لإخراج فرنسا من ورطة الجزائر- قد بعث برسالة إلى عبد الناصر يقول فيها إنه يريد أن يقيم علاقة جديدة مع العالم العربى . وكانت التقاليد تقضى- قبل ديجول- بأن يقيم ممثل إسرائيلى خاص بصفة دائمة فى وزارة الدفاع الفرنسية. فوضع ديجول حدا لذلك قائلا إن فرنسا دولة مستقلة ولن تسمح لبعثات خاصة بأن ترابط في وزارة الدفاع الفرنسية.

 
وهكذا فإن الاسرائيليبن- الذين كانوا يواجهون الإحجام من قبل أيزنهاور وتحول ديجول إلى صداقة العرب- بدأوا ينشطون في البحث عن سلاح بطريقة يائسة تماما.

 
وفى هذا الجو بدأ عبد الناصر يتلقى التقارير التى تفيد أن كنيدى وعد  الإسرائيليين بأن يرسل إليهم الأسلحة التى طلبوها، ولذا فإنه، برغم اهتمامه بتجربة كنيدى ورغبته في استكشاف سياسة الحكومة الأمريكية الجديدة، فقد اتسمت المراحل الأولى من تعامله مع كنيدى بشئ من التردد والشكوك.

 
وقد عرف عبد الناصر بعد ذلك بأربع سنوات حقيقة وعود كيندى للإسرائيليين على يد الألمان . ففى 1961 عندما قام أديناور بزيارة للولايات المتحدة ضغط عليه كنيدى ليبيع الأسلحة الى إسرائيل. وقد اقتضى الأمر قسطا كبيرا من الضغوط . لكن الضغط أفلح فى النهاية. وبناء على إصرار كنيدى دفعت ألمانيا الغربية ثمن وعوده لاسرائيل . وكان هذا من الأمور الى هدمت صرح العلاقات بين ألمانيا الغربية والدول العربية.

 
-------------------------

 
ولكن مع ذلك- وبرغم هذه التقارير- شعر عبد الناصر بالحاجة إلى إقامة علاقة جديدة مع كنيدى فكتب إليه في 20 فبراير (شباط) 1961، أى بعد شهر واحد من تنصيب كنيدى أول رسالة لما أصبح فيما بعد حوارا مستمرا بين الرجلين.

 
وكانت مناسبة الرسالة الأولى اغتيال لومومبا. وقد حزن عبد الناصر حزنا عميقا وغضب غضبا بالغا من هذه الجريمة النكراء ومن الدور الذى لعبته فيها الولايات المتحدة ، وكانت رسالته ديبلوماسية هادئة لكنها لم تترك للرئيس الأمريكى الشاب شكا فى حقيقة مشاعره .

 
فقد قال فيها بالنص :

 
" عزيزى الرئيس كنيدى

 
لقد وجدت لزاما على أن أكتب إليكم فى هذه الظروف الدقيقة مدفوعا بثلاثة عوامل تشغل بالى وتثير قلقى.

 
أولها: المأساة المؤلمة التى وقعت في الكونجو حتى وصل بعد الجريمة الوحشية التى وقعت فيه باغتيال باتريس لومومبا إلى حافة الحرب الأهلية. وهو الأمر الذى يجب تجنبه مهما كانت الظروف باعتبار ما يمكن أن ينشأ عن ذلك من أخطار على سلامة الشعب الكونجولى وعلى سلامة شعوب أفريقيا عموما وتأثير ذلك على السلام العالمى .

 
وثانيها : الموقف العصيب الذى صارت إليه أعمال الأمم المتحدة في الكونجو، وضياع الآمال الكبرى التى كنا نعلقها على هذه التجربة التى كانت تبدو لنا في بدايتها سابقة مشجعة ترسم طريقا جديدا في تطوير الدول التى لم تحصل على فرصتها في النمو ، وتعطيها عونا رشيدا متجردا عن المطامع الاستعمارية يقودها إلى غد أفضل .

 
وإنه لمن المهم فى هذه اللحظة أن نفرق جميعا بين الأخطاء التى ارتكبت باسم الأمم المتحدة وتحت علمها، وبين ما تمثله هذه المنظمة بالنسبة إلى الشعوب جميعا في سلام قائم على العدل .

 
وذلك أمر يتحتم معه أن نتوجه جميعا في هذه اللحظات إلى محاولة جادة ومخلصة لإعادة الهيبة والاحترام إلى هذه المنظمة التى تمثل- في رأينا- احتمال السلام الوحيد في جيلنا الذى نعيش فيه.

 
وثالثها: أن الصدمة التى تلقتها شعوب أفريقيا المتطلعة إلى أملها- بعد ليل استعمارى طويل- لابد لها على الفور من تصحيح صادق وأمين ،  فإن المرارة التى تشعر بها هذه الشعوب ، التى تابعت بمزيج من الحزن والغضب ما حدث لاستقلال الكونجو المهدد وما حدث لحكومته الشرعية، ممثلة ببرلمانه، وهى الحكومة التى أخذت على عاتقها مسئولية دعوة الأمم المتحدة لمساعدتها هذه المرارة ينبغى أن لا تترك آثارها تدفع شعوب أفريقيا- التي كانت تظن منذ أقل من عام أنها رأت النور . إلى ظلام يائس يمكن أن تكون له أوخم العواقب.

 
من هذه الاعتبارات الثلاثة، وما تثيره فى نفسي مقوماتها ونتائجها، وجدت من المستحسن في هذه الأوقات أن أضع أمامكم صورة من فكرى .

 
أولا:

 
وفيما يتعلق بمأساة الكونجو ذاتها.، فإن الخطوات الآتية تبدو فى رأيي حيوية، وأكاد أقول محتمة:

 
(أ) ضرورة المسارعة بإجراء تحقيق شامل لكل ما حدث في الكونجو منذ يوم الاستقلال، إلى أن وقعت الحوادث المؤلمة الأخيرة، وذلك أمر مهم لكى تستقيم الأوضاع ، وفى سبيل ذلك لا يمكن التعلل بأن ذلك أمر داخلى فى نظر سلطات ليوبولد فيل واليزابيث فيل- فإن المسئولية في كل ما حدث في الكونجو، إنما هى مسئولية عالمية، وليست اختصاصا محليا، وإن مهمة الأمم المتحدة في الكونجو تحمل فى ذاتها دليل هذه المسئولية العالمية، وإن كان الأمر فى اعتقادى لا يحتاج إلى دليل .

ويستتبع هذا التحقيق بالطبع أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بنزاهة إجرائه وأن تترتب عليه الآثار الملائمة لنتائجه ، ممقتضى عالمية المسئولية.

 
(ب) وفي رأيي أن هذا التحقيق المقترح يجب أن تتولاه هيئة محايدة يقوم مجلس الأمن ، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتعيينها، وما من جدال أن تمثيل دول افريقيا وآسيا- خصوصا دولها غير المنحازة- فى هذه اللجنة، بطريقة واضحة، يعتبر تدعيما لهذه اللجنة ولمهمتها، ولقيمة ما تتوصل إليه بتحكيم الوقائع وحدها فى استخلاص النتائج .

 
(ج) إذا لم يتمكن مجلس الأمن خلال مداولاته الحالية فى الوصول إلى قرارات ضامنة لاستقلال الكونجو ووحدة أراضيه ، وإلى قرارات كفيلة بإخراج القوات البلجيكية منه، وتجريد العناصر المسلحة من أسلحتها إنهاء لحكم العصابات في الكونجو ثم إعادة تنظيم الجيش الوطنى على أساس سليم ، ففى رأينا دعوة الجمعية العامة إلى دورة خاصة عاجلة لبحث هذا الموضوع .

 
ثانياً :

 
وفيما يتعلق بأزمة الأمم المتحدة ة فإني أسمح لنفسى أن أعيد عليكم ما سبق لى أن تحدثت به إلى سلفكم الرئيس السابق الجنرال دوايت أيز نهاور- حينما كانت لى فرصة الاجتماع به فى شهر سبتمبر من العام الماضى- 1960- فى نيويورك خلال اشتراكى في أعمال الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة.

 
ذلك أننى أرى- ولقد شرحت ذلك لسلفكم المحترم- أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل مسئولية خاصة فى أعمال الأمم المتحدة بحكم عديد من الظروف التى لا أرى حاجة إلى إعادة تكرارها.

 
إن تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لأعمال الأمم المتحدة، يكون في كثير من الظروف هو الحد الفاصل بين النجاح والفشل .

 
ولقد ضربت على ذلك مثلا ، الفشل الذريع الذي لاقته المنظمة سنة 1948 في مأساة شعب فلسطين وفي قيام دولة إسرائيل على أنقاض هذه المأساة .

 
ولقد ضاع عمل الأمم المتحدة في ذلك الوقت ، وتمرغ ميثاقها في الهوان ، لأن الولايات المتحدة لم تقدم لهـا ما كان لازماً- بحكم مسئولياتها- أن تقدمه.

 
وعلى العكس من ذلك كان نجاح الأمم المتحدة في تجربة السويس بارزاً، لأن الولايات المتحدة تحملت مسئولياتها الكبيرة داخل المنظمة، بصرف النظر عما كان بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة المصرية - في ذلك الوقت- من أسباب الخلاف والصدام .

 
ومن سوء الحظ- فيما حدث فى الكونجو- أننا لا نستطيع أن نصف دور الولايات المتحدة في هذه الأزمة التى نعيشها، بمثل ما وصف به موقفها في الأمم المتحدة إبان أزمة السويس، من أنها وقفت بجانب المبادئ بصرف النظر عن الصداقات.

 
وفيما يتعلق بالمنظمة ذاتها- بعد ذلك- إذا ما- تمت الإجراءات  التى اقترحتها فى- أولا- فإن ذلك كله سوف يؤدي إلى خلق جو أكثر ملاءمة لإنقاذ تجربة الأمم المتحدة في الكونجو، خصوصاً إذا ما تم في الوقت نفسه إجراء تغييرات أساسية فى أجهزة الأمم المتحدة التى اشتركت في مأساة الكونجو، تغييرات أساسية تجعلها أكثر تمثيلا لهذه المنظمة ولأعضائها تمثيلا حقيقياً . إن هذا التغيير فى رأيي أصبح ضرورة تحتمها . الظروف إذا ما شئنا أن نخرج من الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأمور فى الكونجو.

 
وإنى لأؤكد لك فى هذا الصدد أنه إذا ما تم ذلك فإن حكومة الجمهورية العربية المتحدة سوف تجد نفسها فى موقف يسمح لها بتقديم كل عون للمحاولة الدولية العديدة فى الكونجو حتى إذا اقتضى الأمر أن تعود قوات منها إلى العمل تحت قيادة الأمم المتحدة هناك.

 
ثالثاً :

 
وفيما يتعلق أخيراً بصدمة الشعوب الأفريقية، مما حدث فى الكونجو، فإنى أظنكم تقفون معى فى الرأى على أن الأمور- لو قدر لها أن تسير فى هذا الطريق- فإن تطورات الحوادث بعد ذلك كفيلة بأن تعيد إلى شعوب أفريقيا من جديد، ذلك الضوء الذى حرمت منه خلال التطورات الأخيرة، بحيث تشعر تلك الشعوب- أنها عضو فى المجتمع الدولى تلقى منه الاهتمام المجرد، كما يلقى منها الثقة، وذلك هو الجو الذى ننشده لكى يتم التطور الكبير المنتظر في أفريقيا فى إطار سلمى، وهو إطار أشعر- بإخلاص- بشدة حـاجة أفريقيا اليه، وإلا كان معنى ذلك أن العذاب الذى تتعرض له شعوبها لن تكون له حدود ولن تكون له خاتمة.

 
وأخيرأ فإنى أرجو- يا عزيزى الرئيس- أن تتقبلوا خالص التحية والتقدير، وأني لأرجو الله أن يقود خطواتنا جميعاً إلى آمال السلام والعدل التي تتطلع اليها شعوبنا.

 
القاهرة فى 20 فبراير 1961                                                                  توقيع

                                                                                              جمال عبد الناصر

 
----------------------------

 
كان عبد الناصر مقتنعاً بمسئولية الولايات المتحدة فى الحفاظ على وجود الأمم المتحدة . وذات مرة أثار ثائرة همرشولد إذ قال له : " أرني الخط الذى تنتهي عنده الولايات المتحدة وتبدأ عنده الأمم المتحدة " .

 
ورد كنيدى على عبد الناصر فى 2 مارس (آذار) 1961، برسالة أوصلتها إليه السفارة الأمريكية فى القاهرة . وكان مثل عبد الناصر رقيقاً فى عباراته، لكنه كان كذلك مماثلا له في تحديد المواقف ، وقد أشار إلى مشروع قرار جديد تبنته مصر وأيدته الولايات المتحدة وصادقت عليه الجمعية العمومية حينما كان عبد الناصر يعد رسالته وبالتالى فإن الوضع قد تحسن بعض الشئ بصدور القرار.

 
وحدد كنيدى النقاط المتفق عليها بصورة عامة بين البلدين بشأن الكونجو

 
(أ) على الأمم ا-لمتحدة أن تلعب دوراً أكبر- وليس دوراً أصغر- فى إعادة الاستقرار الداخلى الى الكونجو.

 
(ب) يجب إبعاد الكونجو عن الحرب الباردة .

 
(ج) يجب التحقيق بشدة وعلى قدم المساواة في حوادث الاغتيال السياسى سواء اغتيال لومومبا ومؤيديه أم- كما حدث مؤخراً- اغتيال خصومه على أيدى جماعة ستانلى فيل ويجب استنكار هذه الاغتيالات السياسية بقوة وشدة.

 
(د) يجب النظر بعين الخطورة البالغة إلى كل مساعدة تعطى- خارج نطاق الأمم المتحدة- لأى فئة من الفئات المتنازعة في الكونجو، سواء أكانت مساعدة بالرجال أم بالمعدات أم بالمال ، وحظرها قطعياً .

 
ومضى كنيدى يقول في رسالته بالنص :

 
" ولن أكون صريحاً بقدركاف إذا لم أشر إلى أنه من رأينا أن أى اعتراف بفئات كونجولية بدلا من الاعتراف بالحكومة الشرعية التى اعترفت بها الأمم المتحدة رسمياً ، لن يؤدى في النهاية إلا إلى تقويض هيبة الأمم المتحدة وسلطتها وكما أنه سوف يزيد فرص نشوب الحرب الأهلية بما يرافقها عادة من تدخل خارجي .

 
ولقد شددتم- يا سيادة الرئيس- على " المسئوليات الخاصة " التى تشعرون أنها تقع على عاتق حكومتى، فما يتعلق بالأمم المتحدة... والواقع أننا نقبل مسئولياتنا كاملة فى ظل ميثاق الأمم المتحدة . إلا أني أود أن أشير إلى أن دولا أخرى ، وخاصة الدول غير الملتزمة ذات النفوذ، تتحمل هى الأخرى منفردة ومجتمعة مسئوليات جسام، كما وتتمتع بفرص خاصة.

 
أن في وسع الولايات المتحدة، أن تعنى بنفسها، لكن نظام الأمم المتحدة قائم لكي تتمتع كل دولة بضمان يؤكد لها سلامتها. وعلى تلك الدول التى يجب أن تعتمد- إلى مدى بعيد- على هذا النظام كوسيلة للحفاظ على سلامتها واستقلالها ، أن تتصدر الصفوف في إيضاح تأييدها الثابت الراسخ لاستمرار أعمال الأمم المتحدة في الكونجو بموجب السلطات المخولة لها.

 
وبهذا وحده يمكن حل مشكلات الكونجو الفورية، ويمكن الحفاظ على الأمم المتحدة كقوة بناءة كبرى تعمل من أجل السلام ، والتطور المنظم في ميدان الشئون العالمية. وإنني لأرحب بدلائل دعمكم الشخصى لهذه المهمة العاجلة .

 
وإني لأقدر تمنياتك الطيبة وأبادلك مثلها .

                                                                                                 المخلص                                                                                           

                                                                                           جون . ف . كنيدى

 
------------------------

 
وقد كان تبادل الرساثل على هذا النحو،  نموذجاً للطريقة التى اتبعها عبد الناصر وكنيدى فى معالجة شئون العلاقات بين بلديهما...

 
فقد كانت كل أزمة وكل مشكلة وكل اتفاق يؤدى-  بين الرجلين- إلى تبادل في الرسائل ، يرسم- كاللقاءات بين عبد الناصر وهمرشولد- خطاً بيانياً لتقدم علاقتهما وكان الخط البيانى يتجه إلى أعلى أحياناً ، إلا أنه كان هابطا معظم الأحيان.

 
وكان ذلك الخط البياني فى ارتفاع عندما كتب كنيدى يوم 17 أبريل (نيسان) 1961، إلى عبد الناصر رسالة تعريف بهنرى كابوت لودج.

 
وكانت مصر ، بسبب خصامها مع الشيوعيين ، قد بدأت تعانى من المشاكل التى يواجهها طلابها الذين يدرسون فى الاتحاد السوفييتى، بعد أن بدأوا يتعرضون للمضايقة والتعجيز وأخذوا يعيشون فى ظرف غير مريح.

 
من هنا ، فإنه عندما سأل الأمريكيون الرئيس- عبد الناصر ، عما إذا-كان فى وسعهم أن يفعلوا شيئاً من أجله، سألهم بدوره إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لأن تستقبل في الجامعات الأمريكية جميع الطلاب المصريين الذين كانوا يدرسون فى الاتحاد السوفييتى- وقتها-  وعددهم 240 طالباً ..

 
وفوجى الأمريكيون وترددوا في قبول مثل هذا العدد الكبير من الطلاب دفعة واحدة لكن عملية الانتقال رتبت، و تحول الطلاب من الاتحاد السوفييتي إلى أمريكا .

 
وكان لودج يقوم بجولة في البلاد الأفريقية، كممثل للمجلس القومى الأمريكى للتعليم ، وكما أشاركنيدى فى رسالته، كان المجلس قد ساعد بشكل خاص فى الترتيبات المتعلقة بطلاب الجمهورية العربية المتحدة، الذين جاءوا إلى هذه البلاد في خريف 1959، بطلب خاص من حكومة الجمهورية العربية المتحدة.

لذا كان لودج موضعا للترحيب .

 
ومضى كنيدى في رسالته تلك يقول : " إن زوجتى- جاكلين كنيدي- تقدر تقديراً عميقاً الدعوة  التى تلقتها مؤخراً من وزير الثقافة والإرشاد القومى فى حكومتكم لحضور تدشين حفلات " الصوت والضوء " عند الأهرامات . وانه لمما يؤسفنا معاً أن ارتباطات سابقة تحرمها من امتياز مشاهدة هذا الاستعراض الجميل فى إطاره التاريخى الجميل ... "

 
ولكن بينما كان كنيدى يخط هذه الرسالة كان الخط البيانى ينحدر نزولا. ذلك أن هذه كانت فترة معركة خليج الخنازير في كوبا وكان عبد الناصر قد أعلن مع تيتو عن تأييده الكامل والمطلق لكاسترو.

 
وسارع كنيدى بالكتابة إليه بسرعة فى خطاب يحمل تاريخ 3 مايو (آيار) 1961، عرض فيه وجهة النظر الأمريكية التى كانت تتردد في ذلك الوقت لتنفى أن يكون هناك أى تدخل فى كوبا بواسطة القوات المسلحة الأمريكية وقال كنيدى في خطابه لعبد الناصر:

 
" لو كان هناك تدخل أمريكى فإنى أعتقد بأنك ستوافقني على أن النتيجة لم تكن لتصبح موضع شك " .

 
واستطرد كنيدى:

 
" إن الأحداث المفجعة التى وقعت هناك ليست سوى مناسبة أخرى ، يمتلى التاريخ بأمثلة كثيرة منها، حمل فيها مواطنون محبون للحرية السلاح من أجل تخليص بلادهم من الطغيان والاستبداد . إن جماعات صغيرة من الوطنيين الكوبيين- التى عزمت على استعادة الاستقلال السياسى لوطنها بأى ثمن- خاطرت بحياتها في وجه ظروف مستحيلة، فقتل أفرادها أو أسروا وهربوا للانضمام إلى حركة المقاومة التى تواصل النضال في التلال .

 
إن حكومة الولايات المتحدة ستواصل بذل كل ما تستطيعه لضمان عدم تورط أى أمريكى فى أيه أعمال داخل كوبا، لكن الشعب الأمريكى، باعتباره شعباً محباً للحرية، لا يمكن أن يبقى جامداً حيال النكبة التى حلت بجيرانه سكان كوبا المحبين للحرية، كما لا يمكنه إلا أن يتعاطف مع أولئك الذين لجأوا إلى القوة لإنقاذ بلادهم من الطغيان.

 
إن سيادتكم- باعتباركم زعيما ثورياً- تعون جيداً تلك القوى التى تستطيع أن تحرك الرجال وتغير أقدار الأمم . ولقد كانت هناك مزاعم تقول إن أولئك الرجال الأحرار الذين سعوا معتمدين على جهودهم الخاصة إلى قلب نظام كاسترو كانوا من المرتزقة المأجورين ، الا أن الأنباء ذكرت أن آخر رسالة - بعث بها قائد الثوار عندما سئل إذا كان يرغب في ترحيله هى " لن أغادر قط هذه البلاد ". إن هذا ليس جواب مرتزق إنما جواب مناضل وطنى .

 
إن القرار النهائى فى كوبا، سيتخذه الكوبيون أنفسهم . وإننى مقتنع مع غيرى من الأمريكيبن بأنه- بهذه الروح- سوف ينتصر الشعب الكوبي في النضال من أجل الحرية.

 
إن الأهداف المعلنة للثورة الكوبية الى أوصلت كاسترو إلى الحكم والتى يمكن بسهولة لأغلبية الأمريكيين التعاطف معها، قد تعرضت للخيانة، لم تكن السجون الكوبية يوماً كما هى اليوم مليئة بالسجناء السياسيين. وقد تم حتى الآن، بدون اعتبار للإجراءات القانونية اللازمة، إعدام أكثر من 600 سجين بلا جريمة، والعدد يزداد يومياً - إن خرق الحقوق الإنسانية  في كوبا ، منذ أن وصل كاسترو إلى الحكم أرغم 100.000 كوبي- على الأقل- على الهروب من وطنهم.
إن الثورات القومية الأصيلة مثل ثورتكم لم تؤد الى مثل هذه المحنة. مثلا :

أن 23 وزيراً من أعضاء حكومة كاسترو الأولى هم الآن : إما فى السجن أو فى المنفى أوفي المعارضة، بل إن أحدهم تم  إعدامه. إن الشعب الأمريكي لا يستطيع أن يخفي عطفة على أولئك الكوبيين الذين يناضلون ضد الاستبداد الذى لا يعرف الرحمة .
والواقع أنه كان هناك رد فعل تدخل فى شئون كوبا- الداخلية. إن دولة من خارج القارة الأمريكية- معادية للعالم الحر- سعت عن طريق استخدام  نظام كاسترو لاستغلال أمانى الشعب الكوبى وتحقيق أهدافها الإمبريالية فى الحرب الباردة .
وربما تذكرون أننى قلت للشعب الأمريكى فى 20 أبريل (نيسان) ، إننا لا ننوى أن نستمع إلى محاضرة عن " التدخل " من قبل أؤلئك الذين تركوا إلى الأبد طابعهم على الشوارع الدامية فى بودابست... "
كان ذلك موقف كنيدى وهو يحاول تغطية الفشل الذريع أمام الثورة الكوبية.
 
 
 
ورد عبد الناصر على هذا- الكتاب برسالة مطولة من القاهرة فى تاريخ 18 مايو ( آيار) 1961، قال فيها بالنص :

 
عزيزى الرئيس

 
لقد تلقيت باهتمام خاص خطابكم إلى بتاريخ 3 مايو ، والذى دار موضوعه حول الموقف في كوبا، من ناحية التصريح الدى صدر عنى بشأنه بتاريخ 18 أبريل- الماضى، وكذلك البيان الرسمى الذى أعقبه في اليوم التالى صادراً - بالاشتراك بين المارشال تيتو وبينى .

 
وقبل أن استطرد إلى موضوع هذا الخطاب، فإنى أريد أن أسجل تقديرى للروح التى أملت عليكم أن تكتبوا إلى فى هذا الموضوع ، وإنى لأعتبرها بادرة طيبة من جانبكم تعزز جهود الفهم المشترك بين شعب الولايات المتحدة وشعبنا.

 
فليس أدعى إلى التقريب بين الشعوب من أن يتاح لكل منها مجال معرفة رأى غيرها ، وإدراك الحوافز التى تحرك سياسته وتدفع خطاه فى مجرى التاريخ.

 
من هنا ، فإنه مهما كانت خلافات الرأى بيننا فى النظر إلى الأحداث الأخيرة في كوبا ، فإن تقديرنا سوف يبقى عميقاً وصادقاً لمحاولتكم إطلاعنا على فكركم فيه ، وإنى لأرجو أن تكون هذه البادرة مقدمة لمحاولة جديدة لتعميق العلاقات ما ببن بلدينا وتقوية أسباب التعاون الودى البناء بينهما.

 
فإذا ما انتقلت بعد هذه المقدمة إلى موضوع خطابكم فى حد ذاته، فإنى أستأذنكم في أن أتحدث إليكم بوحى من قول محمد الرسول : " صديقك من صدقك لا من صدّقك "، ذلك أننى أؤمن أنه من ألزم الأشياء فى الظروف التى يجتازها العالم الآن : أن يجرى تبادل الرأى بين الذين يعنيهم مستقبله، في صدق وفي وضوح .

 
وإنى لأمهد بهذا القول لإعفاء نفسى من التقيد باللغة الديبلوماسية التقليدية فى حديثى إليكم، إيمانأ منى:

 
أولا- بأن دقة الموقف الدولى أصبحت تستلزم مواجهة الحقائق ، دون محاولة لسترها وراء العبارات التقليدية.

 
ثانياً - بأن حسن النية- المستمد من طبيعة المبادئ التى نؤمن بها- هو. دافعنا الوحيد إلى الاهتمام بحوادث كوبا...

 
ثالثاً- بأنكم- وقد أحسست ذلك من متابعتى لطريقة حملتكم الانتخابية فى الخريف الماضى حينما كنت أحضر دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة- تحاولون مواجهة المشاكل بمنطق شاب ومتحرر، وتتطلعون إلى ما أطلقتم عليه اسم " الحدود الجديدة ".


وأنتقل بعد هذا التمهيد إلى موضوع الأحداث في كوبا- وموقفكم منها، ورد الفعل الذى كان من تجاهنا- محاولا أن أعرض عليكم بأمانة تصورنا- من غير ما إمعان فى تبسيط الأمور أو تعقيدها- عما تقتضيه النظرة المنصفة المجردة إليها.

1- العلاقات الأمريكية الكوبية :
 
لست أريد أن أقحم نفسى فى موضوع الخلاف بين البلدين، ولكنى أريد إبداء بعض الملاحظات على أساس من تجربتى الشخصية.

 
لقد أتيح لى أن أجتمع بالدكتور فيدل كاسترو- رئيس وزراء كوبا- مرتين ودار الحديث بيننا باستفاضة، ولقد أحسست بإخلاصه في تعبيره عن رغبته في إقامة علاقات ودية بين بلاده وبين بلادكم التى هى جارها القوى المتقدم.

 
ولقد أحسست على أى حال أن عقدة العلاقات بين بلديكما ، تكمن في الحاجة إلى مزيد من الدراسة لمشاكل الشعوب المتطلعة إلي تطوير حياتها المستقلة، عندما تحل فى تاريخها لحظات التفجر الثورى وتمتزج في تصرفاتها رواسب الماضى بآمال المستقبل في جو تؤثر عليه العوامل المقاومة للتغيير الثورى من ناحية ، وظروف الحرب الباردة والتوتر الدولى الناشئ بسببها من ناحية أخرى.

 
وفى مثل هذه الظروف فإن أية محاولة من الخارج تزيد الأمور بلبلة وتعقيداً انما خير ما يمكن عمله هو ترك هذه الشعوب- من غير ما تدخل فى شئونها- تنظم أمرها وتفتح بنفسها الطريق أمام إرادتها الحقيقية وهى على ذلك قادرة .

 
ولست أخفي عليكم، أنه كان فى أماني لو أن حكومتكم قامت- بعد توليها مسئولياتها- بمحاولة جديدة تجاه كوبا غير متأثرة بالظروف النفسية التى حكمت العلاقات بين البلدين فى الفترة السابقة لاضطلاعكم بمسئوليات الحكم خصوصاً أننا شعرنا من جانب الحكومة الكوبية باستعدادها للاستجابة لمثل هذه المحاولة.

 
وأحب أن أكرر لكم أننى لا أقصد أن أقحم نفسى في موضوع الخلاف بينكما، ولا أن أبيح لنفسى حق أن أشبر عليكم بما كان ينبغى، أو ربما لم يكن ينبغى عمله.


انما من الرغبة فى الصدق- أول واجبات الصداقة فى اعتبارى- سمحت لنفسى أن أبدى لكم ملاحظاتى.

2- الاحداث الاخيرة فى كوبا
 
من واجبى في هذا الموضوع أن أقول لكم إن الانطباع الذى أحسست به فى الجمهورية العربية المتحدة- وأحس به كثيرون فى أرجاء العالم- أن الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن الأحداث المؤسفة التى جرت في كوبا.

 
ولم يكن الأمر بالنسبة إلينا يحتاج الى إجهاد كبير، فإن مجرد قراءة  الصحف الأمريكية ومتابعتها، بل إن متابعة التصريحات الرسمية المنسوبة الى عدد من كبار المسئولين في حكومة الولايات المتحدة، كانت كافية لترسم أمامنا حدود التدخل الأمريكى فى حوادث كوبا، بل تفاصيل هذا التدخل إلى دقائقها الصغيرة.

 
ولست أخفى عليكم أن ذلك كله كان صدمة كبرى للرأى العام العالمى ، لكننا نشعر- بشرف- أن علاج هذه الصدمة لا يكمن في إنكار ما حدث ، انما العلاج يكمن فى مواجهته بصراحة، بغية تجنب تكراره.

 
ولقد كان إعجابنا فائقاً بالشجاعة الأدبية التى أعلنتم بها تحمل المسئولية فى موقف حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أحداث كوبا ، ولقد شعرت بأن تقدمكم لتحمل المسئولية، كان فيما بدا لنا بعد ذلك نقطة تحول أوقفت ما بدا أمامنا في وقت من الأوقات من اندفاع السياسة الأمريكية إلى صدام علنى محقق مع الحكومة الكوبية.


كذلك نسجل لكم هنا بالفضل عدم تدخل القوات الأمريكية المسلحة فى أحداث كوبا، وإصراركم فى جميع تصريحاتكم على عدم تدخلها، وهو موقف نعتقد أنه صان الموقف في كوبا من تدهور بعيد الأثر كما صان  السلام العالمى من كارثة بدا لأول وهلة كأن تجنبها صعب مستحيل .



3 - موقفنا من أحداث كوبا:
 
إننا في سياستنا الدولية نؤمن بعدم الانحياز، وليس عدم الانحياز من وجهة نظرنا سلبية وليس انتهازية، إنما معناه بالنسبة إلينا تحرير نظرتنا إلى المشاكل الدولية من قيود الارتباطات غير الموضوعية، وجعلها نظرة مستقلة، تشارك !يجابياً فى دعم- السلام القائم على العدل ، وتبدى رأيها في كل مشكلة بوحى من هذا الاعتبار..

 
وفي موضوع كوبا كان موقفنا التزاماً طبيعياً بالمبادئ التى نؤمن بها.

 
ولم يكن هدفنا من هذا الموقف أن نقف ضد الولايات المتحدة إنما كان الهدف الأصيل أن نقف مع معتقداتنا النابعة من ضميرنا الوطنى.

وأحب هنا أن أتطرق إلى موضوع أشرتم سيادتكم إليه، وهو ما بدا من تناقض بين اعترافنا بما كان لكم من فضل في تأييدنا إبان العدوان علينا سنة 1956، وبين المقارنة التى عقدناها بين ذلك وبين حوادث كوبا.

 
وأود أن أضيف لكم أنه لا شيء سوف يقلل من عرفاننا الدائم لموقف الولايات المتحدة، شعبها وحكومتها، من قضية العدوان علينا، ذلك موقف سوف يبقى تطلعنا إليه بالاعتزاز والتقدير.

 
لكن الأمانة تقتضينا إن نسلم أنه اذا كانت الولايات المتحدة قى أزمة السويس، اختارت المباديء لا الأصدقاء، فإنها فى أزمات أخرى ، وقعت فى المتناقضات المؤسفة ، بين المعانى التى قامت عليها الديمقراطية الأمريكية والاستقلال الأمريكى ، والاعتبارات الاستراتيجية لدولة تتحمل مسئوليات عالمية النطاق . وتخوض صراعاً مذهبياً عميق الجذور، ثم تجد- نفسها نتيجة لهذا كله مشدودة إلى محالفات وارتباطات مع عدد كبير من الظروف والقوى .

 
عزيزى الرئيس

 
إننى أرجو أن تحمل الملاحظات الى أبديتها جميعاً ، على محملها الصحيح باعتبارها صادرة عن إعجاب عميق بالمبادئ العظيمة  التى صنع بها الشعب الأمريكى هذا التقدم الباهر الذى وصل إليه، وعن تقدير كبير للمسئوليات التى تحملون-- شخصياً- أمانتها تجاه الجنس البشرى وأمله فى سلام قائم على العدل، وعن رغبة مخلصة فى تقوية أواصر الفهم والصداقة ما بين شعبينا.

 
وتقبلوا- يا سيادة الرئيس- صادق الود مصحوباً بأخلص الأمانى للشعب الأمريكى ولكم.

 
القاهرة في 18 مايو 1961                                                                توقيع

                                                                                         جمال عبد الناصر


 
ولكن كنيدى كان قد تخطى هزيمة خليج الخنازير ومضى فى طريقه قدماً . وكان قد بدأ يحاول إعادة تحريك السياسة الخارجية الأمريكية من جديد من فترة الجمود التى حلت بها فى نهاية عهد أيزنهاور. وككثير من الساسة الأمريكيين وجد نفسه مشدوداً إلى الشرق الأوسط ذلك أن أهميته الاستراتيجية وأماكنه المقدسة، كلها تجعل منه منطقة مهمة تجتذب السياسيين كالمغناطيس .

 
ولما كان كنيدى يتطلع إلى احراز نصر ديبلوماسى خارجى إثر الكارثة الكوبية، فقد جاء كنيدى بمعاونين جدد وبأفكار جديدة. وعين سفيراً جديداً فى القاهرة هو جون بادو الذى شغل منصب عميد الجامعة الأمريكية في القاهرة عشر سنين . وقد رحب الرئيس عبد الناصر بهذا الاختيار- برغم ريبته فى المتخصصين فى الشئون العربية- لأنه اعتقد أن بادو يدرك أماني شباب مصر ومشكلاته.

 
ووصل بادو مفعماً بالحماسة . وأصر فى اجتماعه الرسمى الأول مع عبد الناصر على التحدث بالعربية. وكانت المشكلة تكمن فى أنه يتحدث العربية الفصحى بلكنة أمريكية فكان أن أصبح الحديث مشوشاً بعض الشيء إلى أن طلب منه الرئيس عبد الناصر أن ينتقل إلى التحدث بالإنجليزية، وتأئرت مشاعر بادو المسكين .

 
وعلى كل حال فقد بدا أن بادو يمثل الحكومة الجديدة المندفعة، التى توحى بالثقة، والتي تسلمت مقاليد الحكم في واشنطن . ولم يمض وقت طويل حتى قام كنيدى بنقلته الأولى في لعبة الشرق الأوسط المجمدة.

 
فقد كتب في 11 مايو ( آيار) 1961، إلى الرئيس عبد الناصر رسالة مطولة مفصلة يعبر فيها عن صداقته ودعمه للدول العربية ، وحرص فيها على أن يعدد مختلف مواد المساعدة التى كانت تقدمها الولايات المتحدة إلى مصر. ولكن لب الرسالة كان يدور حول " النزاع العربي- الإسرإثيلى الذى لم يحل".

 
وقد كتب كنيدى فى رسالته يقول:

 
" إنى أعرف أن القضية تنطوى على تعقيدات عاطفية عميقة، ليس من السهل إيجاد حل سريع لها. وتؤمن أمريكا- حكومة وشعباً- بأنه يمكن الوصول إلى تسوية مشرفة وإنسانية مستعدة للمشاركة فى تحمل كافة الأعباء والأعمال التى لابد أن ينطوى عليها مثل هذا الإنجاز العسير، هذا إذا كانت الأطراف المعنية ترغب رغبة صادقة حقيقية في مثل هذه المشاركة.

 
وإننا لعلى استعداد للمساعدة في حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المأساوية على أساس مبدأ  إعادة التوطين أو التعويض عن الممتلكات، وعلى المساعدة في إيجاد حل منصف لمشكلة تنمية مصادر مياه نهر الأردن وأن نقدم عوننا لإحراز التقدم في الجوانب الأخرى من هذه المشكلة المعقدة... "

 
وكان هناك المزيد من الكلام المشابه.

 
--------------------

 
لم يرد عبد الناصر على هذه النقلة الاستهلالية فى لعبة الشطرنج، حتى 18 أغسطس (آب) 1961، وفى ذلك  التاريخ كتب إلى كنيدى يقول بالنص :

 
عزيزى الرئيس جون . ف . كنيدى

 
لقد تلقيت بمزيد من الارتياح والتقدير خطابكم إلى بتاريخ 11مايو والذى تفضلتم فيه بإثارة بعض جوانب المشكلة، ذات الأهمية البالغة والخاصة، بالنسبة إلى الأمة العربية على اختلاف شعوبها، وهى- دون شك- قضية فلسطين.

 
وإذا كنت قد تأخرت في الرد على هذا الخطاب فلقد كان باعث التأخير هو إعطاؤه ما يستحقه من فرصة الدراسة الدقيقة المتأنية.

 
ولعل مبعث الارتياح الذى شعرت به حين تلقيت خطابكم، كما أشرت فى العبارة الأولى من هذا الخطاب، أننى كنت من جانبي أقلب النظر فى فكرة الاتصال بكم بشأن هذه القضية نفسها التى أثرتم في خطابكم بعض جوانبها.

 
ولقد كان فكرى فى الاتصال بكم ، يرتكن على مجموعة من العوامل :

 
أولا- أن ما تم بالفعل من تبادل المراسلات بيننا في عدد من مختلف المشاكل العالمية كان واضحاً فى دلالته على أنكم تحاولون فتح أبواب التفاهم - وإبقاءها مفتوحة- بينكم وبين عدد من الشعوب الأخرى التى تولى قضايا السلام اهتمامها الأول حفاظاً على هذا السلام وصوناً للجنس البشرى مما يتهدده من أخطار. وفي اعتبارنا أن الوصول إلى التفاهم المشترك بين الشعوب ، هو في الوقت نفسه إقامة فرص للسلام على أمتن الأسس وأصلبها.

 
ثانياً - أن قضية فلسطين وما تفرع عنها من مشاكل ، هى بجانب كونها من القضايا الرئيسية التى تمس السلام العالمى مباشرة فى عصرنا ، هى في الوقت نفسه ذات اتصال وثيق بالعلاقات ما بين شعبينا، وأحب هنا أن أضيف أننى لا أربط احتمالات التفاهم بيننا بضرورة التقاء وجهات نظرنا فى هذه المشكلة على نحو كامل التطابق ، إنما الذى - أقوله هو أنه من الأمور الحيوية في هذا  الصدد أن تكون لدى كل منا صورة واضحة للحقيقة، بقدر ما يمكن أن يبدو منها إنسانياً من وراء ضباب الزمان، ودخان الأزمات.

 
ثالثاً - أننى تابعت باهتمام كل مرة تعرضتم فيها لهذه المشكلة سواء فيما ألقيتم من خطابات فى الكونجرس ، حين كنتم تمثلون ولاية " ماساشوستس "، أو ما صدر عنكم خلال حملة انتخابات الرئاسة، ولست أخفى عليكم أننى قبل أن يصلنى خطابكم كنت- من تأثير فكرة الاتصال بكم فى موضوع فلسطين- أحاول أن أستشف صورة لموقفكم من خلال سطور كتابكم عن استراتيجية السلام- ولقد كان إحساسى- بما قرأت عنكم مباشرة ، أو بما نسب إليكم في هذا الموضوع- يجعلني أعتقد أن هناك زوايا كثيرة في المشكلة تستحق مزيداً من الضوء.

 
على أننى برغم هذا كله تصورت أنه ربما كان المناسب أن أرجيء الاتصال بكم في هذا الأمر باعتبار ما كان يواجهكم من مشاكل ضخمة ذات طابع ملح وعاجل في الميدان الدولي .

 
ومن هنا- كما قلت لكم- أثار ارتياحى أنكم أخذتم المبادرة وكتبتم إلى فى بعض زوايا الموضوع الذى كان بودى أن أحدثكم من جانبي في صورته الكاملة كما نراها هنا على الناحية العربية منها، ولست أريد هـنا أن أملأ هذا الخطاب بالوثائق ومعانيها والقرارات وأحكامها، فذلك كله قد يكون له مجاله، إنما أنا هنا أحاول أن أنقل إليكم تصورنا العام للمشكلة، واسمح لى هنا أن أؤكد لك أن هذا التصور لا يقوم على أساس عاطفى، إنما ما حدث مادياً هو أساسه الوحيد.

 
سيادة الرئيس


إسمحوا لى أن أضع أمامكم الملاحظات الآتية، لعلها تساعد مترابطة على توضيح صورة سريعة للمشكلة.
 
1-  لقد أعطى من لا يملك ، وعداً لمن لا يستحق ، ثم استطاع الإثنان – " من لايملك " و " من لا يستحق " - بالقوة وبالخديعة، أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه، فيما يملكه  وفيما يستحق .

 
تلك هى الصورة الحقيقية لوعد بلفور، الذى قطعته بريطانيا على نفسهـا ، وأعطت فيه- من أرض لا تملكها، إنما يملكها الشعب العربي الفلسطينى- عهداً بإقامة وطن يهودى في فلسطين .


وعلى المستوى الفردى- يا سيادة الرئيس- فضلا عن المستوى الدولى، أن الصورة على هذا النحو تشكل قضية نصب واضحة تستطيع أى محكمة عادية أن تحكم بالإدانة على المسنولين عنها.
 
2-  ومن سوء الحظ- يا سيادة الرئيس- أن الولايات المتحدة وضعت ثقلها كله في غير جانب العدل والقانون فى هذه القضية، مجافاة لكل مبادىء الحرية الأمريكية والديمقراطية الأمريكية، وكان الدافع إلى ذلك مع الأسف هو اعتبارات سياسية محلية لا تتصل بالمبادىء الأمريكية بل ولا بالمصلحة الأمريكية على مستواها العالمى، ولقد كانت محاولة اكتساب الأصوات اليهودية في انتخابات الرئاسة هى ذلك الدافع المحلى . ولقد قرأنا لأحد السفراء الأمريكيين السابقين في المنطقة أن سلفكم المستر هارى . س . ترومان لما ألقى بكل قوته، وفيها بالقطع قوة منصبه الخطير، على رأس الأمة الأمريكية ضد الحق الواضح فى مستقبل فلسطين ، لم يكن له من حجة إزاء الذين لفتوا نظره من المسئولين إلى خطورة موقفه غير قوله:


" هل للعرب أصوات فى انتخابات الرئاسة الأمريكية؟ "
 
3- إن خرافة الانتصار العسكري ، الذى تحاول بعض العناصر أن تقيم على أساسه حقاً مكتسباً للدولة الإسرائيلية فى فلسطين ، ليست إلا وهماً  صنعته الدعايات التى بذلت جهدها لإخفاء معالم الحقيقة .


ولست أريدك أن تسمع- في هذا المجال- شهادتي كجندى عاش هذه التجربة بنفسه، إنما وثائق الأمم المتحدة وتقارير وسيط الهدنة الدولية في فلسطين ولجانها، تستطيع أن تثبت لك أن القوات الإسرائيلية لم تستطع احتلال ما احتلته من الأراضى خلال المعارك ، إنما من العجب أن ذلك كله تم خلال الهدنة، ولقد كان ما فعله العرب في ذلك الوقت أنهم أحسنوا الظن بالأمم المتحدة ، وتصوروها قوة قادرة على فرض العدل ، خصوصاً إذا كان العدل- أساساً- هو كلمتها وقرارها، ولقد ظن العرب أن الجانب الإسرائيلى سوف يعاقب على خرقه لأحكام الهدنة الدولية ، وأن ما تسلل إليه من الأرض تحت ستار الهدنة سوف يعاد إلى مكانه الأصلى ، ومن سوء الحظ أننا عوقبنا فيما بعد على أن نظرتنا إلى الأمم المتحدة كانت نظرة مثالية تنبع من الثقة.

4- إن الخطر الإسرائيلى بعد ذلك كله ، لا يمثل مجرد ما تم حتى الآن من عدوان على الحق العربي. إنما هو يمتد إلى المستقبل العربي ويهدده بأفدح الأخطار. وإذا ما لاحظتم استمرار الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وتشجيعها وفتح الأبواب أمامها رأيتم معنا أن هذه الهجرة تصنع ضغطاً داخل إسرائيل لابد له أن ينفجر ويتجه إلى التوسع ، ولعل ذلك هو التفسير المنطقي للتحالف القوى بين إسرائيل ومصالح الاستعمار فى منطقتنا، فإن إسرائيل منذ قيامها لم تبتعد كثيراً عن الفلك الاستعمارى . وكان واضحاً أنها تشعر بترابط مصالحها مع الاستعمار. كذلك كان الاستعمار من  ناحيته يستخدم إسرائيل كأداة لفصل الأمة العربية فصلا جغرافياً عن بعضها. وكذلك أن يستخدمها كقاعدة لتهديد أى حركة تسعى للتحرر من سيطرته. ولست في حاجة للتدليل على ذلك  إلا بتذكيركم بالظروف التى تم فيها العدوان الثلاثى علينا، والتواطؤ الذي سبقه سنة 1956.
 
من هذا العرض السريع للصورة في خطوطها العامة أردت أن أقول لكم إن موقفنا من إسرائيل ليس عقدة مشحونة بالعواطف إنما هو:

 
عدوان تم في الماضى.

 
وأخطار تتحرك فى الحاضر.

 
ومستقبل غامض محفوف بأسباب التوتر والقلق معرض  للانفجار في أي وقت .

 
ولكي أكون منصفاً ، قإنه يبدو لى أن بعض العناصر العربية قد ساهمت في تصوير المشكلة لديكم باعتبارها شحنة عاطفية. وأذكر في هذا المجال أن سلفكم الرئيس دوايت ايزنهاور قال لى عندما كان لى- شرف لقاثه في نيويورك  في 26 سبتمبر 1960: إن بعض الساسة العرب كانوا يدلون بتصريحات علنية متشددة في موضوع فلسطين ثم يتصلون بالحكومة الأمريكية يخففون من وقع تشددهم قائلين : إن تصريحاتهم كانت موجهة إلى الاستهلاك المحلى العربى .

 
وإنى لآسف حقيقة أن هذد الأصوات المتخاذلة المترددة استطاعت أن تجد من يسمعها فى بلادكم ، وإن كانت في بلادنا- مهما تظاهرت بالتصلب في الحق- لم تجد من يسمعها أو يثق بها، ولقد أثبتت الحوادث فيما بعد على أى حال أن هؤلاء الذين خدعوكم لم يتمكنوا من خداع شعوبهم .

 
سيدي الرئيس

 
لقد حاولت أن أكون صريحاً إلى أبعد حدود الصراحة في حديثي اليكم ، وقد يبدو من أصول اللغة الديبلوماسية التقليدية ، أننى جاوزت ما تفرضه اعتبارات المجاملة. ولكنى أؤكد لكم أنه في اعتبارى لا يوجد أشرف في تكريم الصديق والحفاوة به خيراً من التعبير الصادق كما يحس به صاحبه ، ومن هذا الأساس فإني أستأذنكم بعدما عرضت للصورة من ناحيتها الإسرائيلية : أن استطرد للناحية الأمريكية منها.

 
واسمحوا لى أولا أن أؤكد لكم أن إيماني العميق- كان ولا يزال- أن الوصول إلى تفاهم عربي أمريكى هدف مهم بالنسبة إلينا يستحق أن نبذل من أجله كل الجهود ونحاول من أجله ولانيأس من المحاولة 10أو نمل .

 
ونحن في هذا نصدر عن تتبع واع لمجرى التاريخ الامريكي . وعن اعجاب عميق بخصائص الأمة الامريكية . وعن مشاركة مخلصة في كثير من مبادىء النضال التي استهدت بها امتكم العظيمة في صنع مكانها .


والآن أستأذنكم في إبداء هذه الملاحظات:
 
1- لقد حاولنا دائماً- ومازلنا نحاول ، ولسوف نصر دائماً على المحاولة- أن نمد أيدينا إلى الأمة الأمريكية، وأؤكد لكم أنه مما يحز في نفوسنا إلى أبعد الحدود أننا في كثير من الأحيان نجد يدنا معلقة وحدها في الهواء.

 
ولقد تفضلتم – ياسيادة الرئيس – وأشرتم في خطابكم ، إلى دور الرئيس وودرو ويلسون ، وفرانكلين روزفلت ، في بروز دول عربية مستقلة ذات سيادة متكافئة في المجتمع الدولي . 

 
واسمحوا لى أن أقول أن الرئيسين الكبيرين لا يمثلان في بلادنا آمالا تحققت بقدر ما يمثلان آمالا لم تتحقق .

 
لقد كانت في بلادنا ثورة وطنية عارمة تطلب حق تقرير المصير ، ولما أعلن الرئيس ويلسون نقطه الأربع عشرة المشهورة كان صداها على الثورة الوطنية العارمة في بلادنا قوياً وفعالا .

 
ولقد ذهب وفد يمثل الثورة الوطنية فى مصر- في ذلك الوقت- إلى باربس ليحضر مؤتمر الصلح و ينادى بحق مصر في تقرير مصيرها ، وكان هذا الوفد يرفع – بين ما يرفع من الأعلام- مبادئ الرئيس وودرو ويلسون نفسها ويستند إليها ، لكن الرئيس ويلسون رفض مقابلة هذا الوفد، كما أن الوفد لم يجد فرصة يشرح فيها قضية بلاده أمام مؤتمر الصلح في باريس . ولم يكن ، أمام هذا الوفد وأمام الشعب الذى أرسله إلى باريس ، غير المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاستعمار. وكانت القوة القاهرة سلاح الاستعمار لقمع الثورة الشعبية خلافاً مع كل دعوى عن تقرير المصير.


كذلك استطاعت مبادئ الأطلنطى الى أعلنها الرئيس روزفلت سنة 1941عن تحرير الشعوب . أن تشد إليها آمال شعبنا. ولربما كان سوء حظنا أن الرئيس روزفلت لم يعش ليرى يوم انتهاء الحرب حتى تتاح له الفرصة لوضع قوته الضخمة وقوة وطنه وراء المبادىء التى أعلنها وقت محنة الطغيان الفاشيستى .

2-  كانت الصدمة الكبرى في العلاقات العربية الأمريكية، هى غلبة اعتبارات السياسة المحلية الأمريكية، على اعتبارات العدل الأمربكى والمصلحة الأمريكية فى تقرير موقفكم من الظروف التى أهدر فيها الحق العربي فى فلسطين إهداراً كاملا، ولقد سبقت لى الإشارة إلى هذا الأمر حين تعرضت لمشكلة فلسطين من جانبها الإسرائيلى.
 
3- احتدم الخلاف بيننا، وزادت حدته مابين سنة 1954 وسنة 1955، بسب التباين بين نظرة كل منا الى مشكلة واحدة ، هى مشكلة الدفاع عن الشرق الأوسط .

 
كان رأينا أن الأحلاف العسكرية  خصوصاً تلك التى تستند إلى قوى عالمية كبرى ، لا تكفل الدفاع عن الشرق الأوسط ، إنما هى تزيد تعرضه للخطر بمقدار ما تزج به في الحرب الباردة .


وكان رأينا أن الدفاع الحقيقى عن الشرق الأوسط تقوم به بلدان هذا الشرق الأوسط وأن ميدانه ليس الخطوط الدفاعية بقدر ما هو الجبهات الداخلية للشعوب ، وكان الاستقلال الحر غير المشروط ، والاتجاه المجدى إلى التطوير الوطنى البناء هو خير ضمان لسلامة الشرق الأوسط ضد أى عدوان كيفما كان مصدره ، ولقد أتيح لى أن أشرح بنفسى موقفنا هذا للمستر جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت عندما أتيحت لى فرصة لقائه سنة 1953 في القاهرة .

4- في غمرة المناقشة الكبرى حول الدفاع عن الشرق الأوسط  وقعت الحادثة التى كانت بمثابة نقطة التحول فى اتجاهات الحوادث وأعنى بها الغارة على غزة في فبراير 1955، حيث قام الجيش الإسرائيلى بغارة هجومية وحشية على مدينة غزة الفلسطينية، ولست أريد أن أصف هذه الغارة بأكثر مما وصفته بها وثائق الأمم المتحدة ، وقد وصفتها بأنها غارة " وحشية ومدبرة " ومع ذلك فإن وزير الدفاع الإسرائيلى . ورئيس الوزراء الحالى، بعث بتهنئته إلى الذين قاموا بها بناء على أمره ، ومواصلته الخطة العدوانية نفسها على مصر- فى ذلك الوقت- هذه الخطة التى كانت تستهدف الجبهة الداخلية لمصر- على حد ما تشهد به الوقائع المتسربة عما يسمونه عملية لافون فى إسرائيل و التى اتضح منها أن الهدف كان تفجير القنابل فى بلادنا وتدمير منشآتنا وإساءة العلاقات بيننا وبين دول صديقة بينها الولايات المتحدة الأمريكية التى وضع العملاء الإسرائيليون القنابل الحارقة أمام مكاتبها في القاهرة- وفى الوقت نفسه كانت هذه الخطة تستهدف خطوط الهدنة كما تجلى في الغارة على غزة.

ولقد دفعنا ذلك إلى الإحساس بأن انهماكنا في عملية التطوير الوطنى لا يجدى إزاء العدوان وتحتم أن نوجه جزءاً من الاهتمام- بجانب التطوير- إلى الاستعداد المسلح لرد العدوان إذا ما تحرك ضدنا.

ولقد كان من هنا أن بدأنا بطلب شراء السلاح من الولايات المتحدة بإلحاح، ولما ووجهنا بالمماطلة ثم بالرفض كان أن اتخذت قرار شراء السلاح من الاتحاد السوفييتى ، وأؤكد لك أننى سوف أظل أحتفظ بكثير من الوفاء لحكومة الاتحاد السوفييتى ، وأتصور أنك لوكنت مكانى لكان ذلك شعورك نفسه وأنت ترى التهديد يحيط بوطنك وتجد في الوقت نفسه أنك لا تملك وسيلة إنزال العقاب بالمعتدين .

5- كان من أثر ذلك أن مرت العلاقات بيننا بفترة عاصفة وجرت محاولة تشويه سياستنا الوطنية عن قصد وتعرضنا لألوان من الحرب النفسية بينها توجيه عدد من محطات الإذاعة السرية دعاياتها المسمومة إلى شعبنا بغية تحويله عن الصمود وراء حكومته الثورية ، ثم كانت ذروة الحرب النفسية هنا، ذلك القرار الذي اتخذ بسحب عرض المساهمة الأمريكية في تمويل سد أسوان العالى، وهو العرض الذى كانت الحكومة الأمريكية قد تقدمت مختارة مشكورة به ، ثم تبع ذلك انسحاب البنك الدولى من عملية تمويله، ولم يكن هناك شك فى أن الطريقة التى تم بها سحب هذا العرض كانت تنطوي على الكثيرمما لا يرضى الشعب العربى فى مصر لنفسه أن تتقبله.

6-  قدرنا للولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك موقفها في محاولة إيجاد  حل سلمى للمشكلة التى ثارت فى ذلك الوقت بعد تأميم شركة قناة السويس ، كذلك كان تقديرنا فائقاً للتأييد العظيم الذى لقيته قضية الحرية فى بلادنا من جانب الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكى وكان ذلك حينما تكشفت مؤامرة التواطؤ على بلادنا من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ، ثم حينما بدأت عملية الغزو- يوم 29 أكتوبر 1956- فى اليوم الذى كان محدداً لبدء المفاوضات في جنيف بغية الوصول إلى حل نهائي على ضوء قرارات مجلس الأمن بشأن قناة السويس . ولقد كان إحساسنا أن الشعب الأمريكى يشعر بموقفنا من ذكريات تجاربه في بيرل هاربور، وصدق إحساسنا. ومن سوء الحظ أن التحسن الكبير الذى طرأ على علاقاتنا فى ظروف المحنة الدامية بدأ  يتعرض لنكسة خطيرة ، فإن سياسة الولايات المتحدة اتجهت- في أعقاب إنهاء معركة السويس بهزيمة العدوان- إلى عزل مصر ومحاولة تحقيق أهداف العدوان بوسائل سلمية ، وكان ذلك عن طريق مشروع أيزنهاور الذى أراد معاملة الشرق الأوسط- على حد تعبيركم أثناء المناقشة بصدده في الكونجرس الأمريكى- كما لو كان مقاطعة أمريكية.

7- تعرضت سوريا بعد ذلك لأزمة خطيرة تهدد سلامتها، وكان ذلك بتأثير تجمع عدد من دول حلف بغداد ، سواء بمجموعهم كأعضاء منظمة، أو بجهودهم المنفردة ، وهو أمر كان يمكن أن تنجم عنه أوخم العواقب على سلامة الشرق الأوسط كله ، ولقد حاولنا مراراً أن نلفت نظر الحكومة الأمريكية إلى خطورة مثل هذه الجهود الهدامة من جانب حلف بغداد ودوله.

8- إنهار حلف بغداد ، وكان يوم الثورة في العراق ، هو اليوم الفاصل في أمره . وبانهيار هذا الحلف انهارت كذلك سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية، وأصبحت الحاجة ماسة إلى سياسة جديدة واعية تستلهم الماضى تجربته، وتقدر على مواجهة الحاضر وعلى علاقات المستقبل.

ولقد كان أملنا كبيراً أن تهيأ الفرصة أمام الولايات المتحدة لتدرس المنطقة على ضوء نظرة جديدة ، غير متأثرة بالاعتبارات القديمة، وغير خاضعة لارتباطات لا تمثل الأماني الحقيقية للشعوب العربية.
 
ولقد كان مؤلماً حقيقة أن لا تسأل حكومة الولايات المتحدة نفسها بعد انهيار حلف بغداد فيما يتعلق بصلة الشعوب العربية به :

 
" لماذا تحولت السياسة الأمريكية إلى أنقاض على هذا النحو؟ "

 
" لماذا اختفى معظم الأصدقاء التقليديين للسياسة الامريكية وحكمت عليهم شعوبهم؟ "


" لماذا تقف الولايات  المتحدة- وهى دولة قامت على الحرية وعلى الثورة- ضد نزعة الحرية ونزعة  الثورة وتجد نفسها مع القوى الرجعية والعناصر المعادية للتقدم في صف واحد؟ ".

9- بدأت بعد ذلك مرحلة من التحسن في العلاقات العربية الأمريكية، لكن التحسن كان بطيئاً ، وكانت الصدمات تتربص له دائماً بتأثير دوافع غير أمريكية على الإطلاق ، وأذكر منها مقاطعة الباخرة العربية كليوباترا على أرصفة ميناء نيويورك .

ولقد أتيح لى بعد ذلك فى سبتمبر 1960، أن ألتقى بسلفكم الجنرال دوايت أيزنهاور، وأن أتحدث إليه فى العلاقات ما بين بلدينا وفي تطوراتها وفي ضرورة النظر إليها على ضوء جديد يتماشى مع ما نتطلع اليه جميعاً من سلام قائم على العدل . لكن ذلك كان كما تذكرون فى أواخر مدة رئاسته ، ومن ثم لم يتح للمحاولة الجديدة أن توضع موضع الاختبار.

سيادة الرئيس

وليس معنى ذلك بحال من الأحوال أن علاقاتنا خلال هذا كله لم تعش لحظاتها المشرقة .

كان هناك في تاريخ الأمة الأمريكية ، ما يشدنا إلى الكثير من المبادىء الأمريكية، وإلى ما أعطته الثورة الأمريكية للتراث الإنساني من التجارب العميقة ومن الرجال الأبطال .

وكان هناك موقف بلادكم منا وقت العدوان علينا انتصاراً للمبادىء ، وهو موقف أشدنا به دائماً ، ولسوف يظل يحظى بعرفاننا مهما كان من تطورات العلاقات بيننا .

كذلك كانت هناك مساعداتكم القيمة لنا- عن طريق تصدير القمح ، أو عن طريق قروض صندوق التنمية- كذلك لا يفوتنى هنا أن أشيد بمساهمتكم القيمة فى مشروع انقاذ آثار النوبة ، ولقدكانت رسالتكم إلى الكونجرس في هذا الصدد تحية كريمة تقبلها شعبنا بمزيد من التقدير والرضا.

سيادة الرئيس

لقد كان هدفى من وراء هذا الشرح الطويل لبعض معالم الصورة أن أوضح أمامكم أن قضايا الشرق العربي متصلة ببعضها اتصالا وثيقا.

كان هدفى أن أشرح لكم أن حق اللاجىء الفلسطينى مرتبط بحق الوطن الفلسطينى ، وأن بقية الأوطان العربية لا يمكن أن تعزل نفسها عن العدوان الذى انقض على واحد منها بسبب واضح هو أن هذا العدوان- فضلا عن كل ما يعنيه التضامن العربي- يهدد الأوطان العربية الباقية بالخطر نفسه والمصير نفسه.

ولقد كان هدفى أيضا أن أشرح لكم أن ما واجهناه من المصاعب في علاقاتنا كان سلسلة متصلة تتشابك حلقاتها وفى رأيي أنها كانت تخضع لمؤتمرات غير أمريكية فى كثير من الظروف . وعند هذه النقطة أريد- يا سيادة الرئيس- أن أناشدكم مخلصا ، متوجها إلى شبابكم وإلى شجاعتكم، بأنه قد حان الوقت الذي يتعين فيه على الولايات المتحدة أن تفتح عيونها على تطورات الأحداث في منطقتنا على أساس نظرة أمريكية بحتة ، لا تتأثر باعتبارات السياسة المحلية الأمريكية وبعمليات حساب الأصوات في الانتخابات، فإن صلات الولايات المتحدة بهذه المنطقة أكبر بكثير من أى اعتبار محلى ، واننا لنشعر من بعيد أن الشعب الأمريكى يجتاز مرحلة من البحث في أعماق النفس يواجه بها ظروف العالم المضطرب واحتمالاته الخطيرة.

وليس أفضل من مثل هذه المرحلة، مناسبة يتحرر فيها الفكر من القيود المصطنعة ومن أغلال المصلحة الحزبية القصيرة الأمد، ليكون الموقف المستلهم من المبادئ  والهادف إلى تحقيق السلامة الأمريكية العليا، ولسنا نشك لحظة أن تطلعكم إلى " الحدود الجديدة " على حد تعبيركم ومحاولاتكم الدائمة لاكتشاف طريق الواجب أمام شعب الولايات المتحدة العظيم سوف تكون من بواعث الطمأنينة لدى شعوبنا ولدى شعوب كثيرة أخرى تتطلع إلى الشعب الأمريكى بالمحبة والإعجاب.

سيادة الرئيس

تبقى ملاحظة أخيرة أريد أن أضعها بإخلاص وتجرد قبل أن أنهـى هذا الخطاب وهى تتعلق به على أى حال.

لقد حاولت في هذا الخطاب أن أفتح قلبى . وإذا ما خطر لأحد من الذين سوف تتاح لهم فرصة الاطلاع عليه أن اعتبارات السياسة المحلية العربية هى التى أملته فإن ذلك خطأ كبير.

لقد أردت من هذا الخطاب أن يكون لكم ولا يكون- لما يسميه بعض من يدعون الخبرة- للاستهلاك المحلى . أو للتعبئة النفسية هنا.

وإذا ما سمحت لى فإني أقول إن الذين تابعوا ما يحدث في بلادنا يعرفون  أننى أفضل فى جميع الظروف أن أقول لأمتى ما أومن بأن واجبها أن تسمعه.

كذلك فإن موضوع قضية فلسطين لا يحتاج إلى تعبئة نفسية فإن أمتنا كلها تعيش المشكلة حقيقة واقعة، وليس عقدة عاطفية.

وأؤكد لك- بشرف- أن ما يحكم موقفى ونظرتي إلى قضية فلسطين ليس هو كوني رئيسا للجمهورية العربية، إنما الأصل والأساس هنا ، هو موقفى ونظرتي ، كوطنى عربي ، كواحد من ملايين الوطنيين العرب.

وتقبلوا يا سيادة الرئيس عميق احترامى وتقديرى .
 
الإسكندرية في 18 أغسطس 1961


كان يمكن لكنيدى أن يستخدم هذه الرسالة ككتاب دراسى يسترشد به في أصول التعامل مع مصر. فقد حددت بالتفصميل كل مبادىء عبد الناصر الأساسية :

عدم شرعية الدولة اليهودية، مناهضة التوسع والعدوان الإسرائيلى . الحفاظ على استقلال مصر، تدعيم أواصر الوحدة العربية ، وأخيرا رغبة مصر فى مصادقة أمريكا ولكن ليس بالخضوع للضغط أو التنازل عن قيد أنملة من حريتها.

وعلى وجه التأكيد كان عبد الناصر- بعد هذا التبادل في الرسائل- يأمل في أن تكون هناك مبادرة أمريكية جديدة حيال مصر ، وكان يرجو أن يتبنى الزعيم الجديد للبيت الأبيض ومعاونوه الشبان، سياسة أكثر توازناً وتكافؤاً في الشرق الأوسط . ولكن لم يكن ذلك هو الذى حدث.. فقد تحطمت مبادرة كنيدى الفلسطينية كما ضاعت مبادرات أخرى كثيرة غيرها على صخور الواقع .

-----------------------

وبعد شهر واحد من كتاب عبد الناصر إلى كنيدي وقع الانفصال بين مصر وسوريا نتيجة انقلاب في سوريا دبرته " نقابة الملوك " .

فقد كانت دمشق مفتاح الهلال الخصيب. ومن هنا فقد اتفق الملك سعود والملك حسين ، وتضافرا برغم ما بين عائلتيهما من أحقاد تقليدية على تقويض الوحدة في سوريا . فقد ركزا جهودهما على القوات الصحراوية ( البادية) وعلى بعض السياسيين . ودفع الملك سعود مبالغ هائلة من المال وأصبح بعض من رشاهم من أصحاب الملايين الذين يعيشون الآن فى أمريكا الجنوبية.

وقيل في ذلك الحين إن الملك سعود مول الانقلاب بمبلغ 7.000.000 جنيه استرلينى . ولكن ذلك لم يكن دقيقا. ذلك أنه عندما جاء سعود إلى مصر - كلاجىء سياسى ، بعد أن أجبره شقيقه فيصل على التنازل عن العرش- جابهه عبد الناصر- ذات يوم . بهذه القضية متسائلا:

" كيف يسعك أن تدفع سبعة ملايين جنيه لأولئك الناس ؟ " .

وأجابه سعود:

"  إننى خجل أن أقول لك إن المبلغ لم يكن 7 ملايين إنما كان 12 مليوناً ".

وسرعان ما انهارت الحكومة التى أوصلتها إلى الحكم أموال سعود وسيق بعض أعضائها إلى المحاكمة فيما عرف بقضية الدندشى . وقد كشف في هذه المحاكمة أن عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعبوا دورا في مؤامرة الملكين .
 
---------------------------


ولقد تألم عبد الناصر أشد الألم من الانفصال . فقد كانت الوحدة أول تعبير على مستوى دولى عن حلمه بالوحدة العربية. ولم يكتب لها أن تبعث في حياته. ومن هنا فإنه عندما سمع بتورط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في المؤامرة : أحس بالتأثر والدهشة معا. ذلك أنه إذا كان كنيدى يتقرب منه فما الذى يدفع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى العمل ضده ؟ .

هنا نجد- مرة أخرى- التناقض العجيب في المصالح التى تتخلل السياسة الأمريكية.

فهناك شركات النفط وأجهزة مخابراتها وهناك وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التى تعمل بالتعاون الوثيق معها. ئم هناك السياسة الرسمية الأمريكية وأخيرا البنتاجون بأجهزته السرية الخاصة. ولذا فإن البلبلة تكون أحيانا جارفة.

وكان عبد الناصر يرجو أن يوفق الرئيس كنيدى في إنهاء هذا الوضع الحافل بالتضارب ،  ولكن مرت لحظات كان يعتقد خلالها أن الفوضى مقصودة لتتيح لذراع من ذراعى حكومة الولايات المتحدة أن تتابع سياسة ودية يقصد منها أن تكون ستارا، بينما تعمل الذراع الأخرى ضد مصر. ولذا بدأ يرتاب في صدق نوايا كنيدى .
 
وهكذا خيمت من جديد ، في نهاية  1961 ، فترة أخرى من التردد والتأرجح على العلاقات بين البلدين.

وجاءت فترة التردد والتأرجح في نفس الوقت الذى أعيد فتح المفاوضات لتجديد اتفاق السنوات الثلاث التى كانت الولايات المتحدة تعطى مصر بموجبه فائض القمح . وكانت الموافقة على هذه المساعدة قد تمت باستصدار " القانون الأمريكي العام رقم 480 " عندما سألت الولايات المتحدة مصر - في سعيها لاستغلال الخصام بين عبد الناصر وخروشوف- عن نوع المساعدة التى تحتاج اليها .

وكانت مدة الاتفاق قد بدأت تقترب من نهايتها ، وكان في واشنطن عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الذين أرادوا استخدام تجديد الاتفاق كوسيلة للضغط على عبد الناصر .

وكان عبد الناصر يشعر- بشكل خاص- بحساسية حيال أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى . فقد كان السفير الأمريكى يطلب منه باستمرار أن يستقبل هؤلاء ، وعندما كان يستقبلهم كانوا في الغالب يكشفون عن جهل مطبق بالشرق الأوسط فضلا عن أنهم كانوا يعودون إلى واشنطن ويلقون خطبا يطالبون فيها بتجويع شعب مصر حتى الموت .

من هنا فقد كان من سوء الحظ أن سلم بادو في نوفمبر ( تشرين الثاني) رسالة شفهية من كنيدى، اعتبرها عبد الناصر تهديدا. فقد أشاركنيدي إلى قيام سباق تسلح في المنطقة وإلى أنه يتعرض للضغط من بعض أعضاء مجلس الشيوخ الذين ادعوا أن أمريكا تساعد عبد الناصر على شراء الأسلحة. وكانت حجتهم فى ذلك أن إعطاء مصر القمح مكن عبد الناصر من استخدام النقد الأجنبى ، الذي كان يجب أن يستخدمه لشراء القمح في شراء الأسلحة !

وقد أدى هـ ذا التهديد الذى تضمنته الرسالة- مشفوعا بتورط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سوريا- إلى زيادة ارتياب عبد الناصر في نوايا كنيدى . فقد شعر بأن إقدام كنيدى على توجيه رسالة تهديد في وقت يعرف أن الرئيس عبد الناصر يواجه عددا من المصاعب كان تصرفاً يفتقر إلى أبسط قواعد اللياقة.

وهكذا فقد تبددت مبادرة كنيدى وتلاشت وضاعت في مشاكل الشرق الأوسط المستمرة .

وطوال الربيع وحتى الخريف استأنف الزعيمان الرسائل المهذبة.
 
------------------------

 
فمثلا كتب عبد الناصر يهنىء كنيدى بنجاح رحلة رائد الفضاء جون جلين فى تحليقه المدارى حول الأرض . وكتب كنيدى إلى عبد الناصر رسالة يعرفه فيها بتشستر باولز قال فيها : " أرجو أن تتكلم معه بمثل الصراحة التى يمكن أن تتكلم بها معى حول القضايا التي تمس العلاقات بين بلدينا كالشرق الأوسط عموما وكافة الشئون الدولية الأخرى . وسيكون فى وسعه أن ينهى إليكم وجهات نظري في جميع تلك القضايا... "

 
ثم كانت هناك رسالة أخرى من عبد الناصر تكررالنغمة التى طالما كررها فيما كتب لكنيدى وهى " أن التفاهم هو كل ما نسعى إليه ونرغب فيه. " كما جرى تبادل التمنيات الطيبة بينهما بمناسبة ذكرى إعلان الاستقلال الأمريكى .


غير أنه كانت هناك أمور كثيرة تجرى وراء هذه المجاملات الديبلوماسية.
 
فقد كانت اسرائيل تلمح دائما إلى الإسلحة المتقدمة الى تنتجها ، ونتيجة لهذه التلميحات فإن مصر- مدفوعة بإحساسها بالحاجة إلى أن تعتمد أكثر فأكثر على السلاح الذى تنتجه أكثر من اعتمادها على السلاح الذى تستورده- تعاقدت مع فريق من العلماء الألمان برئاسة البروفسور ولفجانج بيلز للعمل على تطوير بعض أنواع الطائرات والصواريخ لكى تنتجها الصناعة المصرية.

 
وكانت المخابرات المصرية قد اتصلت بهؤلاء العلماء الألمان في أوروبا واستقدمهم إلى القاهرة . وكان وجودهم فى مصر معروفا جيدا وقد أرسل الإسرائيليون إليهم قنابل بالطرود البريدية. وأصيبت سكرتيرة البروفسور بيلز بجراح بليغة بواسطة طرد يحتوى على- متفجرات من زيوريخ [ في 27 نوفمبر 1962].

 
وتعرضت عائلات هؤلاء الخبراء للمضايقة واختطفت ابنة أحدهم . وأثار الإسرائيليون ضجة دولية كبرى حول وجود " العلماء النازيين " في مصر ووصفوا عبد الناصر بأنه " الديكتاتور الفاشيستى الجديد".

 
لم يستطع عبد الناصر أن يفهم مبرر هذا الاستنكار لتعامل العلماء الألمان معه. وقد قال في ذلك للسفير الأمريكى : " عند الروس علماء ألمان يعملون من أجلهم . وعندكم علماء ألمان يعملون من أجلكم . فلماذا يجب أن لا يعملوا من أجل مصر ؟ ".

 
وهكذا - برغم الطرود البريدية المتفجرة وبرغم حملة الدعاية العالمية- أنتجت مصر وأطلقت صاروخها الأول يوم 21 يوليو (تموز) 1962- أى بعد عام من إطلاق الاسرائيليين لصاروخ مقتبس عن الصاروخ الفرنسى " جابرييل " . ! وهو الصاروخ الذى ادعوا أنهم استخدموه لإجراء أبحاث فى طبقات الجو العليا.


وفى سبتمبر (أيلول) ذهب بادو لمقابلة عبد الناصر حاملا رسالة شفهية أخرى من كنيدى-  وكان عليه أن يوضح النقاط الثلاث الآتية :

1- أطلقت مصر صاروخا طويل المدى  ومن شأن ذلك أن يسارع في سباق  التسلح .

2- الصاروخ هو وسيلة ليس إلا .. وأن الحمولة العادية لصاروخ طويل المدى هى سلاح نووى ، ولذا فان كنيدى يريد من عبد الناصر أن يقطع له تعهدا بأنه لن يحاول الحصول على أسلحة نووية، وكضمان على صدق هذا التعهد فإن أمريكا تريد مزاولة حق تفقد وتفتيش المفاعل الذرى المصرى الذى بنته روسيا.
 
3- أن سباق التسلح بالأسلحة التقليدية أخذ يصبح أخطر مما يجب . ولذا يجب أن يكون ثمة حد متفق عليه للقوات الهجومية لدى كل من مصر وإسرائيل ، كما يجب أن تشرف الولايات المتحدة على هذا الحد.

 لكن خطوة كنيدي هذه تحطمت بدورها على صخور الأحداث المتلاحقة بسرعة فائقة . إذ أنه بعد شهر من هذه الرسالة اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية وتفجرت في عالم مذعور ، فنسى العالم الشرق الأوسط
 
بينما كان خروشوف وكنيدى يخوضان مبارزتهما الرهيبة وبينما كان الكل يتساءل عما إذا كان العالم يقترب من نهايته .

 
على أن كنيدى كان حريصا على أن يعرف الجميع نوع الإجراء الذى سوف يتخذه ودافعه إلى ذلك فكتب في 22 أكتوبر ( تشرين الأول ) إلى عبد الناصر وكانت رسالته مقتضبه ومركزة وواضحة جدا وقد جاء فيها بالنص :

 
عزيزى الرئيس :

 
إن القرائن على أن قواعد صواريخ نووية هجومية قد أنشأتها الحكومة السوفييتية بصورة سرية في كوبا هى قرائن صحيحة بما لا يقبل الشك . فضلا عن أن العمل يجرى حثيثا من أجل إنشاء قواعد إضافية. وسوف تتاح لسفيركم هنا أن يطلع على التفصيلات ، والواقع أن هذا الإجراء الروسي يعتبر خرقا مباشراً  لبيان الرئيس خروشوف الذى أكده لى شخصيا منذ أيام قليلة وزيرالخارجية جروميكو، والتي تقطع بأنه لا يجري تزويد كوبا إلا بأسلحة دفاعية.

 
وتذكرون أننى صرحت علنا منذ شهر بأنه إذا تبين في أى وقت أن تكديس السلاح الشيوعى في كوبا سيتجه إلى أن يصبح قاعدة عسكرية هجومية ذات خطر لمصلحة الاتحاد السوفييتى فان بلادنا هذه ستفعل ما تجد أنه ضرورى لحماية سلامتها وسلامة حلفائها.

 
ولذا فانه من الضرورى أن نقوم بفرض حجر نووى فورى للحيلولة دون تركيب مزيد من الصواريخ الهجومية من قبل الحكومة السوفييتية في كوبا . وأنا واثق من أن هذا الإجراء سيؤدي إلى إزالة الصواريخ الهجومية المنصوبة هناك.

 
ولقد أبلغت الرئيس خروشوف أننى أرجو أن نستطيع استئناف سبيل المفاوضات السلمية.

 
هذا وقد طلبت عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما طلبت من السفير ستيفنسون أن يقدم- بالنيابة عن الولايات المتحدة- مشروع قرار يدعو إلى سحب قاعدة الصواريخ وغيرها من الأسلحة الهجومية من كوبا تحت اشراف مراقبى الأمم المتحدة .

 
ومن شأن ذلك أن يمكن الولايات المتحدة من أن ترفع حجرها النووى . وامل ان تصدروا تعليماتكم إلى ممثلكم فى نيويورك لأن يتعاون معنا وليعلن صراحة تأييده فى الأمم المتحدة ، للبرنامج الآنف الذكر.

وقد طلب إلى وزارة الخارجية أن تعمل على تزويد سفيركم بجميع التطورات .
                                                                              توقيع : جون . ف . كنيدى

 
ورد الرئيس عبد الناصر على هذه الرسالة فى 31 أكتوبر (تشرين الأول) لكن الأحداث كانت قد سارت بسرعة جارفة بحيث زال الخطر وعاد العالم يتنفس الصعداء . وقد عبر الرد عن تحفظات الرئيس عبد الناصر بشأن الحصار الأمريكى لكوبا كما أنه لم يترك لكنيدى مجالا للشك- مرة أخرى- حول وجهة نظره في المسئولية الهائلة الى تتحملها الولايات المتحدة حيال الجنس البشري أجمع .


قال عبد الناصر في رسالته :
 
المستر جون . ف. كنيدى

 
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية

 
عزيزى الرئيس

 
تلقيت باهتمام كبير خطابكم الى بتاريخ 22 اكتوبر المرفق ببيانكم الرسمى إلى الأمة الأمريكية عن الموقف فى كوبا. وإني لشديد العرفان لجهدكم في توضيح خط السياسة الأمريكية أمام الذين تعنيهم تطورات الأمور في العالم وتشغل بالهم قضايا السلام .

 
وفى رأيي أنه لم يعد هناك الآن مجال لمناقشة وجهات النظر المختلفة عن طبيعة القواعد التى كانت موجودة فى كوبا والتى أثارت الشكوك لديكم .

 
كذلك لم يعد هناك مجال الآن لمناقشة الإجراءات الآمريكية ترتيبا على ذلك .

 
فلم يعد هناك مجال لذلك كله . ولا عادت هناك منه فائدة ، إنه من حسن الحظ فإن حرص شعوب العالم على السلام ، وإرادتها الواضحة فى صيانته ، وجهدها داخل الأمم المتحدة وخارجها، كذلك الحكمة وسلامة التقدير والوفاء بالمسئولية التى تجلت في تصرفات الأطراف التى شاركت فى النزاع ، كل ذلك يجعل التطلع إلى الأمام الآن أجدى وأنفع من الوقوف عند الماضى .

 
ولا بد لى هنا أن أسجل عذة ملاحظات :

 
أولها- أننا نقدر استجابتكم لنداء السكرتير العام المؤقت للأمم المتحدة المستر يوثانت ، ولتعاون وفد الولايات المتحدة الأمريكية فى الأمم المتحدة معه، فإننا مازلنا نؤمن - وتشاركنا في ذلك شعوب كثيرة محبة للسلام- أن التعاون الصادق في اطار الأمم المتحدة هو خير ضمانات الوصول إلى حلول ناجعة للمشاكل ..

 
ثانيها- أننا نقدر كل التقدير أن الإجراءات الأمريكية الى اتخذت - بصرف النظر عن أى رأى لنا فيها- قد جرت ممارستها بطريقة خالية من التحرش العدواني .

 
ثالثها- أننا نقدر تعهدكم الذى قطعتموه بعدم غزو كوبا عسكريا ، ونرى أن هذا التعهد كان مساهمة جدية في تخفيف حدة التوتر .

 
واننا نضيف إلى ذلك - مؤمنين- اعتقادنا أن الولايات المتحدة- بكل قوتها وهيبتها- تقدر على دعم السلم كما لا يقدر عليه أحد، كما أنها تتحمل مسئولية تاريخية أمام البشرية كلها في هذا الصدد، حيث السلام القائم على العدل مطلب انساني يتقدم جميع المطالب الأخرى ، فهو لا يصون الحياة فقط ، انما هو أيضا يكرمها.

 
وتقبلوا- ياعزيزى الرئيس-  تحيتي وأماني الطيبة.

                                                                                               توقيع

                                                                                         جمال عبد الناصر

القاهرة في 31 أكتوبر سنة 1962

----------------

 
كانت تلك أزمة لم ينسها خروشوف مطلقا. وعندما جاء إلى مصر ظل يعود إليها ويتحدث عنها مرة بعد أخرى . فقد تركت أثرأ عميقا في نفسه.

 
وكان كنيدى قد قتل آنذاك وقد قال خروشوف ، حينما كان بتحدث عنه مع عبد الناصر، إنه كان لدى كنيدى الكثير مما يعطيه ولكن كان لديه الكثير مما يجب أن يتعلمه.

 
وأضاف خروشوف أنه كان يعلق في البداية الكثير من الآمال على كنيدي  وقد ذكر ذلك  برغم أنه قال في معرض روايته لمجابهتهما الأولى في فيينا : " إن  كنيدى دخل إلى الاجتماع كطاووس وخرج منه كعصفور غريق مبلل ".

 
وكان خروشوف يشعر بالمرارة لأن الناس يظنون أن كنيدي أجبره على التراجع فى أزمة الصواريخ الكوبية وقال لعبد الناصر:

 
" ليس ذلك صحيحا.. إنما أردنا أن نقرب الخطر إلى الولايات المتحدة بحيث ننتزع منها تعهدا بعدم غزو كوبا. ولم نخطط لإبقاء الصواريخ هناك . لقد كان لنا هدف وحققناه . فقد وعد الأمريكيون بعدم غزو كوبا ولذلك فإن كل الدعاية الأمريكية عن الصواريخ غير صحيحة.

 
ومع ذلك فالواقع أن الطريقة التى ظل دائماً يعود بها إلى طرق موضوع كنيدى وكوبا كانت تجعل المرء يشعر بأن أزمة كوبا تركت أثرا لايندمل على روحه .

 
برغم ملابسات الأزمة الكوبية فقد ظل خروشوف يحتفظ بتقديره لكنيدى وكان أحد الجوانب التي سرته من قبل حكومة الرئيس كنيدي هي كيف حمل المعاونون الشبان المحيطون بالرئيس كنيدي حقائق مخاطرة القوة النووية الى البيت الابيض .

 
وكان خروشوف يرى أن أيزنهاور لم يدرك قط حقائق القوة النووية. وأن القنبلة الذرية لم تكن في نظر الجنرال العجوز أكثر من مدافع أضخم وأحسن من شأنها أن تمده بالمزيد والمزيد من القوة التدميرية . كما ان خروشوف  كان متأكدا من أنه لو فهم أيزنهاور معنى القوة النووية لما سمح لدالاس أن يصل إلى كل تلك المرات إلى حافة الهاوية ، بتهديداته بالرد الثأرى الشامل .

 
-----------------------------

 
وبينما كان الاهتمام العالمى يتحول عن كوبا : اندلعت من صحارى اليمن الوعرة أزمة أخرى واندفعت إلى وسط المسرح العالمي تستقطب الانتباه العام لغموضها ، وكانت هذه الأزمة واحدة من  الأزمات التى عالجها عبد الناصر وكنيدى في علاقتهما. "

 
فقد توفي أحمد إمام اليمن العجوز يوم 9 سبتمبر ( إيلول) بعد أن تعرض أربع مرات لإطلاق النار عليه. كان رجلا خارقا غير عادى أشبه بشخصية خرافية خرجت من صفحات أساطير القرون الوسطى.

 
وقد سحق يد عبد الناصر عندما صافحه في أول لقاء بينهما ، ربما لأنه أراد أن يعامل عبد الناصر كواحد من رؤساء القبائل الذين درج على أن يهيمن عليهم بإشعاره بقوة قبضته وبأنه ما زال في صحة تمكنه من فرض سيطرته. وكان حكمه في اليمن أوتوقراطيا وفي غاية الاستبداد . ولم يكن يسمح بحرية الصحافة فى بلاده بينما كان مدمنا قراءة المجلات الفنية المصرية. وكان أول سؤال وجهه إلى الرئيس عبد الناصر في لقائهما الأول :

 
"هل تزوجت فاتن حمامة من عمر الشريف ؟ " 

 
وقد دهش عبد الناصر من السؤال وربما كان آخر ما توقعه من إمام اليمن .

 
وكان الإمام أحمد في الواقع مخلوقا عجيبا غريبا . يتزين بالمسابح والعقود وأحزمة الرصاص و الخناجر وكان الكحل يزين حدقتيه. أما وجهه فكانت كل عضلة فيه تتحرك وتختلج مستقلة عن الأخرى بمفعول القات الذى اعتاد مضغه.

 
وروى الإمام أحمد لعبد الناصر قصة انقلاب أحبطه . وخلاصة القصة أنه كان محاصراً في قصره حينما شاهد حارسا يفتش إحدى جواريه فصاح :

 
" والله لن تفتش النساء ما دام أحمد حيا "

 
وقفز على صهوة حصان واندفع يخب به نحو الخفراء وأمسك بمدفع رشاش وأخذ يطلق عياراته في الهواء من برج القصر . ولما شاهده الناس أخذوا يهتفون :

 
" إنتصر الإمام .. إنتصر الإمام "

 
وهكذا أخفق الانقلاب .

 
وقد قطع الإمام أحمد رؤوس زعماء الانقلاب وقال إنه علق تلك الرؤوس على شجرة " كالثمار اليانعة ".

 
كان هو واليمن- التى يمثلها- شيئاً ينأقض التاريخ ...

 
وقد اعتاد عبد الناصر بهذه المناسبة أن يروى النادرة الآتية :

 
هبط الله من السماء مع كبير الملائكة جبريل ليرى كيف تطور العالم منذ أن خلقه . وجالا حول العالم فوق إحدى السحب وتطلع الإله من عليائه وقال :

 
- لم أعرف هذا المكان .

 
فأجابه جبريل : 

 
- هذه بريطانيا .

 
- لكم تغيرت.. لم أستطع تبينها .

 
وتوجها بعد ذلك إلى القارة الأمريكية فقال الإله :

 
- وماهذه؟ .

 
فأجابه جبريل :

 
- هل نسيت ؟ .. انهما الجزيرتان الكبيرتان اللتان خلقتهما فى النهاية ".

 
- ولكنهما تغيرتا كثيرا..

 
وتكرر الحوار ذاته فوق مصر عندما شاهد الإله الأهرامات .

 
وبعد ذلك وصلا إلى بلد عرفه الإله فورا وقال :

 
- هذه هى اليمن.. فقد بقيت تماما على نفس الحال منذ اليوم الذي خلقتها فيه.

 
وعندما أوفد رالف بانش من قبل الأمم المتحدة إلى اليمن مر بالقاهرة فى طريق عودته وقال لى : " يا إلهى.. عندما رأيت الكونجو رأيت جريمة الاستعمار.. ولكن عندما وصلت إلى اليمن آمنت بأن من سوء الحظ أنها لم تعرف ولو قدرا ضئيلا من الاستعمار " .

 
وبعد وفاة الإمام أحمد ، خلفه ابنه الأمير محمد البدر الذى كان أبوه يستخدمه دائما في البعثات التي يوفدها إلى مصر. وكان عبد الناصر محتارا في أمر البدر وكان يتساءل ما إذا كان في وسع البدر أن ينقل اليمن إلى العالم الحديث. وظل يتعجب ويتساءل إلى أن طلب الأمير البدر ذات يوم- وكان لايزال وليا للعهد- أن يزور حديقة الحيوان في القاهرة .

 
وذهب البدر يرافقه وفد رسمى إلى حديقة الحيوان حيث سار كل شيء على مايرام إلى أن اكتشف البدر شجرة قات لم يتبينها أحد غيره . فهرع وصعد إليها وجلس على غصن منها وأخذ يمضغ أوراق القات .

 
وبعد أن سمع عبد الناصر بهذه الواقعة لم يعد يتساءل عن طاقات البدر أو قدراته.

 
حكم البدر لمدة أسبوع انتهى بقلبه عن الحكم على يد العقيد عبذ الله السلال- قائد الحرس الملكى .

 
وكان السلال قد عين في منصبه ذاك برغم أن الإمام السابق زجه في السجن خمس سنوات، أمضاها مقيدا في زنزانته حيث كان الطعام يلقى إليه وحيث كان لا يستطيع أن يقضى حاجته في مكان أبعد من مدى السلسلة التى قيد بها.

 
وسرعان ما جاءت إلى مصر جماعة من رجال السلال ليطلبوا من الرئيس عبد الناصر تأييده وعونه في إقامة نظام جمهوري وقابلوا أنور السادات الذى كان وقتئذ رئيس مجلس الأمة. وكتب السادات مذكرة بصدد اجتماعه مع اليمنيين وتقرر بالاستناد إليها الاعتراف بحكومة السلال وتزويدها ببعض  المستشارين وبكميات من الأسلحة الخفيفة.

 
أما البدر فقد استطاع الهرب بطريقة  مسرحية هزلية.

 
ذلك أن السلال كان قد أمر رجاله بمحاصرة القصر، ولكنه عندما حان وقت الغذاء ترك الجميع مراكزهم ليأكلوا ويمضغوا القات. فانتهز البدر الفرصة وخرج من باب خلفى راكبا حمارا واختفى قبل أن يعود جنود السلال إلى اتخاذ مراكزهم .

 
وساد الهرج والمرج ولم يعرف أحد- ذلك الحين- ما جرى للبدر وهل هو حى أم ميت- ولم يعرف أحد بمكانه حيا أو ميتا.

 
وفي ذلك الحين كذلك كان عمه الأمير الحسن في الأمم المتحدة حيث كان يشغل منصب رئيس وفد اليمن الدائم . وقد طار الأمير الحسن فورا إلى المملكة العربية السعودية وطلب المساعدة من الملك سعود برغم العداوة القديمة بين عائلتيهما.

 
وكان الملك سعود يشعر- وقتئذ- باليأس . ذلك أن الرجال الذين وضعهم فى الحكم فى سوريا كانوا قد سقطوا. وها هى ثورة جمهورية تقوم على أبوابه ، وهكذا سارع إلى إعانة العائلة المالكة اليمنية.

وبينما جمع السعوديون السلاح : أخذ الأمـير الحسن يثير القبائل وبدأ سعود يشترى ولاء تلك القبائل بأمواله التي يدرها عليه البترول . و لم يلبث أن ظهر البدر وخرج من مخبئه ليحارب الحكومة الجمهورية.

 
---------------------------

 
على أن السعوديين لم يكونوا جميعا راغبين في إعادة الملكيين . إلى الحكم في اليمن . فقد انطلق ثلاثة من طياري سلاح الجو السعودى بطائراتهم إلى مصر طالبين حق اللجوء السياسى [ في 2 اكتوبر 1962 ]. وكانت الطائرات الثلاث من طائرات النقل طراز فيرتشايلد ، محملة بالسلاح والذخيرة في صناديق عليها صورة اليدين المتضافحتين : شعار برنامج المساعدات الأمريكية.

 
واحتج عبد الناصر للسفير الأمريكى قائلاً ، إن هذه ليست بالطريقة السليمة للمساعدة : وإن هذا النوع من المساعدات ينطوى على تقديم الموت وليس الصداقة .

 
بعد التجاء الطيارين السعوديين الثلاثة إلى مصرشل سعود حركة سلاحه الجوي ومنع تحليق طائراته واستأجر سلاح طيران الملك حسين لتزويد الملكيين بالمساعدات .

 
لكن الشيء ذاته حدث للأردنيين . ففى ظرف اسبوع وصلت إلى مصر  طائرات الهوكرهنتر الثلاث التابعة لسلاح الطيران الأردني والمرابطة في مطار جدة . وكان يقودها طياروها وعلى رأسهم قائد سلاح الجو الملكي الأردني نفسه .

 
ولما ازداد عدد الطيارين السعوديين والاردنيين الذين لجأوا بطائراتهم إلى مصر. دأب السفير الأمريكى- بادو- على سؤال عبد الناصر كلما رآه في تلك الفترة :

 
" كم بلغ عدد الحمائم اليوم ؟ "

 
غير أن الملكيين استجمعوا قواهم واحتلوا سبأ وصعدة وأقضوا مضاجع الجمهوريين  في صنعاء إذ أعطوا القبائل الإذن عبر إذاعتهم بنهب العاصمة ، والنهب طريقة تقليدية لتسديد الفواتير للقبائل .

 
وبعث عبد الناصر ببعض القوات إلى اليمن لمساندة الحكومة الجمهورية واضطر أن يرسل المزيد منها نظرا إلى أن الفيافي اليمنية كانت تستوعب فوراً  المزيد والمزيد وكان عبد الناصر يقول أحيانا :

 
" لقد أرسلت كتيبة لمواجهة التهديد على صنعاء ثم عززت الكتيبة بفرقة " .

 
ومالبثت أن بدأت تؤثر في الموقف عدة من تيارات النفوذ المختلفة . فقد عم الاستياء في المملكة العربية السعودية بسبب المبالغ الهائلة التي كان الملك سعود ينفقها على الحرب في اليمن . وأصبحت شركات البترول تخشى أن يزحف الجيش المصري على آبار البترول السعودية . وقلقت بريطانيا على عدن .

 
لكن سعود ظل يدعم الملكيين وتقرر في يوم من الأيام إشعاره بأنه لايستطيع أن يفرض الخطر على الناس ويظن انه هو نفسه بمأمن منه ، وهكذا أرسلت قاذفة قنابل من طراز ايليوشين لتحلق فوق قصره . وتطلق  مشاعل ضوئية هدفها تحذير الملك .

 
ومن سخريات القدر أن ذلك القصر كان القصر الملكي الجديد الذي كان عبد الناصر قد زاره كأول ضيف رسمي فسمي تيمناً به " قصر الناصرية " . وعندما جاء سعود الى مصر – في أواخر حياته لاجئا سياسيا – وصف للرئيس عبد الناصر مدى الذعر الذي أحس به ، وكم كره المصريين يومها .

 
----------------------

 
وبسبب هذه الغارة سافر الأمير فيصل- الذى كان قد أصبح صاحب السلطة الحقيقية في المملكة العربية السعودية-- إلى واشنطن وطلب من الأمريكيين تزويده بغطاء جوى لحماية السعودية من سلاح الطيران المصري . 

 
وسرعان ما كتب الرئيس كنيدى في 17 نوفمبر ( تشرين الثاني). الرسالة الأولى من سلسلة من الرسائل إلى عبد الناصر حول الحرب اليمنية . وقد بسط في الرسالة الأولى خططه لإنهاء الحرب وأرسل كتابين مماثلين في هـذا الصدد إلى كل من الملك حسين والأمير فيصل (الملك فيصل فيما بعد).

 
وفي رسالته تلك قال كنيدى بالنص :

 
عزيزى الرئيس :


إن العناصر الأساسية للخطة التي نقترحها لتسوية النزاع في اليمن كما يلى:

ا- الإجلاء المرحلى والسريع للقوات الأجنبية من اليمن .

2- إنهاء العون الخارجى للملكيين .

3- الإجلاء المرحلى والسريع للقوات الى أدخلت- بعد الثورة فى اليمن- إلى منطقة الحدود السعودية- اليمنية.
 
وبينما تتم عملية الإجلاء فإننى أتصور إجراء اتصالات مباشرة بين الفريقين المعنيين تدعمها المساعى الحميدة من فريق ثالث أو وضع عملية فك الاشتباك تحت رقابة أو إشراف الأمم المتحدة ، وسيكون ممثلو حكومتي مستعدين للبحث فى أية تفاصيل أخرى تتعلق بهذه الوسائل .


وأقترح كذلك أن يتم اتخاذ الخطوات المبدئية الآتية بسرعة :
 
1- إصدار بيان من قبل الجمهورية العربية المتحدة تعلن فيه عن استعدادها للقيام بفك اشتباكها على أساس المقابلة بالمثل ولسحب قواتها بسرعة و على مراحل إذا ( أ ) سحبت القوات السعودية والأردنية من الحدود وإذا (ب) أوقف العون السعودى والأردني عن الملكيين اليمنيين .


2- أن تؤكد جمهورية اليمن العربية علنا عزمها على احترام التعهدات والالتزامات الدولية وبالسعى لإعادة العلاقات الودية مع جيرانها إلى مجراها الطبيعى وبصرف جهودها إلى الشئون الداخلية والتركيز عليها بالاضافة إلى إصدار نداء من جمهورية اليمن العربية إلى اليمنيين فى المناطق المجاورة بأن يكونوا من المواطنين الذى يعيشون في ظل احترام القانون .
 
3-  وبعد أن تصدر البيانات المناسبة وفق ما هو وارد أعلاه وعند إيجاد ظروف طبيعية لعمل بعثة المساعدة الأمريكية فى اليمن فإن الولايات المتحدة ستصدر فوراً اعترافها بجمهورية اليمن العربية.


وبينما يجري تنفيذ فك الاشتباك المذكور فإننا نرجو بالطبع أن لا يزج أحد من الأطراف نفسه في نشاطات تخالف روح هذا التفاهم .

إننى أدعو إلى تعاونكم العاجل والفورى في هذه المهمة الحيوية وذلك قبل أن يدخل النزاع على اليمن في مرحلة أكثر خطورة .
 
وليمنحنا الله كل القوة ويلهمنا الحكمة للمضى في هذه المجهودات المهمة وإيصالها إلى خاتمتها الناجحة".

                                                                                          المخلص

                                                                                     جون. ف. كنيدى

 
------------------------------

 
ورد عبد الناصر على هذا الكتاب بالرسالة الآتية :

 
" صاحب الفخامة الرئيس " جون . ف. كنيدى

 
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية

 
إني شاكر لكم خطابكم بتاريخ 17 نوفمبر، وما فيه من دلائل على اهـتمامكم بسير الحوادث في العالم العربي .

 
على أنه لابد لى أن ألاحظ هنا . أن هذه أول مرة أسمح لنفسي فيها أن أناقش مشاكل العالم العربى، خارح حدوده ، فلقد آثرت دائما أن تبقى الخلافات الداخلية للعالم العربي في نطاقها المحلى ، برغم المحاولات المتكررة من جانب غيرنا لإخراجها عن هـذا الإطار ، وأضرب مثلا على ذلك ما كان في المأم المتحدة ، حين أتيح لى شرف الحديث في دورة انعقاد الجمعية العامة في سبتمبرمن سنة 1960. فلقد كان تصميمى قاطعا على أن أبتعد بمشاكل العالم العربي الداخلية عن هذا المنبر الدولي . برغم أن هذا المنبر اتخذ بوقا من جانب آخرين - وبتشجيع غيرهم- للهجوم على سياسة الجمهورية العربية المتحدة.

 
على أني في المشكلة التى طرأت أخيرا بعد الثورة اليمنية- وما نتج عنها من آثار ءلى الحدود بين الجمهورية العربية اليمنية والمملكة العربية السعودية- وجدت أنه لابد لى من الاستجابة لاهتمامكم الكبير. نظرا إلى ما أعرفه ، وما أكده لي السفير الأمريكي فى القاهرة الدكتور جون بادو، من ارتباطاتكم الوثيقة بالمملكة العربية السعودية .

 
وأحب آن أؤكد لكم - على الفور- أني قبلت من غير ما تردد اقتراحك البناء بتفادي الاصطدامات على حدود اليمن، ولقد كان ذلك أصلا وأساسا هـو الهدف الذى من أجله ذهبت قوات من الجمهورية العربية المتحدة إلى اليمن .

 
ولقد حاولنا ذلك سلما بمختلف البيانات التى صدرت عن الجمهورية العربية المتحدة . وعبرت عن سياستها تجاه الثورة الوطنية فى اليمن ، وأبرزها البيان الذى أذيع من القاهرة في الساعات الأولى من يوم 27 سبتمبر. بضرورة عدم التدخل الخارجى فى شئون اليمن ، وترك الشعب العربي اليمنى حرا فى إعمال إرادته ، وصياغتها نهائيا على النحو الذي يريده .

 
و من سوء الحظ ، أن صاحب الجلالة الملك سعود أخذ الأمر على غير وجهته الصحيحة ،  فلقد تصور الثورة في اليمن معركة بين النظامين ، الملكى  والجمهورى ، ومن ثم فإنه- بهذا التصور غير الصحيح- أندفع بكل طاقته وامكانياته في محاولة لغزو اليمن من الخارج . ولعلكم علمتم أن عددا من الطيارين السعوديين الأحرار الذين كلفوا بأعمال عدوانية ضد ثورة اليمن ، قد قادوا طائراتهم إلى القاهرة ، بدافع من ضميرهم القومي ، وكانت هذه الطائرات أمريكية الصنع ، كما أن حمولتها من الأسلحة كانت مازالت في صناديق المعونة الامريكية .

 
ولقد كان ذلك بالنسبة إلينا- فضلا عما تنطوى عليه من نيات عدوانية- دليلا على أن نداءنا إلى الجميع بالابتعاد عن حدود اليمن وعدم التدخل في شئونه الداخلية، وتجنب فرض الحرب عليه من وراء الحدود لتعويق إرادته وضربها لم يجد آذانا صاغية فى الرياض . ومن ثم كانت الاستجابة الضرورية لطلب حكومة الجمهورية العربية اليمنية ، بوضع بعض قواتنا تحت تصرفها لتشترك معها في الدفاع  ضد الهجمات العنيفة التى تتعرض لها حدودها الشمالية فى منطقة صعدة في ذلك الوقت والتى اتخذت من منطقة نجران السعودية قاعدة لها .

 
وأؤكد لك أن الجمهورية العربية المتحدة ، تملك الوثائق التي تثبت أن بعض الطيارين الأمريكيين  اشتركوا فى عمليات نقل العتاد والجنود ما بين الأردن والسعودية ، إلى حدود اليمن . على أننا نعرف أن هؤلاء الطيارين ، وقد كانوا في خدمة الخطوط الجوية السعودية ، كائوا يعملون تحت عقود ملزمة ، وفي إطار ظروف فرضت عليهم ما قاموا به ، وربما لم تكن أبعاد المسئولية فيه واضحة أمامهم .

 
ومرة أخرى ، فلقد كان الهدف نفسه أمام الجمهورية العربية . لقد حاولت بالوسائل الدبلوماسية تحقيق ابتعاد خارجى عن حدود اليمن ، ولما فشلت الوسائل الديبلوماسية ، وتصور الذين اتجهوا إلى العدوان أن أهدافهم قريبة المنال ، كان تدخل الجمهورية العربية المتحدة- بناء على طلب حكومة اليمن- ببعض القوات العسكرية يستهدف الغاية نفسها .

 
إن الجمهورية العربية المتحدة لم تكن تريد حربا مع السعودية على حدود اليمن ، فان الخلاف التاريخي بين حكومة المملكة العربية السعودية و الجمهورية العربية المتحدة ، ليس خلافا من نوع يحسمه الصدام المسلح، إنما الخلاف أعمق من ذلك ، فإن جنوره ضاربة في أعماق الأوضاع الاجتماعية السائدة في العالم العربي ، ومحاولة آمال المستقبل أن تنزع نفسها من بقايا الماضى ورواسبه لتضع مستقبلا كريما، للإنسان العربى، صاحب أرضه وسيدها.

 
ولقد كان في استجابتنا لمقترحاتكم- كذلك في استجابة الحكومة اليمنية- نشعر بواجب الشكر أن تمكنتم من إقناع حكومة المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية ، بما حاولنا بمختلف الأساليب أن نضعه أمامهما، وهو عدم التدخل في اليمن وترك شعبه حرا، ينسج بيده آمال غده.

 
لقد حاولنا ذلك بالنداءات الديبلوماسية، لكنها لم تصل إلى هدفها.

 
وحاولنا بعد ذلك تدعيم هذه النداءات بالقوة وكنا- يعلم الله- حريصين على كل نقطة دم  عربية ، على أننا كنا نؤمن نظرية الردع ، وأن الذين يفكرون في العدوان سوف يترددون فيه ويحسبون حسابه مقدما، إذا ما عرفوا بوضوح أن عدوانهم لا يمكن أن يمضي بغير عقاب . لكن العدوان على حدود اليمن، ظل يندفع موجة بعد موجة ، لتتكسر الموجات على حدود اليمن الثائر الصلبة.

 
ومن ناحية أخرى ، نحن نعتقد أن القوات المسلحة فى السعودية والأردن بذلت من جانبها- وتحت الإيمان بوحدة النضال العربي والمصير العربي- جهدها لتحذير الذين يستهدفون العدوان ، وتجلى ذلك في مجيء طلائع من الطيارين الأردنيين إلى القاهرة ، حيث لحقوا بزملائهم السعوديين . وكان يتقدمهم القاند العام لسلاح الطيران الملكى الأردني .

 
ومن سوء الحظ أن ذلك التحذير الواضح لم ينتج أثره .

 
حتى كان تدخلكم ، الذى وافقنا عليه منذ الدقيقة الأولى . وتمنينا له أن ينجح . حيث لم تنجح محاولاتنا المختلفة.

 
سيادة الرئيس


إني أحب أن أؤكد لكم عدة حقائق خاصة بسياسة الجمهورية العربية المتحدة .

أولا- أن الجمهورية العربية المتحدة ، فى إيمانها بالثورة طريقاً إلى تحقيق آهداف شعبها وأمتها العربية ، لا تعتبر أن رسالتها هى توزيع الثورة كيفما اتفق على بقية شعوب الأمة العربية .

إنه يمكن أن نفرض على شعب آخر انقلابا من الخارج ، لكننا من الخارج لا نستطيع أن نفرض عليه الثورة، فإن الثورة طاقة داخلية تفجرها الشعوب في أعماقها ، لتصحح بها خلل التوازن بين الآمال التى تحول بينها وبين آمالها .

وفي رأينا أن خير ما تستطيعه الجمهورية العربية المتحدة- حتى لرسالتها الثورية تجاه الأمة العربية- هو أن تكون نموذجاً عملياً لقدرة الإنسان العربي على تطوير حياته إلى المستقبل الأفضل .

ثانياً- أن الجمهورية العربية المتحدة تؤمن أن العنف ليس خطراً ملازما للثورة باعتبارها تغييراً أساسياً في ظروف الحياة ، بل إن العنف في ظرف الحرب الباردة قد يعرض الشعوب الثائرة من أجل أهدافها، لمناورات لا حدود لها تبعد بها عن أهدافها. ومن هنا فإن الجمهورية العربية المتحدة حرصت دائماً على فتح الطريق أمام التطور الطبيعى  من غير عوائق أو عقبات ، حرصاً على سلامة النضال العربي ، بل لقد وصلت في ذلك إلى قبولها في بعض الأحيان-  بهدنة مع عناصر تعتبرها في أي مقياس عناصر  معادية للتقدم بحكم مصالحها.
 
ثالثاً- أن الجمهورية العربية المتحدة- في جهودها لإعادة بناء نفسها اقتصادياً واجتماعياً ، من أجل القوة الذاتية لشعبها. ومن أجل النموذج الصالح أمام أمتها- لا تملك الوقت أو الجهد الذى تضيعه في مغامرات عقيمة ، أو في علافات لا جدوى منها . ولو تفضلتم بمراجعة تعاقب التطورات ، لتبين لكم أن الجمهورية العربية المتحدة كانت دائماً في جانب الدفاع ضد هجمات ضارية عليها من جانب الذين لا يؤمنون بحتمية شروق الشمس بعد ظلام الليل الطويل .

 
على أننى أدرك - من سوء الحظ- أن كل نياتنا الطيبة لا تكفى لتحقيق السلام الدائم في الشرق العربي .


إن الأمر لا يتعلق بإرادتنا وحدها، إنما هناك متناقضات خارج إرادتنا تؤثر على سلام الشرق العربي .

1-  في منطقتنا تناقض مع التاريخ .

2- وفي منطقتنا فى الوقت نفسه تناقض مع الطبيعة.... حتى بصورتها الجغرافية .
 
تناقض التاريخ يتمثل فى أن ظروفاً خارجة عن إرادة شعوبنا أخرت تقدمنا الاجتماعي والاقتصادى والسياسي ، ومن ثم فإن بعض شعوب الأمة العربية - في عصرالانطلاق إلى غزو الفضاء- تجد نفسها تعيش في أغلال رجعية تمنعها من أن تخطو على الأرض خطوة واحدة إلى حقها فى الحياة .

وتناقض طبيعى جغرافي يتمثل في أن ظروفاً خارجة عن إرادة شعوبنا اقتطعت- دون ما حق أو منطق- جزءاً من أراضى الأمة العربية ، واقعاً في قلبها. وأعطته لشعب قد يكون له الحق في وطن . لكن ذلك لا يعطيه حقاً في وطن أحد شعوب الأمة العربية ، ولقد كان محتما إن تحدث عملية الاغتصاب شعوراً عدوانياً لدى المغتصبين ، فلقد أدركوا أنهم- في غيبة حق يعزز دعواهم على فلسطين- لابد من الاستمرار فى العدوان ، خصوصاً أن السياسات الاستعمارية التى تعرضت لها بلادنا كانت تمنحهم ظروفأ مواتية للعدوان .

 
ومهما يكن من أمر- يا سيادة الرئيس- فليس ذلك ما قصدت أن أتحدث إليكم فيه عن اليمن ، إنما أردت لكم- لمناسبة اهتمامكم بالسلام في بلادنا-  أن نردد لمحة من الأخطار التى تهدده بصرف النظر عن النيات الطيبة للرجال ، وعن الآمال العظيمة التي تملأ قلوب الشعوب ، في عصر تتفتح فيه احتمالات للتقدم لا حدود تصدها .

 
على أن ذلك لا يقلل في حال من الأحوال من تقديرى لكل جهد بذلتموه ، أو تبذلونه في المستقبل ، من أجل السلام، فإن الأمل الأكبر لشعوب الأمة العربية هو : سلام قائم على العدل.

 
وتقبلوا فائق التحية والتقدير.

 
القاهرة في 17 نوفمبر 1962

                                                                                        توقيع

                                                                                  جمال عبد الناصر

-------------------------

 
ومالبث الأمريكيون أن اعترفوا بجمهورية اليمن وأغضبوا كلا من الملك سعود والملك حسين اللذين شعرا بأنهما خذلا وبيعا للجمهوريين . أما بريطانيا فلم تعترف باليمن على أساس أن حكومتها لم تثبت أهليتها.


وشكل كنيدى مجموعة طواريء- أو قوة واجب كما يسمونها- فى البيت الأبيض برئاسة روبرت كومر ، ضابط المخابرات السابق ، لمعالجة الوضع اليمنى ، وهو وضع كان قد بدأ يدعى باسم " حرب كومر" فقد كان كومر هو الذى رتب إرسال سرب الطائرات المقأتلة كحماية للمملكة العربية السعودية.
 
كذلك أوفد كنيدى سفيره إيلسوورث بنكر إلى القاهرة للتشاور مع عبد الناصر . وقد طلب منه الرئيس المصري  أن يبلغ الرئيس الامريكي أن الإشاعات القائلة إنه سيزحف على آبار البترول هى سخف وهراء . وأضاف : " قل للرئيس كنيدى إننى لست هتلر وإنه ليس عندى رومل فى اليمن " .

 
وقال عبد الناصر :

 
" إن مثل هذه الإشاعات هى إطراء لنا، ولكنها تتجاوز طاقتنا. فقد ذهبنا إلى اليمن من أجل غرض معين ، وإنا لمستعدون لفك اشتباكنا، فإذا أوقف السعوديون مساعداتهم للملكيين فإننا سننسحب فوراً. فإننى لا أريد الإبقاء على أية قوات في اليمن " .

 
واستمرت المراسلات بين كنيدى وعبد الناصر بشأن اليمن لمدة أطول من عام . وكان جوهر هذه المراسلات يكمن في أن كنيدى كان يحث عبد الناصر على الانسحاب من اليمن ، وأن عبد الناصر كان يرفض ذلك على أساس أن السعوديين يواصلون عونهم للملكيين .

 
وفي 19 يناير (كانون الثاني) 1963، كتب كنيدي حول الشكوك المصرية في سلوك أمريكا وتصرفاتها حيال اليمن وأنكر أن تكون الولايات المتحدة تتبع سياسة مزدوجة. ثم مضى يقول فى خطابه بالنص :

 
" ولعل الأخطر هو أن يخيل إلى الجمهورية العربية المتحدة أنه يجب أن نكون قادرين على إجبار السعوديين على فك الاشتباك في اليمن . ومرة أخرى دعوني أقول إننا نحث فيصل أن يفعل ذلك بالتحديد، لأن ذلك فى مصلحته. وعلى كل فأنتم تعلمون جيداً أنه ليس من شيمة الولايات المتحدة أن توجه ضغطاً قهرياً ، إلى أى زعيم عربي يكون من أصدقائنا . كما أنه ليس من شأن فيصل أن يستجيب. فهو في هذه اللحظة ، يعتبر سياسته حيال اليمن جوهرية من أجل الحفاظ على سلامة المملكة العربية السعودية بالذات . وأخشى أن تكون أقوال الجمهورية العربية المتحدة ، وجمهورية اليمن العربية وأفعالهما، هى التي ساعدت في إقناعه بذلك . والواقع أننا في كل مرة شعرنا بأننا نحقق بعض التقدم نحو فك الاشتباك كانت ترجعنا إلى الخلف أفعال مماثلة للغارات الجوية على نجران .

 
وبالمثل فإن تردد المملكة المتحدة (بريطانيا) فى الاعتراف بجمهورية اليمن العربية ينبثق بوضوح من قلقها على عدن . فالتهديدات المتكررة التي يعلنها الرئيس السلال لا تفعل سوى تصعيد تلك المخاوف... إننى راغب حقا فى اعتراف المملكة المتحدة بجمهورية اليمن العربية ، لكننى لست في وضع يخولنى الضغط على المملكة المتحدة للاعتراف في غمرة بيانات غير حكيمة تصدر عن صنعاء.

 
أرجو أن يساعد هذا الكتاب فى تنقية الجو بيننا ، إن الكثيرين في كل من بلدينا ، يشكون في إمكان قيام علاقات طيبة بيننا . وإذ أعتقد أنهم مخطئون في ذلك ، فإنه ينبغى علينا أن نقيم الدليل على أنهم مخطئون".

 
وفي 3 مارس ( آذار) 1963، رد عبد الناصر على هذا الكتاب موضحا وجهة النظر فقال:

 
" لقد كانت هناك شكوك حول مسعى الولايات المتحدة في مشكلة اليمن . وكانت هذه الشكوك تشغل بال عناصر وطنية عربية عديدة فى المنطقة ... ومع أني شخصياً أتفق مع هذه العناصر الوطنية العربية في بعض ما تذهب إليه نتيجة لتجارب طويله سبقت ... فقد كنت مطمئناً إلى سلامة مقاصدكم ، ولأن منطقي فى ذلك - ولقد شرحته بنفسى لكثيرين من زملائي-  يستند إلى إحساسى بأن صدور المسعى الأمريكى عنكم شخصياً ، يستبعد تماماً من فكرنا كل شيء فى أن تكون المحاولة كلها مجرد مناورة سياسية ... "

 
والحقيقة أن الشك في الدوافع الأمريكية كان ينمو ويتصاعد في ذهن الرئيس عبد الناصر، فقد بدت سياسة الولايات المتحدة مرة أخرى متناقضة. إذ بينما كان السوورث بنكر فى القاهرة يتحدث عن السلام وينادى به. كانت " حرب كومر " تشن بواسطة الجيوش المرتزقة الذين جرى نقلهم من الكونجو.

 
وفي اليوم التالى قام بادو بزيارة عبد الناصر وعقد معه اجتماعاً مطولا .

 
وطبقأ لما رواه بادو في " مذكرته عن المقابلة "- وقد بعث بنسخة منها إلى الرئيس في اليوم التالى ليضمن أنه ينقل آراءه دون تحريف- فقد لفت بادو الرئيس عبد الناصر إلى التورط العسكرى المصرى المتزايد في اليمن أن ذلك  قد يؤدى إلى أن يتخذ الكونجرس الأمريكى إجراء غير مناسب حيال برنامج المساعدة الأمريكية.

 
وجاء فى المذكرة أن " الرئيس عبد الناصر استمع بانتباه وصبر إلى الشرح الطويل " ثم أخذ الرئيس يوضح أن الجمهورية العربية المتحدة انتظرت صابرة لمدة خمسة أشهر نجاح جهود فك الاشتباك التى اقترحها الأمريكيون ، وقال إن الإجراءات العسكرية التى يتخذها لا تهدف إلا إلى " وقف المساعدة التى

يقدمها فيصل للقبائل المتمردة أو إبطال فاعليتها " وأصر الرئيس على أن " الغاية من الحملة ليس التمهيد لمهاجمة المملكة العربية السعودية أو التمهيد لحملة لقلب حكومة فيصل " .

 
وعند ذلك حث بادو الرئيس جمال عبد الناصر على التوقف عن مهاجمة الأراضى السعودية وخاصة أثناء عمل لجنتى السوورث بنكر ورالف بانش . 

 
ويروى بادو في مذكرته أن " الرئيس عبد الناصر قال بعد برهة من التفكير الصامت انه يوافق على وقف الهجمات في المستقبل القريب أثناء عمل لجنتى بنكر وبانش وأنه سيصدر التعليمات بذلك إلى المشير عامر " . ومن أجل قطع الطريق على أى سوء تفاهم أجابه السفير الأمريكى قائلا:

 
" إذاً : هل لى أن أبلغ حكومتى أنكم ستأمرون بوقف أية عمليات قرب الحدود السعودية؟ ".

 
ومضى بادو يروى في مذكرته:

 
" ورد الرئيس عبد الناصر بالإيجاب لكنه أشار إلى أن ذلك لا يعنى أن الجمهورية العربية المتحدة لن تفكر في استئناف الهجمات في حال إخفاق المساعى الراهنة لفكك الاشتباك ".

 
------------------------

 
وفي نهاية مارس (آذار) رفع السوورث بنكر- بعد أن زار فيصل- أسس مشروع  فك الاشتباك إلى عبد الناصر . وكان يشتمل على استخدام مراقبي الأمم المتحدة ولما كان يبدو أنه ينطوى على فرص طيبة للنجاح فقد وافق كل من عبد الناصر وفيصل عليه . ومع ذلك فشل بسبب استمرار المساعدة السعودية للملكيين . مما استلزم بقاء قوات الجمهورية العربية في الميدان .

 
وخيمت خيبة الأمل أئناء صيف وخريف 1963. وبدأ يخيل إلى عبد الناصر أن كنيدى خدعه. بل إنه أخذ يشعر بأن جزءاً من المخطط الأمريكى كان يهدف إلى زيادة تورطه في اليمن لإبقاء الجيش المصرى منشغلا في الفيافي الصحراوية اليمنية .

 
وقد سر ذلك كله الإسرائيليين نظراً إلى أن كثيرين من الجنود المصريين كانوا بعيدين عنهم .

 
وقد دفعت هذه المزية التى أتيحت للإسرائيليين- بالإضافة إلى استخدام الجنود المرتزقة وإخفاق الأمريكيين في حمل أصدقائهم السعوديين على وقف تسليح الملكييين- إلى جعل عبد الناصر يرتاب في كنيدى .

 
وكانت شكوك عبد الناصر ترجع إلى الأيام الأولى من رئاسة كنيدى عندما بدأ يسمع أخبار وعود كنيدى بتزويد إسرائيل بالأسلحة. ثم تأكدت صحة تلك الأخبار بواقعة جرت في سبتمبر (أيلول) 1962. عندما ذهب بادو لمقابلة عبد الناصر ، حاملاً رسالة شفهية من كنيدى . كان مفادها أن الإسرائيليين يشعرون بأنهم مهددون وأنه من أجل إزالة مخاوفهم أجاز لهم شراء بعض بطاريات صواريخ الهوك المضادة للطائرات . واعترض الرئيس على ما نقله السفير بادو وقال محتجاً :

 
كيف تستطيعون التحدث عن وقف سباق التسلح بينما تفعلون هذا؟

 
لكن بادو أجابه : ما على الرسول إلا البلاغ وأنه ينقل فقط رسالة من كنيدى الذى أراده أن يعرف بأمر صواريخ الهوك .

 
وقد أعلنت الحكومة الأمريكية رسمياً عن صفقة الهوك يوم 27 سبتمبر ( أيلول) ، وظهرت في صحف آمريكية مختلفة أنباء تقول إن الرئيس عبد الناصر أستشير في أمرها وبالتالى فإنه لا مبرر لشكواه .

 
وأحس عبد الناصر حينئذ بأنه إنما أخبر بقضية الصواريخ الهوك لغل يديه فقط وأحس بأنها كانت مناورة تنطوى على الخديعة.

 
وبالطبع لم تساعد هذه الشكوك على تسوية مشكلة اليمن ولم تساعد كثيراً على وقف سباق التسلح . وكان كنيدى قد اقترح موافقة مصر على تفتيش مفاعلها النووى لكن عبد الناصر رفض ذلك قائل ا: إن هذا المفاعل غير قادر على إنتاج القنابل الذرية.

 
وأحس عبد الناصر بأنه برغم أن كنيدى جاء بأفكار جديدة " فإن الرئيس الأمريكي الشاب يحاول فرضها بوسائل تخلو من الليونة وأحياناً تخلو من أى هدف .

 
وعشية اغتيال الرئيس كنيدى كانت العلاقات بين مصر والولايات المتحدة بدأت تنزلق من مرحلة الاحتواء إلى مرحلة العنف .


وتظهر رسالة كنيدى الأخيرة إلى عبد الناصر ضيقه إزاء رفض عبد الناصر الخضوع  لرغباته. فقد قال فيها:
 
" يجب على أن أبلغك قلقى الشخصى من عدم قيام الجمهورية العربية المتحدة حتى يومنا هذا، بتنفيذ الجانب الخاص بها في اتفاق فك الاشتباك فى اليمن .

 
" وأعتقد أنه من الإنصاف أن نقول إن السعوديين ينفذون التزاماتهم بموجب تلك الصفقة . والواقع أننى فهمت أن الجمهورية العربية المتحدة تشاطر مخابراتنا رأيها فى أن إمدادات السلاح السعودية عبر الحدود قد توقفت تقريباً إن لم يكن كلياً .

 
" إننا مطمئنون إلى أن حكومة المملكة المتحدة وحكومة المملكة السعودية تبديان تأكيداتهما لنا بأنهما لا تساعدان الملكيين .

 
" لذلك فإنه ليس لى من وسيلة للضغط على فيصل، لأنه بعد أن نفذ جانبه فى الصفقة فما زال يرى الجنود المصريين في اليمن ويسمع من القاهرة التصريحات العدائية الصادرة عن الجمهورية العربية المتحدة .

 
" ومن جهة أخرى لم تقم الجمهورية العربية المتحدة بعمليات الانسحاب على مراحل طبقاً لجدول يتفق وتفهمنا لروح الاتفاق . وبينما نعتقد أننا نفهم بعض الأسباب فإننا لا نستطيع أن نتغاضى عن حقيقة أصبحت معروفة لدي الجميع : ألا وهى أن الجمهورية العربية المتحدة لا تنفذ تعاقداً أبرمته الأمم المتحدة وأيدته بالفعل الولايات المتحدة ، وكفلته باعتبارها صديقة كل من الطرفين .

 
" وبسب دورى الشخصى فى القضية أظن أنكم ستفهمون سبب إحساسى بأن الأمر يعنينى شخصياً إزاء تعرض الولايات المتحدة للنقد فى الداخل والخارج على حد سواء .. "

 
كانت هذه كلمات كنيدى الأخيرة إلى عبد الناصر ونهاية مراسلات استمرت عملياً منذ تنصيبه رئيساً حتى وفاته... وتكشف هذه المراسلات عن الريبة المتزايدة بين الرجلين . فقد كان كنيدى يرتاب في رغبة عبد الناصر في الابتعاد عن اليمن ، وكان عبد الناصر قد بدأ يرتاب في كل سياسات كنيدى المتعلقة بالشرق الأوسط .

 
-------------------

 
وأوى الرئيس عبد الناصر إلى فراشه مبكراً ليلة الجمعة 22 نوفمبر، قائلا إنه يريد أن يقرأ قليلا. وجاء أول نبأ عن إطلاق النار على كنيدى فى برقية عاجلة فى الساعة التاسعة والنصف بتوقيت القاهرة. واتصلت بالرئيس عبد الناصر تليفونياً وأبلغته بالنبأ فصعق وظل يعاود الاتصال بالتليفون يستفسر عن المزيد من الأخبار. وعندما حملت الأنباء فى النهاية وفاة كنيدى كان حزنه واضحاً .

 
ونهض من فراشه وارتدى ملابسه و نزل إلى مكتبه ولما وصل وجد أنه ليس في وسعه أن يفعل شيئاً وقال يخاطب نفسه :

 
- ... لماذا ارتديت ملابسى ، ولم نزلت إلى المكتب ؟ ... ليس هناك ما يستطيع أن يفعله أي منا "...

 
وكان تأثر الشعب المصرى صادقاً وعرض التليفزيون المصرى فيلما كاملا لجنازة كنيدي أربع مرات متوالية إشباعاً للهفة الناس ... وخيم الحزن شاملا على الرئيس الشاب ، الذي كان يبشر بالشيء الكثير، ومن الصعب أن نقول : ماذا كان يمكن أن يحدث لو ظل حياً ، فقد اندفعت الأحداث بسرعة إلى فترة العنف أيام حكم ليندون جونسون لأمريكا بعد كنيدى .
 
عبدالناصر وجونسون
راعى البقر من تكساس

 
كان عبد الناصر يحس بنفور طبيعى تجاه ليندون بينز جونسون . ولم يستسغ ما كان يسمعه عن ذلك السياسى القادم من ولاية تكساس ، والسياسى الحزبي ... الذى تمرس على التواءات السياسة وصفقاتها الحزبية، ولم يكن هذا الصنف من السياسيين يعجبه. فضلا عن أنه- كما فعل كثيرون غيره- جعل جونسون يدفع الثمن في خياله ، لأنه خلف كنيدى بعد مصرعه . وفى النهاية ثبت أن عبد الناصر كان على صواب في كراهيته ونفوره الطبيعى من جونسون .

 
وكان عبد الناصر قد اعتاد عندما يتعامل مع أى رجل ، أن يضع أمامه مجموعة من صوره الفوتوغرافية ويدرسها محاولا استقراء شخصيته . فكان يجمع نحو 25 صورة من صور الشخص المقصود في أوضاع ومناسبات مختلفة وكان يقول إنه فى إمكانه أن يعرف عن هذا الشخص من دراسة الصور، أكثر مما يستطيع أن يعرفه من تقرير طويل .

 
وهكذا في وقت من الأوقات راح عبد الناصر يطلب مجموعة من صور جونسون . وقد صدمته اثنتان منها بصفة خاصة. كانت الأولى تمثل جونسون وقد رفع ساقيه فوق مكتبه. وكانت الثانية تلك الصورة الشهيرة التى يظهر فيها الرئيس الأمريكى يعرى نفسه ليكشف عن أثر جرح عملية أجريت له. وشعر عبد الناصر بأن هذه الصور تكشف عن أنه رجل جلف لا حياء له ويفتقر إلى دماثة الخلق . وتساءل : " كيف يستطيع رئيس الولايات المتحدة أن يفعل ذلك " ؟.

 
و لم يجد عبد الناصر اطمئناناً إلى جونسون فى أى من التقارير أو الصور. وشعر بأن جونسون يفتقر إلى التجربة والخبرة فى الشئون العالمية وأنه بطبيعته خلق ليكون سياسياً حزبياً محلياً .

 
وقد جاء جونسون إلى الحكم بينما كانت لاتزال ثمة ثلاث مشكلات مهمة تملأ جو العلاقات بين أمريكا ومصر: الكونجو واليمن وصفقات القمح . وفوق هذه المشكلات كانت مشكلة إسرائيل ومشكلة تزويدها بالسلاح الأمريكى .

 
وفي بداية سنة 1964 كان عبد الناصر منشغلا بأحداث عدة مهمة. ففى الثالث عشر من يناير ( كانون الثاني ) ، عقد مؤتمر القمة العربي لمحاولة فض الخلافات في العالم العربي ، وهو المؤتمر الذى تمخض عنه أول اتفاق مبدئي حقيقي على حل مشكلة اليمن وعلى إقامة قيادة عربية موحدة .

 
وفى مايو ( آيار) ، جاءت زيارة خروشوف للقاهرة وهي زيارة لم ترق لجونسون كثيراً ، ثم استضافت القاهرة مؤتمر القمة الأفريقي في يوليو (تموز) ، ثم عقد مؤتمر قمة عربي آخر في الإسكندرية في يوليو (تموز) ، كذلك تبعه مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز في أكتوير ( تشرين الأول) .

 
وكان عبد الناصر مشغولا طوال السنة ، وبينما كانت كل هذه الأحداث تسيرفي مجراها بدا أن جونسون كان تعيساً للغاية لأن ذلك كله يحدث بعيداً عنه ودون حضوره . فقد كان جونسون يتمنى أن يكون في صلب كل ما يحدث وكان يشعر بالغيرة لتركه خارج الأحداث .

 
وبعد عامين تصادف أن كان عبد الناصر متوجهاً للاجتماع مع أنديرا غاندى وتيتو في مؤتمر لزعماء دول عدم الانحياز فى دلهى . وفى اليوم المحدد لذلك الاجتماع  كان من المقرر أن يجتمع جونسون بزعماء جنوب شرق آسيا في مانيلا .

 
ولم يكن جونسون يطيق هذه المصادفة فقد بدا له أن أى حدث جانبي آخر من شأنه أن ينقص من تأثير استعراضه الكبير فى مانيلا. من هنا فقد تعرض المصريون والهنود واليوجسلاف لبعض الضغط لكي يؤجلوا مؤتمرهم .

 
على أن الضغط لم ينجح، وانعقد كل من المؤتمرين فى اليوم ذاته، واستشاط جونسون غضباً .


كان ذلك من شيمة الرجل ، ولما وقعت كل تلك الأحداث وعقدت كل هذه المؤتمرات خلال عام 1964- والتى كان لها أثرها الواضح فى السياسة الأمريكية- فقد شعر بالغيظ لأنه لم يكن في وسعه أن يؤثر فيها.
 
وقد بحث مؤتمر عدم الانحياز في قضايا جنوب شرق آسيا . ولم يستسغ جونسون ذلك ، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت موضع انتقاد بسبب سياساتها القائمة على فرض الإرادة بالقوة وبسبب دورها في الحرب الباردة . وتمخض مؤتمر الدول الأفريقية فى جلساته، عن استنكار عنيف للسياسة الأمريكية تجاه الكونجو . ومرة أخرى كره جونسون ذلك ولم يستسغه.

 
والواقع أن جونسون ظل طوال عام 1964، يتلقى الحملات أو الأخبار السيئة من جهة القاهرة. وثمة ثلاثة حوادث محددة جرت بينما كان جونسون يشن حملته من أجل أن يكون رئيساً عن حق وحقيق .

 
-----------------------

 
ففي نوفمبر ( تشرين الثاني) ، نظم الأمريكيون عملية إنقاذ كبرى للمدنيين البيض في الكونجو، أثارت احتجاجات الأفريقيين في بلاد عدة وقام الكونجوليون بإحراق المكتبة الأمريكية في القاهرة احتجاجاً... وصادف ذلك يوم عيد الشكر الأمريكى .

 
وكان الطلاب الكونجوليون قد طلبوا ترخيصاً للتظاهر السلمى ضد عمليات الإنزال الأمريكية فى الكونجو. وصدر لهم هذا الترخيص لكنهم أحبطوا بشكل مفاجىء احتياطات شرطة القاهرة . ذلك أن أحد الطلاب الكونجوليين دخل المكتبة الأمريكية، بشكل طبيعى لم يثر الشبهات قبل وصول المظاهرة . وكان هذا الطالب يحمل ثلاث قنابل زمنية حارقة. وبدأت هذه القنابل تشتعل فى نفس اللحظة التي اقتحم المتظاهرون مبنى المكتبة ففوجئت الشرطة بالنار من الخلف وبالجمهور من الأمام .

 
دمرت النيران المبنى ، وأدى الحريق إلى دفع الرئيس عبد الناصر إلى وضع محرج . فقد كان يعتمد كل الاعتماد على وزير الداخلية الذي كان يفخر بأن زمام المظاهرات في مصر لا يمكن أن يفلت من السيطرة وجاء إلى القاهرة عدد كبير من الزوار المكروهين لكن أحداً لم يصبهم بسوء . فكيف أمكن حدوث ذلك ؟

 
واستدعى عبد الناصر وزير الداخلية وقال له : كيف أستطيع أن أقول للناس إن زمام هذه المظاهرة قد أفلت ؟

 
لكن الرئيس - لكى يخفي أن الشرطة قد فقدت زمام السيطرة على المظاهرة-كان مستعداً للقبول بالمسئولية بل إنه كان مستعداً بأسلوب  أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع .

 
وهكذا عندما توجه السفير الأمريكى لوشيوس باتل لمقابلته وطلب التعويض والاعتذار رفض عبد الناصر كلا الأمرين .

 
واستقبل جونسون السفير المصرى في واشنطن مصطفى كامل وكان في حالة غضب شديد وقال للسفير:

 
" كيف يمكننى أن أطلب القمح لكم من الكونجرس بينما تحرقون مكتبتنا ؟ " ، وكان أكثر ما أغضبه بشأن ذلك الحادث ، رؤيته لصورة العلم الامريكى وهو يحرق على أيدى المتظاهرين .


وكان الحادث الثاني مؤسفاً ، ولا يقل سوءاً عن الأول ... وخلاصته أن جون ميتشوم - وهو أحد كبار رجال صناعة البترول في تكساس ، وأحد المعارف الشخصيين للرئيس جونسون- كان قد بعث طائرته الخاصة من ليبيا إلى الأردن . لكن الطائرة لم تكن قد استكملت الترخيص الخاص بالطيران فوق الأراضى المصرية عندما دخلت الأجواء المصرية . وهكذا أرسلت طائرة ميج لاعتراضها وتوجيه الأمر اليها بالهبوط . إلا أن طائرة جون ميتشوم  تجاهلت إنذارات الميج بسب اختلال جهازها اللاسلكى وتعطله فتابعت سيرها . ونتيجة لذلك تلقت الميج الأمر بإسقاطها ففعلت وسقطت الطائرة في مستنقع خارج الإسكندرية وقتل قائدها وراكب آخر معه في الحادث .
 
وقد وقع ذلك بعد شهر واحد من حرق المكتبة الأمريكية في القاهرة . 

 
توتر الوضع كثيراً  وأبلغ السفير الأمريكى الرئيس عبد الناصر أن جونسون شخصياً انزعج جداً لأنكم " أولا تحرقون مكتباته ثم تسقطون طائرة واحد من أقرب أصدقائه وطالب جونسون بتحقيق في حادث إسقاط الطائرة تجريه لجنة أمريكية. ولكن قيل له إن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يلحق مراقباً من طرفه باللجنة المصرية التي تحقق في الحادث .

 
ووقع الحادث الثالث في نطاق المفاوضات لتمديد اتفاق تزويد مصر بالقمح . 

 
فقد كان القلق بدأ يساور وزير التموين - الدكتوركمال رمزى استينو - بشأن تأمين إمدادات القمح اللازمة ، وهكذا طلب من السفير الأمريكي أن يزوره في مكتبه للبحث في الموضوع لكنه اختار وحدد لذلك موعداً حرجا . 

 
فقد جرى الاجتماع بعد ظهر اليوم الذى كان السفير باتل قد توجه في صباحه لمشاهدة حطام الطائرة التى يملكها صديق الرئيس جونسون . ووصل السفير إلى الاجتماع وهو بالغ  الانزعاج والاضطراب وعندما قدم له وزير التموين قدحاً من عصير البرتقال رفضه معتذراً بأدب قائلا إنه يأسف لعدم تمكنه من شربه لأنه ليست عنده شهية له.

 
وقال إنه يعتقد أن الوقت غير مناسب لمفاتحة الرئيس الأمريكى جونسون بتمديد اتفاق تزويد مصر بالقمح . ولم يستمر الاجتماع بين الوزير والسفير أكثر من خمس دقائق .

 
وفى اليوم التالى ، 23 نوفمبر ( تشرين الثاني) ، كان الرئيس عبد الناصر يركب القطار مع وزرائه جميعاً متوجهاً إلى احتفال بعيد النصر فى حملة السويس كان يقام في مدينة بورسعيد.


 
وجلس وزير التموين مع على صبرى ، وأخبره بقصة اجتماعه بالسفير الأمريكي فتوجه على صبرى  بالحال إلى الرئيس عبد الناصر وأبلغه القصة بشكل يفهم منه أن الأمريكيين رفضوا تماماً إمداد مصر بأية كمية أخرى من القمح . وكانت الرواية التى سمعها عبد الناصر هي أن باتل قال : " والله إننى لا أستطيع أن أبحث هذا الموضوع قطعاً لأننا لا نستسيغ سلوككم ".. وقد روى الرئيس هذه القصة فى خطابه في بورسعيد .

 
وبالطبع فقد غضب عبد الناصر وللإنصاف فإن موقفه فى هذا الموضوع كله لم يقم على مجرد الرواية التى أبلغت إليه فى القطار وإنما على وقائع كثيرة سبقتها ، ونوايا واضحة ظهرت قبلها بصرف النظر عما قاله باتل فى مقابلته مع وزير التموين أو الطريقة التى قال لها ، وهاجم الأمريكيين في خطابه قائلا: " يقول السفير الأمريكى إن سلوكنا غير مقبول . طيب . حنقول لهم اللى ما يحبوش سلوكنا يروحوا يشربوا... "

 
وتوجه عبد الناصر بالسؤال إلى الجماهير:

 
- يشربوا من إيه...؟

 
وهتفت الجماهير:

 
- يشربوا من البحر...

 
واستطرد يقول :

 
وإذا لم يكفهم البحر الأبيض لإرواء غليلهم فليشربوا البحر الأحمر...

 
إن ما أريد أن أقوله للرئيس جونسون هو أني لست مستعداً لبيع استقلال مصر فى مقابل ثلاثين أو أربعين أو خمسين مليون جنيه. ولسنا مستعدين لمناقشة سلوكنا مع أحد أياً كان . وسنقطع لسان كل من يتقول علينا أو يمسنا بسوء ".

 
وليكن هذا واضحاً وصريحاً ...

 
وإذا كنا نشرب الشاى اليوم سبعة أيام في الأسبوع فإنه يمكننا أن نكتفى بشربه خمسة أيام . وإذا كنا نشرب القهوة خمسة أيام في الأسبوع فإنه يمكننا خفضها إلى أربعة أيام . وإذا كنا نأكل اللحم أربعة أيام  فيمكننا الاكتفاء بأكله ثلاثة أيام . إننا نستطيع أن نشد أحزمتنا...

 
أريد أن أقول إننا نجابه المصاعب لكننا لا نأبه بذلك ولن نقبل الضغط أونسلم به.

 
لن نقبل أسلوب قطع الطريق من قبل رعاة البقر ".

 
وتعقدت المشكلة. ذلك أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة أحس أنه أهين شخصياً في خطاب علنى. وقد صعق السفير الأمريكى مما جرى ، وقابل بعد ذلك الرئيس عبد الناصر وروى له ما وقع بالفعل وبدا واضحاً أن قصة اجتماعه بوزير التموين نقلت مشوهة إليه.

 
لكن الضرر كان قد وقع ثم إن المشكلة في صميمها كانت أكبر من مجرد نقل رواية صحيحة أو محرفة.

 
كان عبد الناصر يشعر بأنه ليس في وسعه أن يأتمن جونسون أويثق به . وكان جونسون حاقداً مفعماً بالمرارة نتيجة سلسة الحوادث التي بدت- له وبفكره المحدود- موجهة ضده شخصياً .

 
وفي النهاية أعيد تجديد اتفاق تزويد مصر بالقمح  ولكن لمدد كل منهاا ستة أشهر ويفصل ما بين المدة والمدة فترة ستة أشهر .

 
وقد شبه عبد الناصر ذلك بأن الأمر يبدو كما لو كان الأمريكيون يكتبون على سطر ويتركون سطراً وكان ذلك نص تعبيره !

 
 وعلى كل حال فقد حول كوسيجين إلى الإسكندرية شحنات من القمح كانت تتجه إلى روسيا من استراليا وكندا . في فترة كانت مصر تعاني خلالها أزمة ونقصاً شديداً في القمح .

 
-----------------

 
وبدأت سنة 1965 بداية سيئة . فقد كانت العلاقات بين البلدين وبين الرئيسين متوترة . وازدادت هذه العلاقات تردياً بمرور الوقت . وكان لعبد الناصر مجموعة من الأصدقاء الأمريكيين والأوروبيين أبلغوه جميعاً شيئاً واحداً أجمعوا عليه : هو أن جونسون حانق حاقد .

 
وحاول روبرت أندرسون- وهو أيضاً من أبناء تكساس . ومن أصدقاء جونسون- أن يشرح للرئيس عبد الناصر عقلية الشاب الذى نشأ في تكساس ثم انطلق إلى العالم ليحترف السياسة . لكن ذلك لم يؤد إلا إلى زيادة ريبة عبد الناصر فى جونسون .

 
وقد ازدادت شبهات عبد الناصر حدة عندما باع جاويش في الجيش البريطاني- يعمل في وزارة الدفاع البريطانية- خطط الطواريء السرية البريطانية فيما يتعلق بالشرق الأوسط إلى دبلوماسى عربي [ وهي الوثائق التي حوكم الجاويش البريطاني " بيرسي سيدني ألن " بتهمة تسليمها إلى مكتب الملحقين العسكريين العراقي والمصري في لندن ، في مارس 1965 ، وقد صدر الحكم عليه في 10 مايو 1965 بالسجن لمدة 10 سنوات . ] 

 
وكانت تلك الخطط تفصل أمر التدخل في مصر وفي كل دولة من دول المنطقة وكانت تستند كلها إلى الافتراض أن التدخل سيكون عملا مشتركاً بين البريطانيين والأمريكيين وعلى أساس تعاون الأسطول السادس الأمريكى مع الأسطول البريطاني . وتعاون أسراب الطائرات المقاتلة والقاذفة الأمريكية مع سلاح  الجو الملكى البريطانى .

 
وزاد الأمور سوءاً أن أشكول عندما حوصر في البرلمان بأسئلة حول الدفاع عن إسرائيل أعلن أن الأسطول السادس الأمريكى يشكل الاحتياط الاستراتيجى لإسرائيل و لم يساعد شيء من هذه الأحداث كلها على تحسين الوضع .

 
ورغم ذلك فقد احتفظ جونسون بمراسلاته مع عبد الناصر كما فعل كنيدى . وقد كتب الرئيس المصرى إلى الرئيس الأمريكى يعزيه في وفاة كنيدى . فرد عليه جونسون شاكراً على ورق موشح الزاوية بالسواد.

 
وما لبث جونسون أن وجه إلى عبد الناصر في 17 فبراير ( شباط ) 1964 رسالة جاء فيها :

 
" قرأت بعناية مراسلاتكم المتعددة مع الرئيس كنيدى وقد لاحظت بإعجاب ما تنم عنه من الاحترام والتفاهم المتبادلين . وأحسست فيها كذلك برغبة صادقة في المضى قدماً في القطاعات التى يسعنا فيها ذلك . بينما نعكف على العمل من أجل تحديد أثر تلك المشكلات التى نختلف- بالضرورة- على صعيدها. ومن جانبي فإني أود أن ينمو الشعور بالثقة بين الطرفين حتى نتجنب إساءة تفسير سياسات كل منا. الأمر الذى عكر علاقاتنا في الماضي .

 
وأود كذلك أن أتابع الحوار الصريح الودي الذي سبق أن ساهم في التفاهم بين حكومتينا ،  فالسنوات القليلة التالية ستكون عبئاً ثقيلا على كل منا، لكن الولايات المتحدة والجمهورية العربية المتحدة خليقتان بأن تكسبا الشيء الكثير عبر العلاقات الطيبة التي يجب أن يسعى كلانا إلى الحفاظ عليها وتوسيعها بدلا من ترك دولتينا تتباعدان ... "

 
كتب جونسون ذلك بالطبع قبل حوادث 1964 التى ازعجته الى حد بعيد .

 
وقد رد عبد الناصر في 26 أبريل ( نيسان ) على رسالة جونسون بالرسالة الآتية :

 
عزيزي  الرئيس

 
تلقيت بكل اهتمام مبادرتكم الطيبة بالكتابة إلى ، استئنافاً لاتصالات جرت بين سلفكم الراحل وبينى . حاول كل منا بواسطتها أن يقترب من فكر الآخر بالفهم .

 
ولقد أسعدني أن أتاحت لكم مشاغلكم فرصة الاطلاع على المراسلات المتبادلة بينه وبينى حول العديد من المشاكل والموضوعات التى أثارت اهتمامنا المشترك ، سواء في العلاقات المباشرة بين بلدينا أو فى الدائرة العالمية الأوسع بعدها ، واثقاً أن ذلك سوف يضع تحت تصرفكم صورة صحيحة من فكر الجمهورية العربية المتحدة ودوافعها في كل موقف اتخذته .

 
وإني لأؤمن بجدوى الاتصال الشخصى المباشر بين رؤساء الدول ، وأعتبر أن ذلك يمنح العلاقات الدولية نظرة إنسانية تستطيع دائماً أن تتلمس- حتى فى وسط الأزمات المحتدمة- أسباباً للاتصال .

 
وإني لألتقى معكم فى كثير من المسائل الى تعرضت لها رسالتكم إلى .

 
ألتقى فى الآمال المعلقة على الأمم المتحدة والتعاون معها في اطارها طريقاً إلى عالم أكثر انسجاماً وسلاما.

 
وألتقى في أهمية تطوير العلم الذرى لكى يخدم السلم ولا يسخر للحرب وفي ضرورة حصر انتشار الأسلحة النووية.

 
وألتقى فى ضرورة توسيع وتعميق العلاقات العربية الأمريكية وفتح طريقها بالتفاهم و الاحترام المتبادل.


وألتقى في ضرورة البحث دواماً عن الطريق لتضييق مجال الخلاف قدرالمستطاع وفي مقابل ذلك توسيع مجال التعاون حيث يمكن أن تكون له فرصة وأمل .
 
على أني أريد أن أضيف بعض الملاحظات التى أشعر من خلال التجربة بحيوية دورها ، وأشعر أيضاً بضرورة ملاقاتها بالتقدير الكافي من جانب كل الذين يهمهم استقرار السلام واستمراره . ولربما كان تركيزى الأكبر في هذه الملاحظات على الشرق العربي بوجه خاص وعلى العالم الأفريقي الآسيوي بوجه عام .

 
أولا: أن هناك صراعاً ضد الاستعمار مازال قائماً ، ولا يمكن إنكار وجود هذا الصراع ولا التقليل من أخطاره على السلام .. وأشير هنا على سبيل المثال إلى موقف بريطانيا في جنوب شبه الجزيرة العربية وإلى موقف البرتغال في انجولا وموزمبيق .

 
ثانياً :  أن هناك صراعاً من أجل الوحدة باعتبارها تحقيقاً للذات القومية لأمم عديدة ، بينها الأمة العربية، أمم مزقتها مصالح الدول الاستعمارية الكبرى في ظروف سابقة ومازال هذا التمزق في الكثير من الأحىيان قائماً تتحصن وراءه  رواسب انفصالية تغذيها فعلا من الخارج القوى نفسها صاحبة المصلحة في التمزق .

 
ثالثاً : أن هناك صراعاً بين التقدم والتخلف . بتعبير آخر بين الغنى والفقر، ويمارس هذا الصراع دوره على مستوى الدول خصوصاً مع التقدم العلمى والتكنولوجى العظيم اللذين تناقضا طبيعياً وإن بدا للوهلة الأولى غريباً ذلك أنه يمنح المتقدمين الفرصة ليكونوا أكثر تقدماً . ويفرض على المتخلفين - برغم كل ما يبذلونه من جهود- أن يكونوا أكثر تخلفاً ولو بالقياس إلى غيرهـم من المتقدمين .

 
رابعاً : أن هناك صراعاً اجتماعياً في داخل هذه الأمم المتنبهة حديثاً إلى أبعاد القرن العشرين وآماله الواسعة يستهدف إقامة حرية الانسان على أوثق الضمانات ويربط الحرية السياسية وأي معنى قد يكون لها ، بالحرية الاجتماعية ومضمونها الأصيل . وإني لاستذكر في هذا المجال ما ورد في الميثاق الوطني للجمهورية العربية المتحدة في أن حرية تذكرة الانتخابات ترتبط بحرية رغيف الخبز .

 
وإني لأثق أنكم أول من يقدر شرعية هذا الصراع وضرورة مواجهته بكل مسئولية الضمير الوطنى ، فلقد أثارت الإعجاب في بلادنا حملتكم ضد الفقر في الولايات المتحدة أغنى البلاد في عالمنا المعاصر .

 
خامساً : بالنسبة إلى الشرق العربي هناك صراع بين الأمة العربية وإسرائيل التى كان قيامها نتيجة للرغبة في تمزيق وحدة العرب والحيلولة دون التقاء شعوبهم من ناحية  وابقاء قاعدة وسط الأرض العربية لاستمرار تهديدها كما أئبتت بجلاء عملية التواطؤ بالعدوان على مصر سنة 1956.

 
ولربما كان يمكن تلخيص هذه الملاحظات التى أوردتها في عبارة واحدة هى أن السلام لا يمكن أن يستقر أو يستمر حقيقة إلا إذا كان مدعماً بالعدل  وسلام الأمر الواقع- مهما خلصت النيات- لا يستطيع غير أن يلعب دور الهدوء الذي يسبق العاصفة.

 
وإني لأؤكد لك أن الجمهورية العربية المتحدة لا تتردد  في بذل أى جهد من أجل تحقيق مثل هذا السلام القائم على العدل ، وتمد بغير تحفظ وبغير شروط يدها بالمحبة والأمل والرغبة فى التعاون الصادق إلى كل من يشغل بالهم مستقبل السلام وكفالته .


وإني لأثق فى الوقت نفسه أن الولايات المتحدة الأمريكية وشعبها العظيم تعطى قضية السلام كل اهتمامها وليست هناك في هذا العصر مسئولية تضارع مسئولية الولايات المتحدة وقيادتها.
 
ومن صميم قلوبنا نحن نتمنى كل التوفيق للولايات المتحدة . كما نتمنى لكم شخصياً كل النجاح في المسئولية العظيمة التى تتحملون تبعاتها .

 
وتفضلوا بقبول موفور تحياتي .

                                                                                                    توقيع 

                                                                                                جمال عبد الناصر

القاهرة في 26 أبريل سنة 1964


 
كانت تلك بداية المناوشات في الحوار بين عبد الناصر وجونسون .

 
وقد استمرت المراسلات طوال العام وتناولت اتفاق حظر التجارب النووية واستكشاف الفضاء والتهاني التى تبادلاها لمناسبة إعادة انتخاب كل منهما رئيساً للجمهورية. وأرسل جونسون كذلك كتاباً إلى عبد الناصر- لمناسبة افتتاح مؤتمر دول عدم الانحياز فى 3 أكتوبر (تشرين الأول) ،  تكشف عن كرهه للمؤتمر . كما أوفد السفير باتل برسالة شفهية بشأن الكونجو، يتهم فيها- عملياً- مصر بمساعدة الروس والصينيين على الدخول إلى الكونجو . وجاء في الرسالة الشفهية :

 
" أعتقد بأن الدعم الأفريقي لحركة العصيان يستند إلى تحليل خاطىء لطبيعة العصيان وأغراضه وهو يساهم فى انتكاص مسيرة القومية الأفريقية. وإن مثل هذا الدعم يخدم حتما قضية الأتحاد السوفييتى والصين الشيوعية بإتاحة فرص جديدة لهما لمد نفوذهما في القارة .

 
وفى سياق مسيرة الدول الأفريقية إلى الاستقلال التام . وهو هدف نتعاطف معه. فإننا نرجو منها أن تأخذ حذرها من تيارات النفوذ الاجنبية الغريبة عنها والتى تهدف في النهاية إلى هدم استقلال القارة الأفريقية كلها ".

 
-------------------

 
كانت تلك الرسائل تعكس التباعد المتزايد بين البلدين . ومن وراء واجهة المجاملات الديبلوماسية كان زمن فترة الحصر والاحتواء تولى .

 
ولقد بدأت فترة العنف في 18 مارس ( آذار) 1965. عندما وجه  جونسون ما اعتبره عبد الناصر إنذاراً.

 
والقصة أن السفير باتل طلب مقابلة مع عبد الناصر قدم خلالها اليه وثيقتين : الأولى عبارة عن كتاب شخصى ، كتبت على زاويته كلمة " سرى " موجه من جونسون إلى عبد الناصر. وقد كتبه بأسلوبه المعتاد فقال :

 
" إن أفضل الوسائل لتذليل المصاعب هي مناقشتها مباشرة بينى وبينك . كرجل لرجل ، يكن كل منا الاحترام لحقوق الآخر ومسئولياته.


إن المشكلة التى تحتاج- اليوم- إلى هذا النوع من النقاش : هى مشكلة معالجة سباق التسلح المتزايد والمتصاعد في الشرق الأوسط ، بروح الهدوء  و المسئولية ... "
 
وبعد ذلك انتقل إلى لب الموضوع  فقال :

 
" إن موقفنا قد وطد ضمن إطار سياستنا التقليدية القائمة على ضبط النفس فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة وتستند هذه السياسة إلى المبدأين الآتيين :

 
أولا- أننا سنواصل- إلى أقصى حد ممكن- تحاشى بيع الأسلحة إلى الأطراف الرئيسية في النزاع العربي- الإسرائيلى .

 
ثانياً- فإننا لن نبيع تحت أي ظرف من الظروف ، الأسلحة التى من شأنها أن تعطى أحد الأطراف تفوقاً عسكرياً على الطرف الآخر. هذه هى السياسة التى اتبعناها والتى سنواصل اتباعها ".

 
غير أن الوثيقة الثانية التى أبرزها السفير باتل فقد كانت تروي حكاية أخرى تماماً . فقد جاء فيها " أنه صدرت عن الإسرائيليين ردود فعل قوية حيال ما بدا لهم بمثابة جوانب كيدية في مخططات تحويل ينابيع نهر الأردن وروافده . وحيال التصريحات العربية التى تتسم باللهجة العدائية التى تلهـب مشاعر الجماهير وحيال الحشد الذى تقوم به القيادة العربية الموحدة ، وأخيراً  حيال إلغاء شحنات الأسلحة الألمانية.

 
وكجزء من المسعى الأمريكى المستمر من أجل تخفيف التوتر . فقد أوفد الرئيس جونسون المستر أفريل هاريمان والمستر روبرت كومر ( صاحب حرب كومر) إلى إسرائيل لتهدئة الاسرائيليين .

 
وأدت محادثاتهما إلى تهدئة الحالة لكن المشكلات الأساسية لاتزال قائمة ولا تزال تشكل سببأ كامناً للحرب . ويبدو أن العرب قلقون من قيام إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية خارج حدودها ، إلا أن إسرائيل منزعجة بدورها من البيانات المعزوة إلى بعض الزعماء العرب  والتى تعرب عن النية فى إبادة إسرائيل في يوم ما . إننا نشعر كذلك- بسبب مثل هذه الضغوط- بأن الإسرائيليين يعتبرون- ذات يوم- أنهم مجبرون على التحول من البرنامج النووي السلمى إلى برنامج لإنتاج الأسلحة النووية.

 
لقد قمنا بطمأنة الإسرائيليين إلى أن الولايات المتحدة خليقة- إلى الحد الذى توافق فيه على وجود اختلال خطير فى التوازن لا يمكن تقويمه بأسلحة من مصادر أخرى- بأن تعقد معهم صفقات أسلحة مباشرة، ولكن محدودة وذلك على سبيل الاستثناء للسياسة القائمة.

 
لقد كانت الولايات المتحدة أكثر ما تكون إحجامأ عن أن تصبح مصدرأ مباشرأ لتوريد المعدات العسكرية لأى من الأطراف الرئيسية فى النزاع العربى- الإسرائيلى .

 
لكن ضبط النفس عندنا لم يكن له ما يقابله من الاتحاد السوفييتى ذلك أن الاتحاد السوفييتي ادعى أنه إذ يقوم بتوريد شحنات ضخمة من السلاح إلى دول معينة في المنطقة ، إنما يعمل من أجل السلام . وفى الوقت ذاته يعتقد الروس- على ما يبدو- أن من مصلحتهم استغلال النزاع العربي - الإسرائيلى لإثارة الفو ضى والاضطراب .

 
إننا نعتبر أن المنافسة على الأسلحة تحمل بذور الفشل والهزيمة في ذاتها ، لأن فى وسع كل طرف في النهاية أن يجارى الآخر في الأسلحة التى يحصل عليها ، ولكن ذلك قد يؤدى إلى قيام الطرف الآخر بهجوم وقائي مضاد. ولذا فإن هناك خطرآ في أن يحصل أحد الأطراف على مزية عسكرية جوهرية تكفى لإغرائه بشن هجوم وقائي وبخاصة إذا بدا أن مزية التفرق تلك ، بدأت تتناقص .

 
ولهذا فإن مفتاح السلام المزعزع في الشرق الأوسط قد يكمن فقط في الحيلولة دون اختلال التوازن في أنواع الأسلحة تلك التى قد تشجع على القيام بضربة وقائية. وهذا يعنى أنه قد يكون من المصلحة الدولية العامة الموافقة على بعض طلبات الأسلحة حتى نمنع النزاعات .

 
ومراعاة لهذا المبدأ باعت حكومة الولايات المتحدة صواريخ " هوك " لتهدئة المخاوف الإسرائيلية من قاذفات القنابل التابعة للجمهورية العربية المتحدة .

 
ولهذا السبب نفسه ، فإن الولايات المتحدة ، مستعدة لأن تبيع الإسرائيليين أنواعاً وكميات محدودة من الأسلحة اللازمة لدفاعها إذا تأكدت من التزام إسرائيل بضبط النفس .

 
وبالطبع فإن حاجة الولايات المتحدة إلى بيع الأسلحة لإسرائيل ستتوقف على ما يفعله العرب . فيجب أن يكون مفهوماً أنه إذا أقدمت الدول العربية على تضخيم قضية بيع الولايات المتحدة كميات محدودة من الأسلحة لإسرائيل وإذا جعلت من ذلك مشكلة كبرى فإنها قد تثير بذلك في الولايات المتحدة رد فعل عاماً من شأنه أن يهدد بالخطر التزام حكومة الولايات المتحدة بضبط النفس ومعالجتها المحايدة للمشكلة العربية- الإسرائيلية . ولقد قاومت الولايات المتحدة- دائماً- أمر المضى إلى الحد الذي تواصل إسرائيل ضغطها عليها للذهاب إليه. وهكذا فإن من شأن العرب إذا ضخموا القضية أن يضروا بالدافع الأمريكى إلى تحديد مبيعات الأسلحة لإسرائيل ، وان يتسببوا عمداً فى استقطاب الوضع في الشرق الأدنى استقطاباً تحاول الولايات المتحدة جاهدة أن تتفاداه .

 
ومن المهم أن نفهم أن عدم التحيز وضبط النفس لا يزالان أساس سياسة الولايات المتحدة بشأن بيع الأسلحة . و بالتالى فإن أية صفقة لبيع أسلحة أمريكية إلى الدول العربية أو لإسرائيل ستكون على المستوى الأدنى الذى تمليه الظروف .

 
وفى هذا الصدد يريدكم الرئيس جونسون أن تعرفوا أننا وافقنا على بيع بعض الأسلحة للأردن . وقد درسنا الطلب الأردنى بعناية طوال أشهر عدة . ومع أن العرب قد لا يقدرون خطر ذلك ، فالواقع أن البديل للأسلحة الأمريكية في الأردن من شأنه أن يعنى وجوداً ونفوذاً سوفييتين في منطقة لم يكن لهم فيها وجود من قبل . الأمر الذى قد تترتب عليه أخطار تهدد استقرار الشرق الأدنى بأسره بالإضافة إلى أنها من شأنها أن تهدد المصالح العربية وغير العربية. ولهذا فقد قررت الولايات المتحدة أن تبيع الأسلحة للأردن لكى تمنع استغلال السوفييت للموقف ... "

 
------------------------

 
كانت هذه الرسالة الشفوبة التى نقلها السفير باتل الى الرئيس عبد الناصر مثيرة للغضب بل والقرف. ففى المقام الأول كانت هناك رسالة جونسون التى يبدو أنه يقول فيها إن الولايات المتحدة لن تبيع أسلحة. ثم أرفقت بتلك الرسالة وثيقة تلمح أولا إلى أن إسرائيل ستنتج أسلحة نووية ثم إلى أن أمريكا ستمد إسرائيل بالسلاح ، ثم إلى أنه إذا أثار عبد الناصر ضجة بشأن هذه الشحنات فسوف ترسل أمريكا مزيداً منها إلى إسرائيل .

 
وشعر عبد الناصر بأنه خدع ، وأن المطلوب منه هو أن يلزم الصمت تحت التهديد والابتزاز.

 
على أن ما أثار المزيد من غضبه كان الطريقة التى استخدم بها جونسون الأردن فى هذا الابتزاز، ذلك أن جونسون كان يمد دولة عربية بالسلاح جنبا إلى جنب مع إسرائيل ، ليضع عبد الناصر فى موضع لا يستطيع معه الاحتجاج . " لأنه كان فى وسع الأمريكيين أن يدعوا أنهم يقتفون سياسة متوازنة، وأنهم يعطون السلاح لكلا الجانبين " ، وإن لم يكن ثمة تعادل وتكافؤ فى الأسلحة التى يرسلها الأمريكيون إلى إسرائيل والأسلحة التى يرسلونها إلى الأردن .

 
وقال عبد الناصر فى معرض تعليقه على ذلك : إن الأردنيين يستخدمون بمثابة المحلل ( والمعروف أن الشريعة الإسلامية لا تسمح لمن طلق زوجته طلاقاً بائناً بأن يعيدها إلى ذمته إلا إذا تزوجت قبلا من رجل آخر، ويتحايل الناس فى ذلك بتأجير " محلل " شرعى لكى تتم مراسم الزواج ويصبح قائماً شرعأ).

 
وهكذا فقد أريد للملك حسين أن يلعب دور " المحلل " فى الزواج الأمريكى- الإسرائيلى .

 
وطوال تلك السنة سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ فخفض أمد اتفاق تزويد مصر بشحنات القمح من ستة أشهر إلى ثلاثة . وزادت بالتالى مشاعر العداء . ورغم ذلك فقد كان هناك أناس كثيرون يحاولون إيجاد صيغة للتفاهم بين مصر والولايات المتحدة .

 
وكان كنيدى قد خطط للقيام بدفعة سياسية كبرى في بلاد أفريقيا وأقطار عدم الانحياز لو قيض له أن يحيا ويتمتع بتجديد رئاسته. وكان من بين جدول الأعمال الذى وجده الرئيس جونسون على مكتبه- عندما تسلم الحكم بعد كنيدى- مشروع بدعوة الرئيس عبد الناصرإلى زيارة واشنطن عام 1965.

 
وقد بعث هذا المشروع إلى الحياة عام 1966 حين سئل عبد الناصر، إذا كان يود أن يزور جونسون. وقد رد قائلا : " إننى لا أستطيع الذهاب الآن لأن العلاقات بيني وبين جونسون متوترة ، ولو ذهبت لأضرت زيارتى لواشنطن أكثر مما نفعت إذ سيحاصرني حاملو لافتات الاحتجاج وستقوم الجماعات الصهيونية بالتظاهر ضدى وهذا مما سيزيد الأمور سوءاً " .

 
وفي النهاية، وافق الرئيس عبد الناصر على أن يذهب أنور السادات إلى واشنطن فى فبراير (شباط)، ليقابل جونمسون في محاولة لتذليل الطريق الوعر الذى كانت تسير فيه العلاقات المصرية- الأمريكية. على أن يرد الزيارة دين راسك أو ناثب الرئيس همفرى ، وذلك لتمهيد الطريق لزيارة يقوم بها عبد الناصر لواشنطن سنة 1967.

 
----------------------------

 
ووصل أنور السادات وقرينته إلى واشنطن وبذل جونسون وزوجته الليدى بيرد أقصى جهدهما لكسب مودة وإعجاب زائريهما. وعندما استقبل جونسون أنور السادات في القاعة البيضاوية في البيت الأبيض أشار إلى عدد من صور رؤساء الدول موقعة بإمضاء كل منهم، ثم بدأ يتظرف ويقول بلهجة عاطفية: إننى أحبكم... إننى معجب ببلادكم ... إننى أحب الرئيس عبد الناصر. والآن انظر: إن لدى هنا مكاناً شاغراً لصورة من صور الرئيس عبد الناصر، فلم لا يرسل لى إحدى صوره؟ ولماذا نعادى بعضنا البعض؟ يجب أن نكون أصدقاء .

 
وجاء الدور فى الكلام على السادات فأبلغ الرئيس جونسون رسالة شفهية من عبد الناصر، وكانت بسيطة ورقيقة :

 
" طلب إلى الرئيس عبد الناصر أن أبلغك أننا نريد شيئاً واحداً : إننا لا نريد قمحاً ولامساعدات ، فما نريده- وما نعتقد أنه مفتاح كل شيء – هوالفهم . لا نريد شيئاً أكثر من الفهم . وأنا لا أحمل غير هذه الرسالة. وعندما سألت الرئيس عبد الناصر عما يجب أن أبلغك أياه قال لى " قل له إن الفهم هو كل مانبتغيه " ..

 
ورد جونسون على ذلك بقوله : " إن ما نحتاج إليه هو الديبلوماسية الهادئة. فلماذا يهب الرئيس عبد الناصر ويهاجمنى علناً ، ويهاجم السياسة الامريكية علناً ؟

 
لقد اشبتكت كثيرا في مخاصمات مع الليدى بيرد- زوجته-  برغم أئنا نحب بعضنا بعضا . لكننا في العادة نحاول أن نحل مشاكلنا في همس ، فلا يكاد يعرف إنسان بخصامنا . وأن ما أرغب فيه هو أن أحل مع عبد الناصر مشكلاتنا همساً " .

 
أثناء ذلك كله كان جونسون يميل نحو السادات ويتكلم همساً .

 
وعندما أبلغ السادات الرئيس عبد الناصر الواقعة : إستدعى الرئيس السفير الأمريكى وحمله رسالة شفهية إلى الرئيس جونسون قال فيها : " أريدك أن تفهم أمرين أنت تعلم أن عندنا خطة تنمية. إن آمالنا كبيرة لكن مشكلاتنا كبيرة وهذا مما يجعلنا حساسين حيال أى ضغط لأننا إذا خضعنا لأى ضغط فإننا خليقون بأن نفقد كل ماكسبناه . وهكذا لا نستطيع أن نلتزم بشئ سوى مبادئنا . ولهذا لن نسمح لأى كان بأن يضعنا في وضع تقوم فيه التناقضات بين الوساثل والغايات . إننا نريد أن ننمو لكننا نريد أن نحقق هذا النمو مع  الاحتفاظ بكرامتنا . وإلا فإننا سنجد أنفسنا وقد تحولنا إلى انتهازيين وليس من شأن الانتهازية- سواء على صعيد العلاقات الفردية أو العلاقات الدولية- أن تساعد أياً كان على تحقيق أى شيء . وثانياً أرجوك أن تخبر الرئيس جونسون أننى غير مقتنع بما قاله لأنور السادات عن الديبلوماسية الهادئة ومنافعها. أنكم تملكون المال والقنابل الذرية والثروات والطاقات بلا حدود . هذه هى وسائلكم. ولكن ما هى الوسائل التي أملكها ؟ إن السلاح الأول للئورة هو جماهيرها وهو إيمان تلك الجماهير واستقطابها. ولقد استطعت دائماً أن أحرك تلك الجماهير للدفاع عن نفسها ضد أى خطر. إن الجماهير هي سلاح الثورة العربية. وهكذا فإن الديبلوماسية الهادئة قد تلائم الولايات المتحدة لكنها لا تلائمنا لأن الاعتماد عليها يعزلنى عن تأييد الجماهير. وإذا كان لي أن أكون مستعداً بسلاحى فيجب أن أكون دائماً مستعداً للتحدث إلى الشعب العربي . يجب أن أشرح وأوضح دائماً للشعب العربى . يجب أن أبسط وأكشف جميع أسرارنا أمام الجماهير، وبغير ذلك أواجه المعركة بلا سلاح " .

 
والواقع أن زيارة السادات لأمريكا : أدت إلى جعل الطريق أكئر نعومة ، برغم أن جونسون بذل كل من عنده من سحر لكى يسهل قليلا من علاقاته الشخصية مع عبد الناصر.

 
ولما عاد السفير المصرى فى واشنطن إلى القاهرة بعد زيارة السادات سأل عبد الناصر:

 
" هل تستطيع أن تعطيني إحدى صورك للرئيس جونسون؟ "

 
كان جونسون لا يزال راغباً فى أن يملأ الفراغ فى القاعة البيضاوية.

 
لكن عبد الناصر- الذى لم يتعود توزيع صوره- رفض الاستجابة قانلا إن جونسون يريد أن يضللنا بكلمات رقيقة ليس لها من أثر فى سياساته.

 
وعاد السفير المصرى إلى واشنطن خاوى اليدين . وبعد أسبوعين من ذلك بعث ببرقية سرية يطلب فيها الإذن بالعودة إلى القاهرة حاملا رسالة شخصية من جونسون . وعندما وصل تبين أن الرسالة الخاصة كانت عبارة عن نسخة من صورة للرئيس جونسون رسمها الفنان نورمان روكويل . وكتب جونسون على جانبها العبارة الآتية فوق توقيعه :

 
" أرجو أن أقنعك بأننا يمكن يوماً أن نصبح من الأصدقاء " .

 
وفى هذا الوقت نفسه تقريباً كانت منى- ابنة الرئيس عبد الناصر- تزور الولايات المتحدة مع زوجها فاستضافهما الرئيس جونسون وزوجته الليدى بيرد فى البيت الأبيض وكان جونسون يكاد يقطر بالرقة والمودة : " أنت عروس... وابنتى عروس كذلك .. ولذا فأنا كوالدك ... تعالى الى المزرعة... أخبرى والدك بأنى أريد أن أكون صديقاً له " .

 
لم يكن فى وسع عبد الناصر - الذى كان رجلا متحفظاً- أن يفهم قطعاً هذا التصرف . فتساءل عما يمكن أن يعنيه وشعر بأن جونسون يعطيه من طرف اللسان كلمات معسولة بينما تختلف الأفعال الأمريكية تماماً . وهكذا مرت سنة 1966 على أسوأ ما يكون .

 
وكان القتال فى اليمن لم يزل دائراً ، وكان الأمريكيون يدعمون الجنود المرتزقة في صف الملكيين. وأصدر السير إليك دوجلاس هيوم أمره إلى السلاح الجوى الملكى البريطاني بمهاجمة " حريب " وقصفها. وفى بداية 1967، حدثت انفجارات مدوية في تعز وقرر خبراء اكتشاف مصدر إطلاق النار، أن طلقتى بازوكا صدرتا من اتجاه مقر النقطة الرابعة الأمريكية التى كانت ستاراً تعمل من ورائه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

 
دهمت قوات الحكومة اليمنية المبنى ووضعت يدها عليه واعتقلت أربعة أشخاص كانوا هناك. وفتحت جمبح الصناديق والخزانات المقفلة ووجدت فيها عدداً هائلا من الوثائق قام بتصويرها خبراء المخابرات المصرية.

 
استشاط الأمريكيون غضباً لمداهمة مبنى بعثة النقطة الرابعة وطالبوا باستعادة وثائقهم فأعيدت إليهم ولكن بعد أن افتضحت أسرارهم .

 
----------------------

 
و في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) 1967، تدهورت الحالة إلى حد خطير على الحدود بين سوريا وإسرائيل . وكان الإسرائيليون يشكون من المتسللين من سوريا ، وهدد الجنرال إسحاق رابين رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلى وليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل ، بأنه فى وسع إسرائيل أن تحتل دمشق إذا لزم الأمر. وكانت ثمة تحركات عسكرية واصطدامات على الحدود ومعارك بين الطائرات في الجو.

 
وفى ذلك الحين كان أنور السادات في موسكو وهو فى طريق عودته إلى مصر من زيارة قام بها على رأس وفد برلماني إلى كوريا الشمالية، وقابل كوسيجين فى 29 أبريل (نيسان) حيث أبلغ رئيس الوزراء السوفييتى زائره أن لدى الأتحاد السوفييتى معلومات تفيد أن الإسرائيليين حشدوا فيلقين على الحدود السورية.


وهدد أشكول مرة أخرى باحتلال دمشق ، وقد أدى تهديده- بالإضافة إلى معلومات كوسيجين إلى عبد الناصر- على الاعتقاد بأن الوضع بدأ يخرج عن سيطرة الجميع .
 
وكانت مصر مرتبطة بسوريا باتفاقية للدفاع المشترك ، وبدأ السوريون يشعرون بالخطر يحدق بهم. فأصدر عبد الناصر أمراً إلى شطر من الجيش المصرى بأن يتحرك إلى سيناء . وكان يعتقد بأن وجود القوات المصرية فى سيناء سوف يكون رادعاً للإسرائيليين عن مهاجمة سوريا .

 
وكان ذلك تحركاً دفاعياً مجرداً يستهدف إبعاد القوات الإسرائيلية عن سوريا كما يستهدف أن يقوم الجيش المصرى بعملياته الحربية لمساندة السوريين إذا هاجمت إسرائيل سوريا ، ولم يكن هناك أى تفكير فى شن عمليات هجومية على إسرائيل .

 
وكانت قوات الأمم المتحدة تربط فى مراكزها فى سيناء .

 
وهكذا وجه رئيس هيئة أركان حرب القوات المصرية- اللواء محمد فوزى- إلى الجزال الهندى ريكى قائد قوات الأمم المتحدة ، رسالة بتاريخ 16 مايو ( آيار) جاء فيها : " لقد أصدرت الأمر إلى القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة بأن تكون على أهبة الاستعداد إذا بدأت إسرائيل أى عدوان على أى دولة عربية. ولتنفيذ هذه التعليمات فقد حشدت قواتنا بعض وحداتها على الجبهة الشرقية في سيناء. ومحافظة على سلامة قوات الأمم المتحدة المتمركزة فى نقاط التفتيش فإننى أرجوك العمل على سحبها من تلك النقاط . ولقد أصدرت تعليماتى إلى قائد الجبهة الشرقية بذلك راجياً أن تأخذوا علماً بذلك، وتبلغونى بالنتيجة".

 
ومن المهم جداً أن يكون واضحاً ما الذى طلبه محمد فوزى بالتحديد . فهو لم يطلب سوى سحب قوات الأمم المتحدة المتواجدة فى نقاط المراقبة حيث تواجه مصر إسرائيل عبر الحدود بين غزة وإيلات ، تفادياً لأى اصطدام بين قوات الأمم المتحدة والجيش المصرى . ولم يطلب سحب القوات المرابطة فى أمكنة أخرى كشرم الشيخ وغيرها نظراً إلى أنه لم يكن ثمة احتمال لوقوع اصطدام بينها والجيش المصرى ، ونظراً إلى أنه لم تكن ثمة قوات إسرائيلية على الطرف الآخر من الحدود.

 
وأحال ريكى هذه الرسالة على نيويورك حيث تدارسها يوثانت مع مساعده الدكتور رالف بانش المشرف على اتفاق الهدنة. وكان رد فعل بانش أن قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تؤلف كياناً متكاملاً لا يمكن تجزئته فإما أن تقبل كلها أو تذهب كلها.

 
ووافقه يوثانت على هذا الرأى وأبلغ الرئيس عبد الناصر قراره فقال الرئيس : " حسناً ، اذا أردت أن تسحب القوات كلها اسحبها " .

 
ويقول الأسرائيليون هنا إنه كان هناك تعهد بعدم سحب قوات الأمم المتحدة من شرم الشيخ . لكن الواقع ينفى ذلك، فلم يكن هناك مثل هذا التعهد على الاطلاق . ولم يقطع همرشولد للاسرائيليين وعداً كهذا .

 
ويقول الإسرائيليون انهم حصلوا على هذا التعهد من أيزنهاور حينما كان يضغط عليهم للانسحاب من سيناء عام 1956، ويقولون ان لديهم كتاباً منه يفيد أنهم إذا انسحبوا فسيعمل على أن لا يغلق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية . ولكن ذلك لم يكن فى علم مصر، كما أن أيزنهاور لا يستطيع أن يعطيه نيابة عنها.

 
وما أن سحبت قوات الأمم المتحدة من شرم الشيخ حتى عادت القوات المصرية الى احتلالها من جديد ، ولم يعد فى وسع السفن الإسرائيلية المرور فى مرمى نيران هذه القوات .

 
وهكذا استمر التصعيد.

 
وفي الوقت ذاته كان هناك كثيرون- يعملون على تهدئة الموقف .

 
ففي موسكو قال كوسيجين لوزبر الحربية المصرى شمس بدران : " اننا سوف نؤيدكم ، ولكننا نرى أنكم حققتم وجهة نظركم . أما وقد ظفرتم بنصر سياسى ، فقد حان وقت التساهل ، وقت العمل سياسياً " .

 
ولكن يبدو أن الرسالة لم تصل واضحة وأخذ عبد الناصر الانطباع بأن الروس مستعدون لدعم مصر حتى النهاية .

 
على أن أحمد حسن الفقى وكيل وزارة الخارجية كان قد أعد محضراً للاجتماع مع كوسيجبن وأرسله الى الرئيس عبد الناصر مع بطاقة يرجوه فيها أن يقرأ المحضر، ولكن كان ذلك بعد أن كان الرئيس قد ألقى خطاباً تحدث فيه عن التأييد الروسى .

 
-----------------------


جاء يوثانت الى القاهرة يحمل مشروعاً قيل إنه يتمتع بتأبيد الولايات المتحدة وكان هذا المشروع يتألف من الفقرات الثلاث الآتية:

1- يطلب من إسرائيل أن لاترسل أى سفينة عبر مضائق العقبة ( تيران) لاختبار القرار المصرى بإغلاقها.

2- يطلب الى الدول الأخرى ذات السفن التى تمر عبر المضائق أن لاتحمل أى مواد استراتيجية الى إسرائيل .
 
3- يطلب من الجمهورية العربية أن تتريث قبل أن تزاول حق تفتيش السفن التى تمر عبر المضائق .

 
وكان من رأي يوثانت أن المشروع يعطى كل فريق فسحة لالتقاط أنفاسه . وقبل الرئيس عبد الناصر المشروع .

 
كانت واشنطن قد استدعت لوشيوس باتل وأبدلته بريتشارد نولتى سفيراً لها فى القاهرة حيث لم يسعفه الوقت لتقديم أوراق اعتماده . وبالفعل فإنه لم يقدم أوراق اعتماده قط .

 
---------------------------

 
لم يكن السفير قدم أوراق اعتماده ، لكن الأحداث كانت تسير بسرعة مجنونة، فطلب مقابلة محمود رياض وزير الخارجية وسلمه يوم المقابلة فى 23 مايو ( آيار) رسالة من جونسون إلى عبد الناصر.

 
وجاء فى هذه الرسالة أن " الهدف الأسمى والأرفع " هو تجنب القتال .

 
ولكن في اليوم الذى جرى  تسليم الرسالة : أستدعى السفير المصرى في واشنطن لمقابلة يوجين روستو فى وزارة الخارجية الأمريكية وكان جوهر المقابلة كذلك الحث على تجنب القتال ووقف العمليات الحربية فوراً حالما تبدأ .

 
وقال روستو: إن أمريكا أبلغت اسرائيل صراحة " أنها ستناهض أى هجوم على أى دولة عربية " .

 
وفي ذلك الحين بالذات كان كل من أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل ، والجنرال ياريف مدير المخابرات الإسرائيلية، فى الولايات المتحدة . وقد أرسل ياريف إلى واشنطن لأن جماعة العسكرين في إسرائيل كانت تشك في حكومتها بالذات .

 
وكانت فى الولايات المتحدة عناصر زاد هياجها ضد مصر وعبد الناصر وخاصة بعد مداهمة مقر المخابرات المركزية فى تعز. وقد قيل إن تلك العناصر - خصوصا فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية- سألت ياريف : " ماذا تنتظرون؟ "

 
وعلى وجه التأكيد فقد كان الأخوان والت ويوجين روستو وأرثر جولد برج ممثل أمريكا الدائم فى الأمم المتحدة من الصهيونيين المجاهرين بصهيونيتهم .

 
وفي 26 مايو " ( آيار) استدعى السفير مصطفى كامل من جديد الى الخارجية الأمريكية ليقابل والت روستو هذه المرة الذى كان فى انتظاره يحمل رسالة من جونسون طلب أرسالها فورأ الى عبد الناصر.

 
كان الإسرائيليون أبلغوا جونسون أن مصر ستهاجمهم تلك الليلة . وقد قال جونسون فى رسالته إنه إذا هاجم المصريون وسددوا الطلقة الأولى فإن من شأن الحكومة الأمريكية أن تتخذ موقفاً شديداً للغاية من مصر. وأضاف أن حكومة الولايات المتحدة لن تسمح بحدوث ذلك فى الوقت الذى يجرى الأمين العام للأمم المتحدة مفاوضاته..

 
وفي الوقت ذاته فى القاهرة توجه السفير السوفييتى إلى منزل عبد الناصر على غير موعد.

 
كان ذلك فى الساعة الثالثة صباحاً . وقد طلب إيقاظ الرئيس . وحين استقبله عبد الناصر أوضح له أنه تلقى أوامر من القيادة السوفييتية بأن يقابله فورأ وأن يبلغه أن الأمريكيين اتصلوا بالكرملين وأبلغوا الروس أن لدى إسرائيل معلومات تفيد أن المصريين سيباشرون الهجوم مع أضواء الفجر الأولى .

 
وقال السفير إذا كان ذلك صحيحاً فإن الاتحاد السوفييتى يناشد الرئيس عبد الناصر أن لايقوم بتنفيذ خطته لأن الطرف الذى يطلق الرصاصة الأولى- مهما يكن- سيصبح فى وضع سياسي لا يمكن الدفاع عنه. ولذا فإن الروس - كأصدقاء- ينصحون مصر بعدم اطلاق الرصاصة الأولى .

 
وأجاب عبد الناصر بأنه لم يصدر أوامره بالهجوم ، وأنه ليست هناك خطة للهجوم هذا الصباح .


وفى اليوم التالى تلقى"عبد الناصر " رسالة جونسون من السفير كامل وقد فوجىء ودهش من الأمر بأسره . ويبدو أن أبا إيبان توجه إلى الخارجية الأمريكية بلا موعد وطلب مقابلة دين راسك في الحال، قائلا : إن الموقف أخطر من أن يتحمل المجاملات الديبلوماسية لأن " إسرائيل ستتعرض للهجوم والتدمير اليوم " . وكان لا يزال فى وزارة الخارجية يتحدث إلى راسك عندما استدعى روستو السفير المصرى كامل إليها .
 
ودهش عبد الناصر ولم يستطيع أن يفهم من أين حصل الإسرائيليون على روايتهم هذه ، ذلك أنها كانت تخلو من الصحة. ولكى يوضح موقفه ألقى خطابين متتابعين يومي 27 و 29 من مايو (آيار)، قال فيهما: " إننا لن نطلق الرصاصة الأولى . ولن نكون البادئين بالهجوم " . وكان يظن أنه بهذين الخطابين يعقد مؤتمراً صحفيا للعالم بأسره . فقد قطع فى خطابيه تعهداً علنياً  لجونسون والاتحاد السوفييتى بأن لا يبدأ الحرب. وكان الخطابان كذلك جواباً موجهاً إلى الجنرال ديجول الذى بعث إليه برسالة يطلب فيها أن يضبط نفسه ويقول كذلك إنه سيبنى موقفه على أساس معرفته بالطرف الذى سيطلق الرصاصة الأولى .

 
وقد فعل...

 
ظن عبد الناصر أنه أوضح موقفه بلا لبس ولا غموض .

 
-------------------------------

 
في أول يونيو (حزيران) جاء روبرت أندرسون إلى القاهرة يحمل رسالة شفهية من جونسون تفيد أنه قلق من الأحداث، ويشعر بالحاجة إلى مزيد من الاتصالات بين مصر والولايات المتحدة .

 
وذكر عبد الناصر أندرسون بأن جونسون كان قد اقترح فى رسالة سابقة ايفاد نائب الرئيس هيوبرت همفرى إلى القاهرة . وأضاف أنه إذا لم يكن الأمريكيون مستعدين لذلك الآن فهو مستعد لإيفاد نائبه زكريا محيى الدين إلى الولايات المتحدة ، وأشار إلى أنه قبل بمقترحات يوثانت لتهدئة الموقف وتجميد الوضع وأنه سينتهز فرصة هذا التجميد لإرسال محيى الدين لإجراء محادثات مع جونسون فى محاولة لإيجاد صيغة تسوية.

 
واتصل أندرسون بواشنطن وأوصل إليها هذا الاقتراح فتم الاتفاق على أن يسافر محيى الدين إلى أمريكا حيث يكون جونسون فى انتظاره لمقابلته يوم الثلاثاء 6 يونيو (حزيران) .

 
وأخذ زكريا محيى الدين يعد العدة للسفر يوم الإثنين 5 يونيو (حزيران) إلا أنه لم يسافر . ففى صباح ذلك اليوم انقض الإسرائيليون على فسحة الوقت هذه وخنقوها .

 
----------------------

 
وبينما كان جونسون يمطر عبد الناصر بالكلمات والرساثل السلمية، وبينما كان عبد الناصر قد استجاب لرجاءات العالم كله بقبول مقترحات يوثانت لتجميد الأزمة وبالتعهد بعدم إطلاق الرصاصة الأولى وبترتب إيفاد زكريا محيى الدين إلى واشنطن، فإنه ظل يرتاب فى الموقف الحقيقى لأمريكا.

 
وشعر بأن الولايات المتحدة تتكلم مرة أخرى بلسانين على الأقل .


ففى 3 يونيو (حزيران)- أى قبل يومين بالضبط من الهجوم الإسرائيلى- قام الأمريكيون بما اعتبره عبد الناصر باستعراض قوة لا لزوم له . ذلك أنهم أرسلوا حاملة الطائرات " انتربيد " عبر قناة السويس وقد اصطفت كل طائراتها على سطحها. وأغضب منظرها المصريين فتجمهروا على ضفة القناة وقذفوها بالنعال القديمة.
 
وفى الوقت ذاته وضع الأسطول الأمريكى السادس على أهبة الاستعداد لمواجهة الموقف، داعماً بذلك استعراض القوة الفاضح الذى نظمه الأمريكيون .

 
-----------------------

 
فى ذلك الوقت توصل أبا إيبان فى واشنطن إلى اتفاق بأن تحافظ الولايات المتحدة دائماً على توازن القوى بين إسرائيل والبلاد العربية. وكان ذلك يعنى أن أمريكا ستضمن أن تظل إسرائيل معادلة في القوة للدول العربية مجتمعة بحيث تظل إسرائيل أقوى من أى دولة عربية منفردة .

 
ونص الاتفاق على أنه في حالة نشوب الحرب لن تقوم الولايات المتحدة على إجبار الإسرائيليين على الأنسحاب من الأراضى المحتلة كما فعلت عام 1956 ولن تسمح بلوم إسرائيل في الأمم المتحدة . كان هذا ما حصل عليه إيبان .

 
ولكن ما من أحد يعرف ما حصل علية ياريف من الأمريكيين .

 
-----------------------

 
وعندما بدأ الهجوم الإسرائيلى أخذت القيادة العليا المصرية على حين غرة فتمزقت اشتاتاً تحت وطأة الغارات الجوية الإسرائيلية . وكان المشير عبد الحكيم عامر يركب طائرته متوجهاً إلى سيناء لزيارة جنوده هناك عندما اكتسحت موجات الطائرات الإسرائيلية المجال الجوى وتدفقت في سماء مصر. وعادت به الطائرة وهبطت في مطار القاهرة الدولى ليجد أنه قصف وأنه ليس به أحد. فركب سيارة تاكسى إلى مقر القيادة العليا حيث بدأ يتلقى التقارير عن الأضرار. وأظهرت هذه التقارير أن السلاح الجوى المصرى دمر بأكمله تقريباً .

 
ولكن عندما وصل عبد الناصر إلى مقر القيادة العليا أخفيت الحقائق عنه . فلم يبلغ بالحجم الحقيقى والكامل للأضرار والإصابات ، كما بالغت القيادة فى عدد الطائرات الإسرائيلية التى أسقطت .

وفى تلك الليلة عندما رفع أخيراً الى الرئيس عبد الناصر تقرير عن الحجم الكامل للفاجعة قيل له- إنه لم يكن فى وسع الإسرائيليبن أن يحققوا ذلك بالاعتماد على أنفسهم وبوسائلهم ، وأنه لابد أن الأمريكيين قد ساعدوهم .

 
ولم يكن عبد الناصر على استعداد لقبول ذلك على علاته وكان قوله:

 
" إننى سوف أصدق أن الولايات المتحدة اشتركت فى الهجوم إذا أطلعتموني على حطام طائرة أمريكية، وما لم ثفعلوا ذلك فسوف أظل متشككا.

 
غير أنه في اليوم الثالث من الحرب أكد له رجال يثق فيهم كل الثقة أن المقاتلات الأمريكية شوهدت فوق المواقع المصرية وأن شارة سلاح الجو الأمريكى شوهدت بوضوح عليها .

 
ومع ذلك فلم يستطع أن يصدق أن الأمريكيين يشتركون في الهجمات والغارات على مصر.

 
غير أنه لم تمض ساعة على استلامه التقارير المتعلقة بمشاهدة الطائرات الأمريكية فوق المواقع المصرية، توجه السفير السوفييتى لمقابلته- وبلا موعد للمرة الثانية.

 
كان السفير يحمل رسالة من جونسون الى عبد الناصر بعث بها عن طريق كوسيجين !

 
وجاء فى الرسالة أن طائرتين مقاتلتين أمريكيتين اضطرتا إلى المرور فوق المواقع المصرية في طريقهما لإنقاذ الباخرة الأمريكية " ليبرتي " التى هاجمها الإسرائيليون . وقد أراد جونسون من كوسيجين أن يبلغ عبد الناصر ذلك حتى يكون ذلك دليلا على صدقه.

 
لكن عبد الناصر شم رائحة الخديعة فى ذلك كله.

 
فقبل كل شيء حلقت الطائرات الأمريكية فوق المواقع المصرية. وثانيً وصل كتاب جونسون عن طريق كوسيجين . وبالتالى فإن الكتاب لم يكن موجهاً إلى مصر بل كان موجهاً إلى الروس في مسعى لعزل الاتحاد السوفييتى وتعميته وتمويه عملية تنفذ ضد مصر . وثالثاً ، علم الرئيس عبد الناصر بأن " ليبرتي " هى سفينة تجسس كانت تسترق السمع إلى مخابرات الجيش المصرى وتفك شفرتها... ومن يعلم إلى أين كانت تؤول وتتجه تلك الرساثل بعد فك رموزها ؟

 
وهكذا بدأ عبد الناصر يلمح خيوط التواطؤ .

 
وقد جاء فى الصحف الأمريكية أنه حينما ذهب والت روستو إلى الرئيس جونسون ليبلغه نبأ الهجوم الإسراثيلى، التفت جونسون إلى الليدى بيرد قائلا :

" يبدو أننا نواجه حربأ بين أيدينا " .

 
وكان لبعض هذه الكلمات وقع خاص عند عبد الناصر، مئل كلمة " عندنا " وكلمة " أيدينا ". وهنا طفت إلى السطح جميع شكوكه وريبته السابقة فى جونسون ، وعندما جمع بينها وبين واقعة تحليق الطائرات الأمريكية فوق المواقع المصرية، وواقعة رسالة كوسيجين وواقعة السفينة " ليبرتي " : بدا له أن من المستحيل ألا تكون الولايات المتحدة قد لعبت دورأ ما فى العدوان .

 
لم يعرف الرئيس عبد الناصر بالضبط كيف تورط الأمريكيون فى الأمر ، لكن كان كل شيء يشير إلى تورطهم . وكان ذلك منطقياً مع تجارب سابقة فإن أحدا لم يعلم بالحقائق الكاملة للتواطؤ البريطانى الفرنسى مع إسرائيل إلا بعد أربعة أو خمسة أعوام من حملة السويس، فلا بد أن التواطؤ الأمريكى هذه المرة سيبقى مغلفاً بالأسرار.

 
وأثارت شبهته واقعة أخرى جرت فى الأمم المتحدة فى اليوم الأول من الحرب . فأولا قال رئيس الوفد الأمريكى جولدبرج : إن الولايات المتحدة لا تعرف من بدأ القتال . لكنه مضى بعد ذلك فسلم بصحة الرواية الإسرائيلية التى زعمت أن مصر هى التى بدأت الهجوم .

 
وشعر عبد الناصر بالتقزز من جونسون ، وأحس بأن الخديعة كانت على نطاق واسع وأنه فى الوقت الذى كان الرئيس الأمريكى يبعث إليه بالرسائل - مناشداً إياه الحفاظ على السلم- كان الأمريكيون يتأهبون للتورط فى العدوان الإسرائيلى .


----------------------------
 
ومن هنا، فقد اتهم جونسون بالتواطؤ وقطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة وأمر بترحيل جميع الأمريكيين عن مصر. وحذت حذوه دول عربية عدة ، وسرعان  ما اضطر جونسون- الذى أغضبته تهمة التواطؤ- إلى أن يراقب المشهد المذل المهين لأربعة وعشرين ألفاً من الأمريكيين أطفالا ورجالا ونساء يطردون من الشرق الأوسط .

 
لم ينس جونسون ذلك ولم يغفره إطلاقاً .

 
وظل الوضع هكذا إلى نهاية عهد جونسون . ظل الوضع لا ينطوى إلا على الريبة والكراهية المتبادلة بين جونسون وعبد الناصر. وذات يوم فى نهاية سنة 1967، وجه جونسون الدعوة إلى سفراء أربع دول عربية- لم تقطع علاقاتها مع بلاده -  لتناول الغداء على مائدته فى البيت الأبيض .

 
وكانوا سفراء : المملكة العربية السعودية وتونس ولبنان والكويت وقد أراد جونسون بدعوتهم أن يقيم الدليل على أن أمريكا ليست معزولة تماماً عن العالم العربى .

 
وجلس السفراء إلى المائدة يأكلون بينما راح  جونسون يداعب كلبه المدلل " بيجل " ويلاعبه ويطعمه من فتات المائدة بينما كان السفراء العرب يتحدئون عن الوضع فى الشرق الأوسط . وإذا بجونسون يقول لهم فجأة :

 
" أيها السادة. دعونا من الكلام فى السياسة. ولنجعل من غذائنا مناسبة اجتماعية تماماً ".

 
وأخذوا يتجاذبون شتات الحديث الى أن نادى جونسون كلبه وأخذ يتحدث إليه متسائلا:

 
" ماذا أستطيع أن أفعل؟.. رجل يضايق جاره ضيقاً شديداً إلى أن فرغ صبر الجار فأمسك به وضربه علقة ساخنة فماذا أستطيع أن أفعل من أجله؟ " 


وكانت تلك نهاية الهبوط في نظرة عبد الناصر إلى ليندون جونسون ! 

 
 
 

1 التعليقات:

Unknown يقول...

لو تقصو نص القصه

إرسال تعليق

تعلقك يزيدنا ابداع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting