كالنيل هو.. مفعم بالحياة
الأنهار لا تشيخ.. وكذلك الأستاذ. تظل تتجدد، وتتدفق، وتفيض على ضفافها، مثلما يفيض علماً ومعرفة وحكمة. كالنيل هو مفعم بحياة سرمدية، تنبض قلماً على ورق، وتنطق فكراً على لسان، وتتنفس صراحة وجسارة وعمق رؤى. الاحتياج إلى بصيرة الأستاذ يزيد اليوم عن الأمس، ويشتد غداً أكثر من أى وقت مضى، فهو ينظر حين يغض غيره الطرف اتقاء لغبار عواصف، ويرنو إلى حيث لا يقدر سواه أن يمد البصر، فيرى ما لا يراه الآخرون، ويعرف ما هو آت، دون أن يتطلع فى بلورة أو يقرأ فى طوالع. وما أشق على الأستاذ - ككل حكيم - أن يدرك الناس بعد فوات الأوان حقائق أشياء رآها قبل قدومها، وحذر من التغافل عن مخاطرها. سبعون عاماً عاشها «الأستاذ» فى قلب الأحداث منذ اقترن بالصحافة متابعاً، وراصداً، ومحللاً، وناصحاً، ومشاركاً فى صنع قرارات مصيرية، بل صانعاً لها فى أحيان. عندما رحل عبدالناصر، ظن البعض أن السياسى فى شخصية «الأستاذ» سوف يتوارى، لكنه بقى يراوده عن قلمه، ويغلبه فى مواقفه، ويرشدنا إلى الطريق حين تتوه الذاكرة وتختلط علينا المعالم. وعندما ترك الأهرام، اعتقد البعض أن «الجورنالجى» فى تكوين الأستاذ، سوف يذبل، لكنه ازداد تفتحاً وتألقاً، كتابة وتحليلاً ومؤلفات، وظل الصحفى يبهر تلاميذه وعشاقه على مر السنين - وحتى اللحظة - بفيض أسرار وحقائق ومعلومات عن أدق الأمور، وبواطن أحداث يستعصى على غيره الوصول إليها من مصادرها الأولى وصناعها. يحلو لـ«الأستاذ» أن يتحدث عن غروب يقف عند حافته، بينما هو يقف بنا عند تباشير صباح يلوح، طالما بشر به وآمن بقدومه. يحلو له أن يتحدث عن مستقبل يظن أنه وراءه، بينما مستقبلنا أمامه وبين يديه، يبصّرنا بوعوده ويهدينا إلى مسالكه. يحلو له أن يتحدث عن غد يقول إنه ملك لجيل آن لغيره أن يتوارى، بينما هذا الجيل المقدام صانع الثورتين، يستلهم من «الأستاذ» صواب الرؤية وسداد الرأى، وخلاصة الخبرة والتجربة. أحسب أننى على دراية بتجربة «الأستاذ» العريضة، وسط لهيب المعارك من الحرب العالمية الثانية إلى حرب الخليج الثانية، وفى بؤرة الأحداث من ثورة 23 يوليو إلى ثورة 30 يونيو، ومع صناع القرار من حسن البنا والنحاس إلى محمد مرسى وعبدالفتاح السيسى. لكنى أسمح لنفسى بجسارة الادعاء بأن المرحلة الأكثر ثراءً وخصباً فى تجربة «الأستاذ»، الصحفى والمفكر والسياسى الوطنى محمد حسنين هيكل، هى تلك التى بدأت يوم 25 يناير عام 2011، ولم تنته يوم 30 يونيو عام 2013. منذ عشر سنوات، كتب الأستاذ هيكل مستئذناً فى الانصراف عن الكتابة، فى وقت كنا نود لو ظل هو يكتب، وانصرف كثيرون دونه من غير استئذان. واليوم، نرجو «الأستاذ» أن يسترد استئذانه، وأن يعود إلينا بقلمه، وندعو الله ونحن نحتفل غداً بعامه التسعين أن يديم عليه الصحة، وأن يحفظه لنا ذاكرة وطن وضمير أمة، ونهراً لا ينضب أبداً. ياسر رزق يوسف القعيد يكتب: «هيكل بقلم هيكل» بدأت مساعد مخبر فى قسم الحوادث.. وتأثرت بتجربة «سكوت واطسون» فى الحرب الإسبانية فانتقلت لـ«العلمين» مراسلاً حربياً لست محتاجاً عندما أقول الأستاذ أن ألحقه باسم محمد حسنين هيكل. ففى مصر الستينيات عندما كنا نقول الأستاذ يعرف القارئ ماذا نقصد دون كتابة الاسم. وعندما نتحدث عن الست فنحن نقصد أم كلثوم. وقبلهما وبعدهما عندما نذكر الرَيِّس فنحن نتحدث عن خالد الذكر جمال عبدالناصر. الأستاذ يكمل يوم 23 سبتمبر عامه التاسع والثمانين ويبدأ عامه التسعين، أمد الله فى عمره حتى يكسر ونكسر معه المائة. احترت ماذا يمكن الكتابة عنه فى هذه المناسبة. ما أكثر ما كتب عنه. وما يمكن أن يقال عن تجربته لا نهاية له. لكنى اهتديت إلى طريقة ربما كانت جديدة. أن أجمع ما كتبه فى كتبه عن حياته «المهنية». وكنت قد قرأت كل كتبه. عندما كنت أستعد لحوارى الطويل معه الذى أصدرته فى كتابى: محمد حسنين هيكل يتذكر عبدالناصر والمثقفين والثقافة «2003».
مستعيدا بيت شعر «أبى فراس الحمدانى» عن الشوق الذى «لا يذاع له سر» جاء صوته من الشاطئ الإيطالى فى «سردينيا»: «أنا قادم إليكم غدا». كان فى صوته شوق قلق لا شوق اطمئنان على مصر وأهلها. شىء ما لاح فى الأفق لنذر مستقبل أقرب إلى دقات «القدر» فى سيمفونية «بيتهوفن» الشهيرة. أنباء وصلته عن حملة تحريض تستعدى بقوائم سوداء ضمت اسمه، وكلام عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيدا حيث اعتاد لعقود طويلة أن يقضى إجازاته الصيفية. خامرته فكرة أنها انفلاتات أعصاب فى أوضاع حرجة قرب فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة»، لكنه استمع مرة بعد أخرى لرجاءات ألحت على التمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة داعية أن يدير دفة طريق عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالى بالقرب من الإسكندرية.. فـ«عند انفلات الأعصاب فلا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث». استقر تفكيره قبل عودته بساعات أنه من الأوفق أن يكون قريبا من الأحداث يتابعها من الساحل الشمالى بعيدا عن العاصمة وكمائن الخطر فيها. عندما يدخل الغرفة مازلت أقوم وأقف.. كما أننى لا أستطيع أن أضع رجلاً على رجل أمامه.. كل صباح يذهب إلى مكتبه بالبدلة والكرافتة.. يحلق ذقنه يومياً.. مازال يسافر بالبدلة والكرافتة لأن حتى السفر له «مقام».. للكلمة أيضاً «مقام»، ولكن اليوم أتحدث خارج «المقام»، عندما رأيت أبى ينهمر فى البكاء
ندما يدخل الغرفة مازلت أقوم وأقف.. كما أننى لا أستطيع أن أضع رجلاً على رجل أمامه.. كل صباح يذهب إلى مكتبه بالبدلة والكرافتة.. يحلق ذقنه يومياً.. مازال يسافر بالبدلة والكرافتة لأن حتى السفر له «مقام».. للكلمة أيضاً «مقام»، ولكن اليوم أتحدث خارج «المقام»، عندما رأيت أبى ينهمر فى البكاء مرتين.
لم أكن قد ولدت عندما توفى جدى ولا أتذكر وفاة جدتى.. المرة الأولى كانت فى نوفمبر 1977، كنا فى الإسكندرية، فى بلاج عايدة بالمنتزه، الكراسى أمام الشاطئ تبتعد 15 متراً عن الكابينة، كان يجلس على أحدها، وكان يستمع للراديو المصرى، وكان المذيع يقول إن طائرة الرئيس السادات تهبط فى إسرائيل يحميها سلاح الجو وطيران الجيش الإسرائيلى (كل كلمة من هذه المقولة تتناقض مع ماعاش من أجله)، انهمر فى البكاء، نهرتنى أمى، وطلبت منى أن «أخش جوه» فى الكابينة. المرة الثانية، عندما توفى عمى «فوزى». كان يعيش فى واشنطن بالولايات المتحدة (وأعتبره واحداً من أهم المفكرين العرب الذين لم يحصلوا على حقهم فى الرأى العام)، وكان منظر النعش وهو عائد على الطائرة إلى المقابر مشهداً إنسانياً تدفقت فيه المشاعر، انهمر فى البكاء، احتضنته.. أستجمع «المقام» ومرت الأيام.
«فى الوقت الذى تنشغل فيه واشنطن وتل أبيب بقضية التوريث فى مصر لأسباب
أمنية وسياسية بحتة، فإن ما يشغل المصريين هو إنقاذ الدولة المصرية نفسها،
لتتمكن من أداء دورها، وتوفر للمواطن مستوى معيشة لائقاً، وخدمات جيدة،
وفرص العمل، والحق فى التعليم».
بهذه المقدمة نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، أمس، تقريراً عن مبادرة الكاتب محمد حسنين هيكل لإنشاء «مجلس أمناء للدولة والدستور» ينتقل بمصر إلى نظام سياسى جديد عبر مرحلة انتقالية بإشراف الرئيس مبارك نفسه.
قالت صحيفة هاآرتس فى بداية تقريرها الذى أعده «تسفى بارئيل»، محرر الشؤون العربية بالجريدة، إن «الكاتب محمد حسنين هيكل لا يرتاح لحظة واحدة، ورغم بلوغه الـ86 من العمر فإنه يحاول شد وجه مصر المغضن بالتجاعيد، ويهاجم بشدة سياسات الرئيس حسنى مبارك ، ومسيرة السلام مع إسرائيل، وشكل العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. ويظهر بشكل دائم فى قناة الجزيرة القطرية حتى صار كبير الكهنة الذى يسعى الجميع للتعرف على آخر نبوءاته».
وتضيف هاآرتس: «لا يمكن اختزال مكانة هيكل ووزنه فى مجرد كونه مؤرخاً سياسياً، فهو الرجل الذى اقترب بشدة من الرئيس عبدالناصر، وظل أقوى رئيس تحرير عرفته صحيفة «الأهرام» طوال 17 سنة. ولك أن تقول إن هيكل هو فيلسوف العصر الذى لا يجرؤ حتى النظام المصرى على المساس به، رغم النقد اللاذع الذى يوجهه هيكل لهذا النظام».
الأسبوع الماضى، هز هيكل مصر من جديد، عندما قال فى حوار مطول مع صحيفة «المصرى اليوم» إن جمال مبارك لا يصلح لمنصب الرئيس. وأضاف: «أعتقد أن هذا الشاب ظلم، وتم إقحامه على الناس إقحاماً، حتى واجه مشاعر مقاومة.. ولا يصح طرحه حتى لو كان أكفأ شخص فى مصر، ببساطة ينبغى أن يرد لأن هناك شبهة، فالقاضى حين يحكم فى محكمة فى وجود أخيه يرد نفسه».
وتوضح الصحيفة الإسرائيلية أن: «مصر ستشهد خلال العام المقبل انتخابات برلمانية، وبعد عامين انتخابات رئاسية. ويبدو أن الرئيس مبارك الذى حكم البلاد لمدة 28 سنة متواصلة، لا يعتزم الاستقالة، والاكتفاء برعاية حديقة منزله. بل إنه أكثر نشاطاً من أى وقت مضى. فزادت رحلاته الخارجية، ولم تقل تدخلاته لحل المشكلات الإقليمية.
ومع ذلك فإن قضية مستقبل الحكم فى مصر مازالت تقلق صناع القرار فى واشنطن، وصحيح أن المسؤولين الأمريكان ينكرون انشغال الإدارة الأمريكية بهذا الموضوع، لكن مصادر أمريكية تؤكد أن مستقبل الحكم فى مصر كان ومازال موضوعاً مهماً للنقاش فى المنتديات المغلقة بالولايات المتحدة. خاصة فى ضوء الفشل المتتالى الذى لحق بالأمريكان فى الانتخابات الأفغانية والفلسطينية، والمخاوف من تأجيل الانتخابات العراقية، ومن نتائجها المحتملة.
وهناك فى واشنطن من يخشى من أن تأتى الانتخابات المصرية بـ(نتائج غير مرغوبة)، ويعتقد أن أقل الاختيارات ضرراً، هو بقاء أسرة مبارك على رأس النظام، لا سيما بعد انضمام عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، لسباق الرئاسة، ومنافسته المحتملة لجمال مبارك».
وعند هذه النقطة التى تفرق بين منطلقات واشنطن وتل أبيب فى مناقشة قضية التوريث، ومنطلقات القوى الداخلية المصرية، تنتقل هاآرتس لتحليل مبادرة الأستاذ هيكل، وتقول: «لقد استجاب الكاتب محمد حسنين هيكل لهذا التحدى، وقدم فى الحوار الذى أجرى معه (مبادرة ثورية). واقترح إنشاء (مجلس أمناء الدولة والدستور). لتكون وظيفته وضع دستور جديد للبلاد، وقيادة مصر فى مرحلة انتقالية تعبر بها من النظام السياسى الحالى إلى نظام سياسى جديد».
وتضيف هاآرتس أن هيكل بدهائه اختار الأسماء التى يتشكل منها «مجلس أمناء الدولة والدستور»، ورغم أنه مجلس خيالى من الصعب تشكيله، فإن هيكل حدد، بشكل عملى، من هو الشخص الذى لا يحق له أن يكون الرئيس. وكل الأشخاص الوارد ذكرهم فهموا أن عليهم مواجهة انتقادات هيكل إذا قرروا الترشح لسباق الرئاسة. وعليهم أن يأخذوا فى الاعتبار النقد الذى يوجهه تلامذة هيكل فى الصحف.
ويرسم هيكل، أيضاً، دوراً مهماً للرئيس مبارك، فهو يقترح أن يشرف مبارك على مجلس أمناء الدولة، ويعمل على نقل السلطة للجيل القادم «لتكون تلك آخر وأهم خدمة يقدمها للبلد»، وكأنه يريد أن يقول إن مبارك لم يقدم أى خدمة لمصر حتى الآن. وتنهى هاآرتس تقريرها حول مبادرة هيكل بقولها: «لا نعتقد أن الرئيس مبارك قد يتعامل بجدية مع اقتراح هيكل، لكن الرجل نجح فى إضافة بعد جديد للضجة المصاحبة للمعركة الانتخابية القادمة، وقدم قائمة مرشحين كبيرة تصلح جميعها لتولى منصب الرئيس».
الأنهار لا تشيخ.. وكذلك الأستاذ. تظل تتجدد، وتتدفق، وتفيض على ضفافها، مثلما يفيض علماً ومعرفة وحكمة. كالنيل هو مفعم بحياة سرمدية، تنبض قلماً على ورق، وتنطق فكراً على لسان، وتتنفس صراحة وجسارة وعمق رؤى. الاحتياج إلى بصيرة الأستاذ يزيد اليوم عن الأمس، ويشتد غداً أكثر من أى وقت مضى، فهو ينظر حين يغض غيره الطرف اتقاء لغبار عواصف، ويرنو إلى حيث لا يقدر سواه أن يمد البصر، فيرى ما لا يراه الآخرون، ويعرف ما هو آت، دون أن يتطلع فى بلورة أو يقرأ فى طوالع. وما أشق على الأستاذ - ككل حكيم - أن يدرك الناس بعد فوات الأوان حقائق أشياء رآها قبل قدومها، وحذر من التغافل عن مخاطرها. سبعون عاماً عاشها «الأستاذ» فى قلب الأحداث منذ اقترن بالصحافة متابعاً، وراصداً، ومحللاً، وناصحاً، ومشاركاً فى صنع قرارات مصيرية، بل صانعاً لها فى أحيان. عندما رحل عبدالناصر، ظن البعض أن السياسى فى شخصية «الأستاذ» سوف يتوارى، لكنه بقى يراوده عن قلمه، ويغلبه فى مواقفه، ويرشدنا إلى الطريق حين تتوه الذاكرة وتختلط علينا المعالم. وعندما ترك الأهرام، اعتقد البعض أن «الجورنالجى» فى تكوين الأستاذ، سوف يذبل، لكنه ازداد تفتحاً وتألقاً، كتابة وتحليلاً ومؤلفات، وظل الصحفى يبهر تلاميذه وعشاقه على مر السنين - وحتى اللحظة - بفيض أسرار وحقائق ومعلومات عن أدق الأمور، وبواطن أحداث يستعصى على غيره الوصول إليها من مصادرها الأولى وصناعها. يحلو لـ«الأستاذ» أن يتحدث عن غروب يقف عند حافته، بينما هو يقف بنا عند تباشير صباح يلوح، طالما بشر به وآمن بقدومه. يحلو له أن يتحدث عن مستقبل يظن أنه وراءه، بينما مستقبلنا أمامه وبين يديه، يبصّرنا بوعوده ويهدينا إلى مسالكه. يحلو له أن يتحدث عن غد يقول إنه ملك لجيل آن لغيره أن يتوارى، بينما هذا الجيل المقدام صانع الثورتين، يستلهم من «الأستاذ» صواب الرؤية وسداد الرأى، وخلاصة الخبرة والتجربة. أحسب أننى على دراية بتجربة «الأستاذ» العريضة، وسط لهيب المعارك من الحرب العالمية الثانية إلى حرب الخليج الثانية، وفى بؤرة الأحداث من ثورة 23 يوليو إلى ثورة 30 يونيو، ومع صناع القرار من حسن البنا والنحاس إلى محمد مرسى وعبدالفتاح السيسى. لكنى أسمح لنفسى بجسارة الادعاء بأن المرحلة الأكثر ثراءً وخصباً فى تجربة «الأستاذ»، الصحفى والمفكر والسياسى الوطنى محمد حسنين هيكل، هى تلك التى بدأت يوم 25 يناير عام 2011، ولم تنته يوم 30 يونيو عام 2013. منذ عشر سنوات، كتب الأستاذ هيكل مستئذناً فى الانصراف عن الكتابة، فى وقت كنا نود لو ظل هو يكتب، وانصرف كثيرون دونه من غير استئذان. واليوم، نرجو «الأستاذ» أن يسترد استئذانه، وأن يعود إلينا بقلمه، وندعو الله ونحن نحتفل غداً بعامه التسعين أن يديم عليه الصحة، وأن يحفظه لنا ذاكرة وطن وضمير أمة، ونهراً لا ينضب أبداً. ياسر رزق يوسف القعيد يكتب: «هيكل بقلم هيكل» بدأت مساعد مخبر فى قسم الحوادث.. وتأثرت بتجربة «سكوت واطسون» فى الحرب الإسبانية فانتقلت لـ«العلمين» مراسلاً حربياً لست محتاجاً عندما أقول الأستاذ أن ألحقه باسم محمد حسنين هيكل. ففى مصر الستينيات عندما كنا نقول الأستاذ يعرف القارئ ماذا نقصد دون كتابة الاسم. وعندما نتحدث عن الست فنحن نقصد أم كلثوم. وقبلهما وبعدهما عندما نذكر الرَيِّس فنحن نتحدث عن خالد الذكر جمال عبدالناصر. الأستاذ يكمل يوم 23 سبتمبر عامه التاسع والثمانين ويبدأ عامه التسعين، أمد الله فى عمره حتى يكسر ونكسر معه المائة. احترت ماذا يمكن الكتابة عنه فى هذه المناسبة. ما أكثر ما كتب عنه. وما يمكن أن يقال عن تجربته لا نهاية له. لكنى اهتديت إلى طريقة ربما كانت جديدة. أن أجمع ما كتبه فى كتبه عن حياته «المهنية». وكنت قد قرأت كل كتبه. عندما كنت أستعد لحوارى الطويل معه الذى أصدرته فى كتابى: محمد حسنين هيكل يتذكر عبدالناصر والمثقفين والثقافة «2003».
مستعيدا بيت شعر «أبى فراس الحمدانى» عن الشوق الذى «لا يذاع له سر» جاء صوته من الشاطئ الإيطالى فى «سردينيا»: «أنا قادم إليكم غدا». كان فى صوته شوق قلق لا شوق اطمئنان على مصر وأهلها. شىء ما لاح فى الأفق لنذر مستقبل أقرب إلى دقات «القدر» فى سيمفونية «بيتهوفن» الشهيرة. أنباء وصلته عن حملة تحريض تستعدى بقوائم سوداء ضمت اسمه، وكلام عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيدا حيث اعتاد لعقود طويلة أن يقضى إجازاته الصيفية. خامرته فكرة أنها انفلاتات أعصاب فى أوضاع حرجة قرب فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة»، لكنه استمع مرة بعد أخرى لرجاءات ألحت على التمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة داعية أن يدير دفة طريق عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالى بالقرب من الإسكندرية.. فـ«عند انفلات الأعصاب فلا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث». استقر تفكيره قبل عودته بساعات أنه من الأوفق أن يكون قريبا من الأحداث يتابعها من الساحل الشمالى بعيدا عن العاصمة وكمائن الخطر فيها. عندما يدخل الغرفة مازلت أقوم وأقف.. كما أننى لا أستطيع أن أضع رجلاً على رجل أمامه.. كل صباح يذهب إلى مكتبه بالبدلة والكرافتة.. يحلق ذقنه يومياً.. مازال يسافر بالبدلة والكرافتة لأن حتى السفر له «مقام».. للكلمة أيضاً «مقام»، ولكن اليوم أتحدث خارج «المقام»، عندما رأيت أبى ينهمر فى البكاء
ندما يدخل الغرفة مازلت أقوم وأقف.. كما أننى لا أستطيع أن أضع رجلاً على رجل أمامه.. كل صباح يذهب إلى مكتبه بالبدلة والكرافتة.. يحلق ذقنه يومياً.. مازال يسافر بالبدلة والكرافتة لأن حتى السفر له «مقام».. للكلمة أيضاً «مقام»، ولكن اليوم أتحدث خارج «المقام»، عندما رأيت أبى ينهمر فى البكاء مرتين.
لم أكن قد ولدت عندما توفى جدى ولا أتذكر وفاة جدتى.. المرة الأولى كانت فى نوفمبر 1977، كنا فى الإسكندرية، فى بلاج عايدة بالمنتزه، الكراسى أمام الشاطئ تبتعد 15 متراً عن الكابينة، كان يجلس على أحدها، وكان يستمع للراديو المصرى، وكان المذيع يقول إن طائرة الرئيس السادات تهبط فى إسرائيل يحميها سلاح الجو وطيران الجيش الإسرائيلى (كل كلمة من هذه المقولة تتناقض مع ماعاش من أجله)، انهمر فى البكاء، نهرتنى أمى، وطلبت منى أن «أخش جوه» فى الكابينة. المرة الثانية، عندما توفى عمى «فوزى». كان يعيش فى واشنطن بالولايات المتحدة (وأعتبره واحداً من أهم المفكرين العرب الذين لم يحصلوا على حقهم فى الرأى العام)، وكان منظر النعش وهو عائد على الطائرة إلى المقابر مشهداً إنسانياً تدفقت فيه المشاعر، انهمر فى البكاء، احتضنته.. أستجمع «المقام» ومرت الأيام.
هاآرتس: محمد حسنين هيكل كبير الكهنة.. وفيلسوف العصر.. و«النظام» لا يجرؤ على المساس به
بهذه المقدمة نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، أمس، تقريراً عن مبادرة الكاتب محمد حسنين هيكل لإنشاء «مجلس أمناء للدولة والدستور» ينتقل بمصر إلى نظام سياسى جديد عبر مرحلة انتقالية بإشراف الرئيس مبارك نفسه.
قالت صحيفة هاآرتس فى بداية تقريرها الذى أعده «تسفى بارئيل»، محرر الشؤون العربية بالجريدة، إن «الكاتب محمد حسنين هيكل لا يرتاح لحظة واحدة، ورغم بلوغه الـ86 من العمر فإنه يحاول شد وجه مصر المغضن بالتجاعيد، ويهاجم بشدة سياسات الرئيس حسنى مبارك ، ومسيرة السلام مع إسرائيل، وشكل العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. ويظهر بشكل دائم فى قناة الجزيرة القطرية حتى صار كبير الكهنة الذى يسعى الجميع للتعرف على آخر نبوءاته».
وتضيف هاآرتس: «لا يمكن اختزال مكانة هيكل ووزنه فى مجرد كونه مؤرخاً سياسياً، فهو الرجل الذى اقترب بشدة من الرئيس عبدالناصر، وظل أقوى رئيس تحرير عرفته صحيفة «الأهرام» طوال 17 سنة. ولك أن تقول إن هيكل هو فيلسوف العصر الذى لا يجرؤ حتى النظام المصرى على المساس به، رغم النقد اللاذع الذى يوجهه هيكل لهذا النظام».
الأسبوع الماضى، هز هيكل مصر من جديد، عندما قال فى حوار مطول مع صحيفة «المصرى اليوم» إن جمال مبارك لا يصلح لمنصب الرئيس. وأضاف: «أعتقد أن هذا الشاب ظلم، وتم إقحامه على الناس إقحاماً، حتى واجه مشاعر مقاومة.. ولا يصح طرحه حتى لو كان أكفأ شخص فى مصر، ببساطة ينبغى أن يرد لأن هناك شبهة، فالقاضى حين يحكم فى محكمة فى وجود أخيه يرد نفسه».
وتوضح الصحيفة الإسرائيلية أن: «مصر ستشهد خلال العام المقبل انتخابات برلمانية، وبعد عامين انتخابات رئاسية. ويبدو أن الرئيس مبارك الذى حكم البلاد لمدة 28 سنة متواصلة، لا يعتزم الاستقالة، والاكتفاء برعاية حديقة منزله. بل إنه أكثر نشاطاً من أى وقت مضى. فزادت رحلاته الخارجية، ولم تقل تدخلاته لحل المشكلات الإقليمية.
ومع ذلك فإن قضية مستقبل الحكم فى مصر مازالت تقلق صناع القرار فى واشنطن، وصحيح أن المسؤولين الأمريكان ينكرون انشغال الإدارة الأمريكية بهذا الموضوع، لكن مصادر أمريكية تؤكد أن مستقبل الحكم فى مصر كان ومازال موضوعاً مهماً للنقاش فى المنتديات المغلقة بالولايات المتحدة. خاصة فى ضوء الفشل المتتالى الذى لحق بالأمريكان فى الانتخابات الأفغانية والفلسطينية، والمخاوف من تأجيل الانتخابات العراقية، ومن نتائجها المحتملة.
وهناك فى واشنطن من يخشى من أن تأتى الانتخابات المصرية بـ(نتائج غير مرغوبة)، ويعتقد أن أقل الاختيارات ضرراً، هو بقاء أسرة مبارك على رأس النظام، لا سيما بعد انضمام عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، لسباق الرئاسة، ومنافسته المحتملة لجمال مبارك».
وعند هذه النقطة التى تفرق بين منطلقات واشنطن وتل أبيب فى مناقشة قضية التوريث، ومنطلقات القوى الداخلية المصرية، تنتقل هاآرتس لتحليل مبادرة الأستاذ هيكل، وتقول: «لقد استجاب الكاتب محمد حسنين هيكل لهذا التحدى، وقدم فى الحوار الذى أجرى معه (مبادرة ثورية). واقترح إنشاء (مجلس أمناء الدولة والدستور). لتكون وظيفته وضع دستور جديد للبلاد، وقيادة مصر فى مرحلة انتقالية تعبر بها من النظام السياسى الحالى إلى نظام سياسى جديد».
وتضيف هاآرتس أن هيكل بدهائه اختار الأسماء التى يتشكل منها «مجلس أمناء الدولة والدستور»، ورغم أنه مجلس خيالى من الصعب تشكيله، فإن هيكل حدد، بشكل عملى، من هو الشخص الذى لا يحق له أن يكون الرئيس. وكل الأشخاص الوارد ذكرهم فهموا أن عليهم مواجهة انتقادات هيكل إذا قرروا الترشح لسباق الرئاسة. وعليهم أن يأخذوا فى الاعتبار النقد الذى يوجهه تلامذة هيكل فى الصحف.
ويرسم هيكل، أيضاً، دوراً مهماً للرئيس مبارك، فهو يقترح أن يشرف مبارك على مجلس أمناء الدولة، ويعمل على نقل السلطة للجيل القادم «لتكون تلك آخر وأهم خدمة يقدمها للبلد»، وكأنه يريد أن يقول إن مبارك لم يقدم أى خدمة لمصر حتى الآن. وتنهى هاآرتس تقريرها حول مبادرة هيكل بقولها: «لا نعتقد أن الرئيس مبارك قد يتعامل بجدية مع اقتراح هيكل، لكن الرجل نجح فى إضافة بعد جديد للضجة المصاحبة للمعركة الانتخابية القادمة، وقدم قائمة مرشحين كبيرة تصلح جميعها لتولى منصب الرئيس».
0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعلقك يزيدنا ابداع