تعتبر السيرة النبوية بأحداثها
وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة ، لما تحمله بين ثناياها من المواقف
التربوية العظيمة والفوائد الجليلة ، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين
منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها ، وهذه بعض من
المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - :
الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب :
غزوة
بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية ، ولعل من أبرزها موقف
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيده لمبدأ الشورى ، باعتباره مبدأً من
مباديء الشريعة ، وصورة من صور التعاون على الخير ، يحفظ توازن المجتمع ،
ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة الجميع .. فرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيَّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك
الغزوة أربع مرات : حين الخروج لملاحقة العير ، وعندما علم بخروج قريشٍ
للدفاع عن أموالها ، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر ، واستشارهم في
موضوع الأسرى ، وكل ذلك لِيُعَُّلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش
يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل
الواقعة .
وهذا الموقف التربوي في ترسيخ
مبدأ الشورى ظهر كذلك جليا في غزوة الأحزاب ، إذ لما سمع رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ بزحف الأحزاب إلى المدينة ، وعزمها على حرب المسلمين ،
استشار أصحابه ، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها ، وأشار
سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ اعتمادا علي
خبرته في حرب الفرس ، بحفر خندق حول المدينة ، وقال : " يا رسول الله ، إنا
كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " .. فوافقه وأقره النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ وأمر بحفر الخندق حول المدينة ، وتمّ تقسيم المسؤولية بين
الصحابة ..
لقد أنزل الرسول ـ صلى الله
عليه وسلم ـ الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة الأمة ، إذ الحاجة إليها في
الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية ، فالشورى استفادة من كل
الخبرات والتجارب ، واجتماع للعقول في عقل ، وبناء يساهم الجميع في إقامته ،
ولذا قال الله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }(الشورى: من الآية38) ..
كما
أقرّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر والأحزاب ـ وغيرهما من
غزوات ـ بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه ، وهو تطبيق المساواة بين الجندي
والقائد ، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة ، يتضح ذلك في موقفه وإصراره ـ
صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب ـ
رضي الله عنهما ـ في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة .. وفي الأحزاب تولى
المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهمة الشاقة في
حفر الخندق ، وكان لمشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية في الحفر الأثر
الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين ..
لقد أعطى رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدر والأحزاب ـ وغيرهما من الغزوات ـ موقفا
تربويا عمليا في الشورى وأهميتها ، وفي مشاركته لأصحابه التعب والعمل ،
والآلام والآمال ..
لا .. للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق :
عند
ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين ،
فسعوا ـ كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ إلى محاولة التفريق بين المسلمين ،
فبعد انتهاء الغزوة ـ كما يقول جابر بن عبد الله ـ
رضي الله عنه ـ : ضرب رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري :
يا للأنصار، وقال المهاجري : يا للمهاجرين .. فاستثمر المنافقون ـ وعلى
رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ـ هذا الموقف ، وحرضوا الأنصار على
المهاجرين ، فسمع ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : ( ما
بال دعوى الجاهلية ؟! ، قالوا يا رسول الله : كسع رجل من المهاجرين رجلا
من الأنصار ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : دعوها فإنها منتنة ) رواه البخاري .
فمع
أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها ،
وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم ، فقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
}(التوبة: من الآية100) ، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال
الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية ، أنكر ذلك رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ إنكارا شديدا ، وقال قولته الشديدة : ( دعوها فإنها منتنة
) ، وذلك حفاظا على وحدة الصف للمسلمين ، والتحذير من العصبية بجميع
ألوانها ، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية ، أو الجنس ، أو اللون أو غير
ذلك .. وهذا موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة
الإسلامية على مر العصور ..
إقالة ذوي العثرات :
عندما أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ
رضي الله عنه ـ إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش ،
فجعلته في ضفائر شعرها ، ثم خرجت به إلى مكة ، ولكن الله ـ تعالى ـ أطلع
نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما صنع حاطب ، فقضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المحاولة ، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة ..
والخطأ
الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه كشف أسرار الدولة
المسلمة لأعدائها ، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة ، بل هو مِن أولي
الفضل منهم ، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا ، والصحابة بمجموعهم خير
القرون بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومع كل هذا زلت به القدم في
لحظة من اللحظات ، وكَمْ للنفس البشرية من زلات ، وهذا من سمات الضعف
البشري والعجز الإنساني ، ليعلم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا
ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ ، وهذا الذي عناه النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) رواه أحمد .
وقد عامل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاطبا ـ رضي الله عنه ـ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ، فجعل - صلى الله عليه وسلم - من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه ، وهو منهج تربوي حكيم ..
فلم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاطب
من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن كانت كبيرة ـ ، وإنما راجع رصيده الماضي
في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ، وفي هذا
توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا
بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة
والخير ، والعلم والتربية ، والجهاد ونصرة دين الله ..
قال ابن القيم
: " من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت ، وكان له في الإسلام
تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره ، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى
عن غيره ، فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف
الماء القليل ، فإنه لا يحتمل أدنى خبث." .
وإلى ذلك أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله لعمر ـ رضي الله عنه ـ : ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه البخاري .
إن
إقالة العثرة ، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة ، ليس إقرارا لخطئه ، ولا
تهوينا من زلته ، ولكنها ـ مع الإنكار عليه ومناصحته ـ إنقاذ له ، بأخذ يده
ليستمر في سيره إلى الله ، وعطائه لدين الله .. ومن ثم فإقالة إقالة ذوي
العثرات موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ ..
اذهبوا فأنتم الطلقاء :
في
السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم -
على كفار قريش ، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا ، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع
أهل مكة ، وقد امتلأت قلوبهم رعبا وهلعًا ، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تمكن منهم ، ونصره الله عليهم ،
وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه ، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث
سنين ، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر ، بل وتآمروا عليه بالقتل - صلى الله
عليه وسلم - ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم وديارهم ،
وأجلوهم عن بلادهم ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك
الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ
، فقال لهم : ( ما ترون أني فاعل بكم ؟! ، قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )رواه البيهقي .
لا رجعة للوثنية :
خرج
مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة حنين بعض حديثي العهد
بالجاهلية ، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها
ذات أنواط يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها ، ويذبحون
عندها ، ويعكفون عليها ، وبينما هم يسيرون مع رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ إذ وقع بصرهم على الشجرة ..
يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : ( إن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين
يقال لها : ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ،
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -
: سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ،
والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه الترمذي .
وهذا
يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، ولكن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من
آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك ..
وهكذا
كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه ، ويصحح ما يظهر من انحراف
في القول أو السلوك أو الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء
..
فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه ، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه
برفق ، وبأفضل الطرق وأقومها ، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة والمربين ـ
اقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمواقفه التربوية مع أصحابه ،
وما فيها من حلم ورفق ، ونصح وحكمة ، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم
يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
لن نُغلب اليوم من قلة :
الغرور
يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا
بجانب كثرة أعدائهم ، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا
تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين ، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددا
منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل ، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئا لما
دخل إلى قلوبهم العجب والغرور ، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في
بداية المعركة ، حينما قال رجل من المسلمين : " لن نُغْلب اليوم من قلة " ،
فشق ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت الهزيمة ..
وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله : { لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }(التوبة:25) ..
ومن
ثم نبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهمية الاستعانة بالله في
الحروب وغيرها ، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء ، فكان دائما
في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول : ( اللهم بك أحول ، وبك أصول ، وبك أقاتل ) رواه أحمد . بك أحول : أتحرك ، وبك أصول : أحمل على العدو ..
ولعلَّ
هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين ، وقد انتفع به الصحابة
بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض ، وما
فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك ، فكلهم أيقنوا أن النصر
ليس بالعدد ولا بالعدة ، وأن الكثرة لا تغني شيئا ، ولا تجدي نفعاً في
ساحات المعارك ، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان ، وأخذت
بأسباب النصر وقوانينه ..
فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها
الكثرة والقلة والعدة فقط ، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها ، إن لم
تكن تفوقها أهمية واعتبارا ، قال الله تعالى : { وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(آل عمران:
من الآية126) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }(محمد : 7)..
إن
المتأمل في حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعجب من فقهه في
معاملة النفوس ، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها ، وعلاج ما بها من خلل ،
يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها
والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية..
ومن ثم تمر السنون
والأعوام ، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبراسا وهاديا ،
يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح ، والعزة والتمكين ..
لقد أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدر والأحزاب ـ وغيرهما من الغزوات ـ موقفا تربويا عمليا في الشورى وأهميتها ، وفي مشاركته لأصحابه التعب والعمل ، والآلام والآمال ..
إقالة ذوي العثرات :
عندما أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش ، فجعلته في ضفائر شعرها ، ثم خرجت به إلى مكة ، ولكن الله ـ تعالى ـ أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما صنع حاطب ، فقضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المحاولة ، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة ..
والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة ، بل هو مِن أولي الفضل منهم ، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا ، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات ، وكَمْ للنفس البشرية من زلات ، وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني ، ليعلم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ ، وهذا الذي عناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) رواه أحمد .
فلم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن كانت كبيرة ـ ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة والخير ، والعلم والتربية ، والجهاد ونصرة دين الله ..
قال ابن القيم : " من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت ، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره ، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره ، فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف الماء القليل ، فإنه لا يحتمل أدنى خبث." .
وإلى ذلك أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله لعمر ـ رضي الله عنه ـ : ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه البخاري .
إن إقالة العثرة ، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة ، ليس إقرارا لخطئه ، ولا تهوينا من زلته ، ولكنها ـ مع الإنكار عليه ومناصحته ـ إنقاذ له ، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله ، وعطائه لدين الله .. ومن ثم فإقالة إقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ ..
اذهبوا فأنتم الطلقاء :
لا رجعة للوثنية :
يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه الترمذي .
وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك ..
وهكذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه ، ويصحح ما يظهر من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء ..
فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه ، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق ، وبأفضل الطرق وأقومها ، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة والمربين ـ اقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمواقفه التربوية مع أصحابه ، وما فيها من حلم ورفق ، ونصح وحكمة ، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
لن نُغلب اليوم من قلة :
وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }(التوبة:25) ..
ومن ثم نبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهمية الاستعانة بالله في الحروب وغيرها ، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء ، فكان دائما في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول : ( اللهم بك أحول ، وبك أصول ، وبك أقاتل ) رواه أحمد . بك أحول : أتحرك ، وبك أصول : أحمل على العدو ..
ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين ، وقد انتفع به الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض ، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك ، فكلهم أيقنوا أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة ، وأن الكثرة لا تغني شيئا ، ولا تجدي نفعاً في ساحات المعارك ، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان ، وأخذت بأسباب النصر وقوانينه ..
فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط ، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها ، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا ، قال الله تعالى : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(آل عمران: من الآية126) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }(محمد : 7)..
إن المتأمل في حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعجب من فقهه في معاملة النفوس ، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها ، وعلاج ما بها من خلل ، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية..
ومن ثم تمر السنون والأعوام ، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبراسا وهاديا ، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح ، والعزة والتمكين ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعلقك يزيدنا ابداع