يوسف القعيد يكتب وقائع جلسة خاصة جداً مع هيكل

حول مدخل مكتبه لحديقة من الورود، باقات الورد تخطف البصر بعد أن كنا نحدق فى صوره مع قادة العالم، وأماكن الخطر، والتى تعكس رحلته الصحفية.
هذا يوم ميلاده التسعين وباقات الورد الكثيرة أرسلها محبوه وعاشقوه، ومن يحبون الحياة لأن أقدارهم مكنتهم من أن يعيشوا فى زمن هيكل، ويتنفسوا الهواء الذى تنفسه، ويقرأوا ما كتبه ويتابعوا ما قاله عبر التليفزيونات. كنت هناك فى العاشرة صباحاً بالدقيقة والثانية، عبرت القاهرة.. من مدينة نصر حتى الجيزة، ولا يجب أن تنسى أن اليوم كان يوم اثنين. لحظة وصولى كان عنده فى المكتب الدكتور حسام عيسى، المثقف والوجه السياسى قبل أن يكون نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للتعليم العالى، وكان معهما عبدالله السناوى، فهو أول من يحضر وآخر من ينصرف من مكتب الأستاذ. لم أدخل وحدى، فقد كان معى الصديق الإعلامى المتميز، ومن يلعب دوراً سياسياً فى مصر الآن، حسين عبدالغنى، ومن قبلنا ومن بعدنا حمدين صباحى، مفاجأة الانتخابات الرئاسية الماضية، التى أذهلت الجميع ومازال من يومها وجها سياسياً ارتبط بالفقراء والمعدمين وشباب الأمة، باعتباره كان الشاب الأول الذى قال «لا» حين كان طالباً فى وجه السادات وحكمه، ثم جاء شريف عامر، الإعلامى الذى بادره هيكل: لقد سهرنى برنامجك وفوت على موعد نومى، وبعده كان النوم صعباً. ثم جاء أحمد الجمال، صاحب الذكريات الكثيرة مع الأستاذ، ومعه يحيى قلاش الذى لا أراه إلا وأتخيل صورة نقابة الصحفيين، كصفحة مهمة فى تاريخ المهنة، وها هما ياسر رزق، رئيس تحرير «المصرى اليوم»، وعماد الدين حسين، رئيس تحرير الشروق. افتتح الكلام، وختمه، عبدالله السناوى، قال فى البداية: إن مأزق مصر اليوم أنه بعد غياب الإخوان نكتشف أن جبهة الإنقاذ توشك أن تختفى أيضاً، وهذا ضمن حالة الفراغ السياسى التى نعانى منها. لم يشأ هيكل أن يتكلم أولاً، طلب أن يستمع لرأى حمدين صباحى، تحدث مطولاً، وبصوت واضح النبرات، قال: إن جماهير 25 يناير و30 يونيو، وخروجها الذى أذهل الدنيا، يفرض علينا جميعاً الوفاء بالالتزامات المطلوبة تجاهها، لقد أنجزت الجماهير المطلوب منها، على أكمل وجه، ثم انصرفت إلى حياتها اليومية. فى المرة الأولى أسقطنا مبارك، وفى الثانية أسقطنا مرسى، وأبعدنا الإخوان عن الحكم، تركت الجماهير الموقف لتصورها أن لديها نخبة واعية ستقوم باستكمال ما قامت من أجله الثورتان، الجماهير أسقطت الحاكمين، وعلى النخبة بناء البديل، وإن كان إنهاء ما كان موجوداً قد تم، فإنه فى المرتين إقامة الجديد قد لا تكون بنفس القدر من السهولة. لم ير «صباحى» الصورة قاتمة تماماً، استطرد: قرار الحد الأدنى للأجور مسألة شديدة الأهمية، يتعين البناء عليها، وأكمل حسين عبدالغنى: لدينا حزمة من الإجراءات المكملة للحد الأدنى للأجور قادمة، انضم عماد الدين حسين: الحكومة كانت مترددة فى إصدار هذا القرار، ولولا إصرار القوات المسلحة ما كان قد صدر بهذا الوقت. قلت: إن تحديد الحد الأدنى للأجور مسألة مهمة، ولكن آليات التنفيذ قد تكون مشكلة، وإن القطاع الخاص سيناور لعدم التنفيذ، وقد يطلب من الدولة إعانات مالية مقابل الالتزام به، وقد لا تستطيع الدولة ضمان التنفيذ، قال حمدين: كل الإجراءات المكملة وضعت فى الاعتبار، وستنفذ، قلت: كيف يكون هناك حد أدنى للأجور دون أن ينص على حد أقصى، قال حسين عبدالغنى: فى العالم كله، أنظمة تحدد الحد الأقصى بـ35 ضعف الحد الأدنى. تدخل الأستاذ هيكل متحمساً للحد الأقصى، واستطرد: لكن هناك بعض المهن يصعب تحديد حد لأجرها الأقصى، وضرب مثلاً بمديرى الإعلانات فى الصحف القومية الكبرى. الكتل الثلاث قال أحمد الجمال: إن المجتمع المصرى الراهن فيه ثلاث كتل أساسية، القوات المسلحة، التيارات الدينية، ورجال الأعمال بأنيابهم.. وربما بفسادهم، أعرف أن لدينا شباباً قاموا فى 25 يناير و30 يونيو، لكن هل هؤلاء الشباب لديهم ما يستمرون فى تقديمه؟ الوطن فى حاجة إلى من يطورون أوضاعه للأحسن، وليس بحاجة إلى تبشيريين، كفانا تبشيراً، نحن نريد التغيير بشكل جوهرى، وعلى المسؤولين فى العمل السياسى أن يجمعوا الناس حولهم.. ولا يفرقوهم وأن يوفروا لهم فرص العمل من أجل مصر. قال حمدين صباحى: مازالت العدالة الاجتماعية هى الفريضة الغائبة، وإذا لم نحقق التوافق الاجتماعى الاقتصادى، فسنرى موجة ثالثة للثورة. وانتقل «صباحى» لما سماه مسألة الإسلاميين قائلاً: لدينا حوالى سبعة أحزاب إسلامية، تشكل جبهة واحدة، ولا يجب أن ندفعهم إلى التماسك، إن تفتيت هذا التحالف مسألة مهمة وعاجلة، وحذر من أن الكلام عن الإقصاء والمنع سيدفع هؤلاء جميعاً إلى خندق واحد، وطالب بالبناء على تناقضاتهم الداخلية، وهى كثيرة، لكن التضييق مطلوب، فالموقف من السلفيين، سواء داخل حزب النور أو خارجه، يجب أن يكون دقيقاً وقائماً على الوعى السياسى، بعيداً عن الانفعالات العاطفية، حتى الموقف من الإخوان يجب أن نستبعد منه كلمة الإقصاء، لأن العمل الحقيقى يخلو من مثل هذا الكلام. والشباب قضية الشباب أخذت مساحة واسعة من الجدل أثارها يحيى قلاش، ومن كلامه يتضح أن لديه خبرة خاصة بهذا الموضوع، وأنه استطاع دراسته من قبل، قال إن ترك الشباب بهذا الشكل سيجعلهم يندفعون إلى الإخوان، وإلى باقى التيارات الإسلامية، لأنهم دون بنيان ثقافى متماسك، ما يسهل من استقطابهم لهم. وانتقد «قلاش»، و«السناوى» غياب كلمة من حمدين صباحى، تتزامن مع فتح الجامعات أبوابها، باعتباره أكثر الوجوه السياسية شباباً. وقال ياسر رزق: «قضية الشباب غاية فى الخطورة، ولابد من الاهتمام بهم»، وتابع: «نحن مقبلون على مناسبة وطنية مهمة، مرور أربعين عاماً على 6 أكتوبر، وعلينا أن نصنع جسوراً بين الشباب وبين هذه البطولات وأن نستحضرها ونستعيدها من جديد». ودعا «رزق» إلى إعادة أندية الفكر السياسى إلى الجامعات، وإحياء الأسر الطلابية ذات التوجه القومى واليسارى والليبرالى حتى لا يسقط الطلاب الجدد فى براثن جماعات العنف السياسى. ورأى أحمد الجمال أن هناك إيجابيات كثيرة، مازال الشباب هو بطلها، منها حملات مقاطعة المعونة الأمريكية، ورد أموال قطر، قائلاً: «استعاد المصريون أيام عبدالناصر، وعلينا البناء على هذه المواقف، ليتحول الموقف الوطنى كله ضد محاولات محو الإرادة الوطنية للمصريين باسم المعونة». الناصريون يحكمون شريف عامر كان عائداً لتوه من لندن، قال إنه كان يجلس بالطائرة، بجوار مسؤول كبير فى أحد البنوك المصرية، وقال له إن مصر يحكمها الآن الناصريون.. وشرح هذا المسؤول وجهة نظره قائلاً: محمد فائق أصبح رئيساً للمجلس القومى لحقوق الإنسان، وجلال عارف أصبح رئيساً للمجلس الأعلى للصحافة، وقد نكتشف أننا عدنا إلى الستينيات التى كانت تتغنى بالفلاح الذى لم يصدق نفسه عندما اكتشف أن عنده خمسة أفدنة من الأرض الزراعية. الرئيس أولاً قلت إن خريطة الطريق التى أعلنها الفريق أول عبدالفتاح السيسى تنص على انتخابات البرلمان قبل الانتخابات الرئاسية. وهذا خطر على مصر. يجب البدء بانتخابات الرئاسة، لأن وجود رئيس منتخب يسهل «ربط» مفاصل الدولة المصرية، ويجمع الشعب حول فكرة، ومن هذه الحالة يمكن أن تجرى الانتخابات البرلمانية التى يناقشون الآن فى لجنة الدستور هل تكون بالنظام الفردى أو القائمة، ولم يحاول أحد أن يفكر فى النظام المختلط. صباحى وافقنى على أن الانتخابات الرئاسية يجب أن تسبق البرلمانية. وتابع: لو كان فى مصر الآن إرادة سياسية حقيقية لتعين أن يصدر هذا الأمر بمرسوم قانونى. أو حسبما قال الرئيس المؤقت عدلى منصور أن يلحق هذا الكلام بالدستور كأمر انتقالى ولا يتم تطبيقه إلا لمرة واحدة فقط هى هذه المرة. طلب الأستاذ هيكل أن يستمع لرؤية «صباحى» عن المستقبل، بعيداً عن جميع أطروحات الماضى، قال: مهما كان الماضى جميلاً لكن المستقبل يظل قضية تستحق الاهتمام الأكبر. قال «حمدين»: لابد من جهة تضم كل فئات العمل السياسى الوطنى، وتكون القوات المسلحة جزءاً منها باعتبارها من الفصائل الوطنية الفاعلة والمهمة فى مصر الآن وطالب بالإبقاء على جبهة الإنقاذ، وتدعيمها، وخوضها الانتخابات البرلمانية متوحدة، لأن التنافس الانتخابى قد يهدد وحدتها. السؤال الأخير كان من عبدالله السناوى أيضاً. قال لهيكل: فى حوارك مع لميس الحديدى قلت إنك قلق على مصر، فما الذى يقلقك بالتحديد؟ أجاب هيكل: فعلاً، إننى قلق على أحوال مصر، وأول ما يقلقنى هو الحرية التى أخشى أن تصل إلى حدود الفوضى، وذلك أمر خطير، يقلقنى ثانياً حالة عدم التوافق. إن كنا 85 مليون مصرى، ولدينا 85 مليون اجتهاد ورؤية وتصور، وقد يكون التنوع والاختلاف مطلوباً، ولكن لابد من وجود حالة من التوافق العام، وفى إطارها وتحت عنوانها: يمكن أن نختلف، ولكن فى إطار من التوافق. يقلقنى على مصر ثالثاً: عدم وجود تصور للمستقبل، عبر معرفة دقيقة بهموم الناس، وهذا لا يكفى، لأنه لابد من وجود تصور للخروج من المأزق والتغلب على أعراضه من خلال الانتصار للناس ومطالبهم ورؤاهم. كانت الساعة قد تعدت الواحدة من بعد الظهر، وهيكل يتناول الغداء فى الثانية، ومن خطط اليوم أن الغداء عائلى، يجتمع فيه شمل الأسرة معاً: الأب - الذى هو الجد - والأم الكبيرة، وهى جدة الجميع، مع أنها تبدو أصغر من كونها جدة، والأبناء والأحفاد، ابن وحيد سيغيب عن لحظة اجتماع الشمل، فهو وراء البحار البعيدة، هو حسن هيكل، الذى أبكانا بما كتبه - بصدق نادر - عن والده فى «المصرى اليوم» منذ يومين. بقى أن أعتذر لحضور يوم الميلاد عن كل ما سبق كتابة من الذاكرة، وأسجل اللقاء حتى تبقى له تلقائية، وتتوفر لمن تكلموا الحرية فى القول. بمجرد أن تضع جهاز تسجيل وسطهم، أو أن تخرج أوراقك وأقلامك - حتى تستيقظ قرون الاستشعار عند الجميع. ويقوم فى أعماق كل متحدث رقيب يقول له ما يجوز وما لا يجوز، فيفقد الكلام تلقائيته رغم أننا فى مناسبة شديدة الإنسانية لكن الحضور والأستاذ جعلاها مناسبة للاحتفال بمصر فى شخص الأستاذ، وهل هناك تكريم له أكبر من هذا. لقد ذهبنا جميعاً إليه لنقول له: أستاذ هيكل، كل سنة وأنت طيب، كل سنة ونحن طيبون لأننا نعاصرك ونستمع لك، ونقرأ ما كتبته، وما قد تكتبه، لو أنك أعدت النظر فى الاستئذان فى الانصراف الذى أقدمت عليه فى لحظة تعجل قبل عشر سنوات من الآن عندما كنا نحتفل معك ببلوغك سن الثمانين. هلا أعدت النظر فى الاستئذان فى الانصراف، وهذا ليس مطلبى وحدى ولكنه مطلب الملايين من عشاقك ومحبيك؟! .. ونحن فى الانتظار.


عن المصرى اليوم 

http://www.almasryalyoum.com/node/2143201

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعلقك يزيدنا ابداع

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting